يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده باسم : " فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عزَّ وجلَّ " : ( أول ما أوحى به تبارك وتعالى، أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أولى نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه " فأنذر " فنبأه بقوله : " اقرأ " وأرسله بـ : " يا أيها المدثر "، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة.. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده.. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان. والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم.. فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق، أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية.. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهى أن يصلى عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين )..
* * *
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً، ولكننا لا نملك هنا إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :
السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية، تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبِّدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، كما إنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء.
والسمة الثانية في منهج هذا الدين : هي الواقعية الحركية.. فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين، ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : أن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة.. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.
والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو - منذ اليوم الأول - سواء وهـو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين.. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد فـي خطة مرسومة، ذات مراحل محددة، لكل مرحلـة وسائلها المتجددة. على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " - وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه، أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية، وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه !
* * *
والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام " يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبِّد الناس للناس، وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما.. ومن أجل هذا التخليط، وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : " الحرب الدفاعية ".. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات.
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعاليمن.. ! إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. أو بتعبير آخر مرادف : الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله، وطرد المغتصبين له، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم، فيقـومون منهم مقام الأرباب ويقـوم الناس منهم مكان العبيد.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، أو بالتعبير القرآني الكريم :
{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ].
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ يوسف : 40 ].
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ].
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس !! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة.
وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده.. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لأن المتسلطين على رقاب العباد، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال !
إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان إلوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً.. إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً.. إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان ".. ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
والواقع الإنساني، أمس واليوم وغداً، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية.. وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة.. وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد.
وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات، فإن " الحركة " تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة -.. وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان " الواقع البشري " بجملته، بوسائل مكافئة لكل مكوناته.. وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض.. " الإنسان " كله في " الأرض " كلها.. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى !
إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحريـر الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب !.. إن موضوعه هو " الإنسان ".. نوع " الإنسان ".. ومجاله هو " الأرض ".. كل " الأرض ". إن الله - سبحانه - ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم.. إن الله هو " رب العالمين ".. وهذا الدين يريد أن يرد " العالمين " إلى ربهم، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشـر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر.. وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين. ولقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن " الاتِّباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين " مخالفين لما أمروا به من " عبادة " الله وحده..
أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته فأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغَّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه - أي " عدي " صليب من فضة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية.. { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } (التوبة : 31).. قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم، فقال : " بلى ! إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم ".
وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول الله سبحانه، نص قاطع على أن الاتِّباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض.. الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه، ويعلن تحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله..
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام.. بالبيان وبالحركة مجتمعين.. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبِّد الناس لغير الله.. - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى " البيان " واعتناق " العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان. ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة، أو متلبسة بالعنصرية، أو الطبقية داخل العنصر الواحد !
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته.. ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة ". إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد. فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان.. ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه التجربة ليس معناهـا أن يجعلوا إلاههم هواهم، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد ! وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله !.. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده، وذلك بتلقـي الشرائع منه وحده. ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله. أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله.. إن مدلول " الدين " أشمل من مدلول " العقيدة ". إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة، وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة، ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة.. وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام.
والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح " الحرب الدفاعية " كما يريد المهزومون - أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر - أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير " الإنسان " في " الأرض ".. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة " دفاع "، ونعتبره " دفاعاً عن الإنسان " ذاته، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره.. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات، كما تتمثل في الأنظمة السياسية، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في " الأرض " بالجهاد، ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان..
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي " - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعـدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ؟!
إنها سذاجة أن يتصـور الإنسان دعوة تعلن تحريـر " الإنسان ".. نوع الإنسان.. في " الأرض ".. كل الأرض.. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان !.. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات.. فهنا " لا إكراه في الدين ".. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من هذه الأغلال !
إن الجهاد ضرورة للدعوة، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه، ولا يكفي بالبيان الفلسفي النظري ! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمناً أم مهدداً من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد تلك السلم الرخيصة، وهي مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريـد السلم التي يكون فيها الدين كله لله. أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأواسطها.. ولقـد انتهت هذه المراحل كما يقـول الإمام ابن القيم : " فاستقر أمر الكفار معه - بعد نزول براءة - على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام.. فصاروا معه قسمين : محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه.. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن ( وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة ) وخائف محارب "..
وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام هجوم المستشرقين الماكر !
ولقـد كف الله المسلمين عن القتال في مكة، وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة.. وقيل للمسلمين : { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }( النساء : 77).. ثم أذن لهم فيه، فقيل لهم : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُـونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْـرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِـعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُـوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَـرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج : 39-41).. ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } (البقرة : 190).. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافـة، فقيل لهم : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً }( التوبة : 36).. وقيل لهم : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }( التوبة : 29). فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - " محرماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين "..
إن جدِّية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد، وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه، وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام، وعلى مدى طويل من تاريخه.. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي، ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء، ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود ؟!
لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض، لدفع الفساد عن الأرض :
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً }.. [ الحج : 39 - 40 ]
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: