قد يكون من الطبعي أن يفوت قطار الزواج ممن لا يجدون نِكَاحًا لأي سبب من الأسباب التي تخص كل شخص بعينه، أو لظرف من الظروف الخاصة التي يعيشها أو مر بها، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33].
وقد يكون أحد هذه الأسباب قلة المال، أو فقدان الجمال عند أحدهم أو إحداهن؛ وهذا أمر طبعي، فالناس فيهم الفقير وفيهم الغني، وفيهم من يتمتع بمواصفات معينة يرغبها الناس، وفيهم من لا يحظى بهذه المواصفات، إلا أنه ليس من الطبعي أن تتزايد أرقام من يعانون من تأخر زواجهم مع وجود المال.
ففي مصر كشفت دراسة رسمية أعدها الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع نسبة غير المتزوجين بين الشباب الذين يعيشون في مصر إلى 37%، وأن عدد الشبان والشابات العوانس ـ الذين تجاوزوا الخامسة والثلاثين من دون زواج ـ وصل إلى أكثر من 9 ملايين نسمة من تعداد السكان البالغ 64 مليون نسمة، بينهم 3 ملايين و773 فتاة، وقرابة 6 ملايين شاب غير متزوج.
وأظهر تقرير إحصائي فلسطيني حديث ارتفاعًا كبيرًا في معدلات العنوسة في فلسطين، إذ أشار الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن 39.3% في فلسطين "عوانس"، وهي نسبة كبيرة جدًّا مقارنة مع دراسات أجريت قبل عام 2000، كانت تتحدث عن نسبة لا تزيد عن خمسة بالمائة.
وكشفت دراسة اجتماعية بالسعودية عن وجود مليون ونصف المليون فتاة عانس في السعودية. فما هي الأسباب الحقيقية وراء ازدياد عدد من عُنسوا بهذا الشكل المذهل والمخيف، بل والمرعب؟؟ وحتى نقف على حقيقة الأمر لا بد لنا أن نبين ما يلي:-
1- لقد تم هدم دولة الخلافة التي تطبق الإسلام كاملًا في معترك الحياة، دولة الخلافة التي تطبق أنظمة المجتمع الإسلامي، والتي تشمل الاقتصاد، والحكم والسياسة، والتعليم، والعقوبات، والمعاملات، والبيِّنات، والنظام الاجتماعي الذي ينظم علاقة اجتماع المرأة بالرجل، والرجل بالمرأة، وينظم العلاقة التي تنشأ بينهما عن اجتماعهما، وكل ما يتفرع عنها.
2- تعرضت الأمة إلى غزوة كاسحة، استطاع الكافر المستعمر من خلالها أن ينفث سمومه وحضارته ومفاهيمه الغربية؛ فتغيرت المقاييس عند الناس وتبدلت، وسيطرت المادية والنفعية عليهم، وتمكنت الأعراف والتقاليد منهم وعلى تصرفاتهم؛ مما أدى إلى الكلفة المادية التي لا تُطاق في أغلب الأحيان، كاستئجار الفنادق والقاعات والصالات لاستقبال المهنئين والمهنئات قبل الزواج وبعده مثلًا، أضف إلى ذلك الكثير من تقاليد وعادات الزواج التي يمكن الاستغناء عنها.
3- يسعى الغرب الكافر عدو الأمة الإسلامية اللدود لتحطيم وهدم الناحية الاجتماعية بشكل خاص عند المسلمين، وبكل ما أوتي من قوة، بعد أن هدم خلافتهم، ومزق بلادهم، وجعلهم في ذيل الأمم، وها هم المسلمون اليوم يتعرضون ـ إضافة إلى الحملات العسكرية التي تقودها أميركا ـ إلى حملات فكرية رأسمالية، ومنها حملة تطالب بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، والهجوم المكثف على أحكام النظام الاجتماعي.
فيحارب الزواج المبكر ويزعم أن له أضرارًا على الصحة الإنجابية، ويهاجم تعدد الزوجات الذي شرعه رب العالمين، في الوقت الذي يدعو فيه ويروج ويشجع الحريات الشخصية ويسهل كل طرق الفاحشة، التي تلهج بها وسائل الإعلام المختلفة في كل وقت وحين، وتُعقد المؤتمرات من أجلها، وتُنفق الأموال الطائلة عليها.
مثال ذلك: مؤتمر البرلمانيين الدولي لعام 2006، المعني بتنفيذ برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية: (بيان التزام أوتاوا 2002: نحن البرلمانيين نتعهد، كدعاة عامين ومشرِّعين وواضعي سياسات، بتنفيذ هذه التدابير، وبالقيام بانتظام وهمة برصد التقدم الذي نحققه في هذا الصدد، ونتعهد كذلك بالإبلاغ بانتظام عن هذا التقدم من خلال المجموعات البرلمانية، وبأن نجتمع مرة أخرى بعد عامين لتقييم النتائج التي حققناها، فرديًّا وجماعيًّا على حد سواء.
الخطوط العريضة للمؤتمر:
أولًاـ مبرراته في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي انعقد في القاهرة في عام 1994، اتفق المجتمع الدولي على تخصيص مبلغ سنوي قدره 18.5 بليون دولار بحلول عام 2005 لبرامج السكان والصحة الإنجابية في البلدان النامية.
وكان المفروض أن يأتي ثلثا المبلغ المستهدف من البلدان النامية ذاتها، ويأتي الثلث الباقي من التمويل بواسطة الجهات المانحة الخارجية، ومع أن كلًّا من المانحين والبلدان النامية من المتوقع أن يحققوا أهداف العام 2005 على النحو المحدد في المؤتمر؛ مازالت توجد فجوات خطيرة في تمويل الأنشطة السكانية؛ تجعل من الصعب على البلدان توفير المعلومات والخدمات والسلع اللازمة للوفاء بأهداف المؤتمر بحلول عام 2015.
ثانيًاـ تُظهر الأبحاث الأخيرة أن الأهداف الموضوعة للتمويل قبل عقد من الزمان في القاهرة كانت مقدرة بأقل كثيرًا من القيمة المطلوبة للصحة الإنجابية وفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، وتقدر إحدى الدراسات أن التكلفة السنوية لتلبية الاحتياجات الحالية للأنشطة السكانية هي 45.8 بليون دولار، وهو مبلغ أعلى بكثير من التقديرات الأصلية لعام 1994 (18.5 بليون دولار)، واستنادًا إلى هذه التقديرات سيكون المانحون، في عام 2005، قد خصصوا ثلث الأموال المطلوبة والبلدان النامية نصفها فقط.
ثالثًاـ عانى التمويل لأغراض الصحة الإنجابية، وخاصة تنظيم الأسرة، بشكل ملموس بسبب تحويل الأموال المخصصة للمساعدة السكانية إلى مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، ولا تواكب الأموال المخصصة للصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة احتياجات العدد المتزايد من الأزواج في سن الإنجاب في البلدان النامية.
ومن ناحية أخرى، فإن الأموال اللازمة للتصدي للإيدز لا تزال غير كافية، بالرغم من الزيادات الكبيرة التي طرأت مؤخرًا على التمويل للأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي/فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز.
رابعًاـ بينما تحرز البلدان النامية بصفة عامة بعض التقدم في توفير الموارد المحلية لبرامجها السكانية الخاصة؛ لاتزال أشد البلدان فقرًا تعتمد اعتمادًا كليًّا على المساعدات الخارجية، ولن تتمكن من تلبية احتياجات سكانها ما لم تزد الجهات المانحة دعمها.
ومن التحديات الهامة الأخرى التي تواجه النهوض بجدول أعمال المؤتمر الدولي للسكان والتنمية؛ إيجاد ورعاية بيئة تمكينية في السياق المحلي، وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال اعتماد القوانين والسياسات والبرامج ذات الصلة بالسكان والتنمية وتحسينها.
وقد أُحرز تقدم كبير في هذا المجال في العقد المنصرم، فعلى سبيل المثال 96 في المائة من البلدان التي ردَّت على الاستقصاء العالمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان في عام 2003، وعددها 151 بلدًا؛ أفادت باتخاذها إجراءات لدمج الشواغل السكانية في سياسات واستراتيجيات التنمية...، وستتوقف قدرتنا أو عدم قدرتنا على سد الفجوات القائمة في القوانين والسياسات والتمويل، واستطاعتنا أو عدم استطاعتنا تحقيق برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية والأهداف الإنمائية للألفية بحلول العام 2015 على الإرادة السياسية للحكومات في كلٍّ من البلدان المتقدمة والبلدان النامية، والدعم القوي من جانب البرلمانيين له أهمية كبرى في بناء هذه الإرادة السياسية).
فهذا التدخل وفرض الإرادة السياسية على الحكومات القائمة في العالم؛ يؤدي إلى عدم التوازن، وإبعاد الشباب عن الزواج، واللجوء إلى ما يفرضه المستعمر.
4- سياسة ومناهج التعليم كانت من الأسباب الحقيقية للتعنيس، وذلك من خلال مناهج التعليم القائمة على فصل الدين عن الحياة، والتي تغرس في نفوس الشباب والفتيات أن التعليم يتعارض مع الزواج، ومما زاد الطين بلة؛ أن المراحل التدريسية مطولة ومقطعة بما فيها من إجازات ومناسبات وأعياد ما أنزل الله بها من سلطان يعطَّل فيها التدريس.
فتؤخِّر تخرُّجَ الطالب والطالبة؛ فيأكل الزمن من عمره السنين الطوال، وإذا ما تخرج بدأ بالبحث عن عمل ـ إن وجده ـ وبعدها يشرع في الزواج، إلا أن القطار سار مسافات طويلة، فإن استطاع الشاب أن يلحق القطار فيجد فرصته في الزواج؛ فإن الفتاة فقد فاتها القطار.
5- النظام الاقتصادي المطبَّق في بلاد المسلمين هو النظام الرأسمالي الفاسد؛ مما أدى إلى البطالة والفقر والمديونية ومشكلة السكن المعروفة في ظل النظام الرأسمالي، خاصة في البلاد التابعة لأعدائها الناهبين لثرواتها، وقد شاعت مشكلة السكن هذه في مصر أكثر من غيرها من البلدان.
ورد في ظلال القرآن: (إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن، ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة، في صور آدمية ذليلة، وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف، الذي يصل الأرض بالسماء، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله).
وأما علاج مشكلة التعنيس فيكون باتباع شرع الله الذي شرع أحكامًا كثيرة منها:
أ- حث على الزواج المبكر وأمر به لحصر الصلة الجنسية في سن مبكرة بالزواج، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [متفق عليه، رواه البخاري، (1772)، ومسلم، (2485)].
ب- ونهى عن التبتل (الانقطاع عن النكاح والملاذ إلى العبادة)، فعن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتُّل، وقرأ قتادة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] [الترمذي، (1002)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، (1082)]، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) [الترمذي، (1579)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، (1655)].
ج- حث على تقليل المهور وتيسير سبل الزواج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير النكاح أيسره)) [أبو داود، (1808)، و صححه الألباني في صحيح أبي داود، (2117)]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير الصداق أيسره)) [رواه الحاكم في المستدرك، (2692)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (3279)]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أراد الزواج: ((فالتمس ولو خاتمًا من حديد)) [متفق عليه، البخاري، (4727)، ومسلم، (2554)].
وروى أبو داود والنسائي، واللفظ له، عن ابن عباس أن عليًّا قال: تزوجت فاطمة رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله، ابن بي [وهو الدخول بالزوجة]، قال: ((أعطها شيئًا))، قلت: ما عندي من شيء، : ((فأين درعك الحُطَمِية))، قلت: هي عندي، قال: ((فأعطها إياه)) [النسائي، (3322)، وصححه الألباني في صحيح النسائي، (3375)]، فهذا كان مهر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة.
وروى ابن ماجه أن عمر بن الخطاب قال: (لا تغالوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوًى عند الله؛ كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه وسلم، ما أَصدق امرأة من نسائه، ولا أُصدقت امرأة من بناته؛ أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليُثقِّل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، ويقول: قد كَلِفْتُ إليكِ عَلَقَ القِرْبَة). [ابن ماجه، (1877)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (1887)]، (لا تغالوا: أي لا تبالغوا في كثرة الصداق، وإن الرجل ليُثقِّل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه: أي حتى يعاديها في نفسه عند أداء ذلك المهر لثقله عليه حينئذ أو عند ملاحظة قدره وتفكره فيه) [حاشية السندي على ابن ماجه، (4/141)].
هـ - شرع تعدد الزوجات، قال تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء: 3].
وأما العلاج الجذري لمشكلة التعنيس فيكمن بالإنعتاق من التبعية للغرب، وإيجاد الإرادة السياسية للأمة، بتنصيب خليفة عليها، يطبق عليها الإسلام كاملًا ومنه النظام الإجتماعي، ولن يكون بمقدورنا أن نشرع في تطبيق نظام اجتماعي إسلامي متكامل إلا بعد أن تكون أسس هذا النظام هي نفس الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي عند المسلمين، وهذا يعني ضرورة وجود دولة الخلافة الإسلامية، التي تطبق الكتاب والسنة في الدولة والمجتمع.
فإلى العمل لإيجاد هذه الدولة أدعوكم أيها المسلمون، قال تعالى في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 123-127].
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: