بدلًا من بناء نهضة شاملة عن طريق مشاركة جماهيرية واسعة، واستنادًا إلى الذات وتطويرها والاستفادة من كل العلوم والتقنيات العصرية، أو حتى انتزاعها انتزاعًا كما يطرح أصحاب المشروع الإسلامي للنهضة، فإن العلمانية التي حكمت بلادنا منذ قرنين تقريبًا، تعمدت تخريب الذات واستبعاد الجماهير بل وقمعها، ثم اختزلت مفهوم النهضة الصحيح إلى مجرد حداثة، تُعنى باستهلاك السلع الغريبة دون الحصول على البنية الصناعية اللازمة لإنتاج هذه السلع؛ وبذلك بددت الثروات العربية الهائلة في استيراد أحدث المقتنيات والسلع الاستهلاكية، وبعبارة واحدة؛ بددت الثروة وأحدثت انفصامًا في الشخصية العربية.
وفي تطور أخير له ما وراءه، قدمت لنا العلمانية شعارًا جديدًا يكشف عن الكذب والنفاق وإرهاب المصطلح، وهو "العقلانية"، وحولت هذا المصطلح إلى أيديولوجية كاملة لها سماتها، رغم أن العقل والعقلانية والأسلوب العقلي والعلمي والمنطقي أمر لا علاقة له بالأيديولوجية، ولا يمكن أن يشكل أيديولوجية في حد ذاته.
وبديهي أننا لسنا في حاجة هنا إلى أن نؤكد ما هو معلوم من الدين والتاريخ والحضارة والواقع بالضرورة؛ من أن الإسلام دين عقلاني، والحضارة الإسلامية حضارة عقلانية، أو دعوة القرآن الكريم في عشرات الآيات إلى التفكير واستخدام العقل والنظر والتدبر، بل جوهر الحوار القرآني والإسلامي عمومًا مع خصوم يدور حول دعوتهم إلى استخدام العقل، أي أن العقلانية واللاعقلانية محاولة لإخفاء السيئات النظرية والأيديولوجية الغربية تحت مصطلح يخفي معالمها ويروج سُمَّها بيننا.
على أي حال يعترف الدكتور "برهان غليون"، في كتابه "اغتيال العقل": (أن العقل ليس اكتشافًا جديدًا في الثقافة العربية، ولا هو غرة للحضارة الغربية). وكذا يعترف كلٌّ من "زكي نجيب محمود" و"محمود أمين العالم" بأن الإمام الغزالي، وهو عند العلمانيين أسوأ الصور الفكرية الإسلامية وأشدها تخلفًا: (عقلاني النظر إلى أقصى الحدود) [الوعي والوعي الزائف، محمود أمين العالم].
ويقول محمود أمين العالم أيضًا: (فالحق أنني أجد في الكثير مما كتب الغزالي مستوى رفيعًا من النهج العقلاني)، وما دام الأمر كذلك؛ فلماذا تلك الدعوة الغربية حول لاعقلانية التيار الإسلامي، أو لاعقلانية الحضارة الإسلامية، أو لاعقلانية الثقافة العربية؟!
الأمر في جوهره ليس دعوة للعقلانية، بل هو دعوة للبرجماتية في أسوأ صورها وتطبيقاتها، المطلوب هو القضاء على العقل العربي والإسلامي، وبناء عقل جديد يتحرر من كل شيء، ويعود إلى نقطة الصفر، والاعتماد فقط على جزئيات الواقع الموجود، أي الاعتراف بشرعية هذا الواقع، ثم عقلنته.
والواقع هو "إسرائيل" والنظام الشرق أوسطي والإنسان الشرق أوسطي، بدلًا من الإنسان العربي والإسلامي، هو النظام الدولي الجديد؛ اقتصاد السوق، هو البنك الدولي والتبعية، وعقلنة هذا الواقع تحت شعار "العقلانية".
هو أن يصبح عدوي هو صديقي، ويصبح "الإسرائيلي" مثلي إنسانًا شرق أوسطي، ويمكن التعاون في إطار سوق أوسطية تكون "إسرائيل" فيها صاحبة التكنولوجيا والخبرة، ويكون العرب أصحاب الماء والثروات والأرض، ويكون الاقتصاد الوطني جزءًا من الاقتصاد العالمي، أي أن المسألة ليست عقلانية؛ بل انهزامية، وربما أيضًا صهينة وأمركة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: