يمثل مؤتمر بكين الذي انعقد في منتصف التسعينيات حدًا فاصلاً بين مرحلتين من مراحل الاهتمام بقضايا المرأة؛ فبعد بكين حدث تبدل جذري في نوعية القضايا المطروحة للنقاش، وفي طرق معالجتها ونوعية القائمين عليها وأهدافهم ومدى ارتباطهم بالأجندة الدولية المتعلقة بحقوق المرأة، وقد بدا واضحًا أن الإعلام بات يحظى باهتمام زائد باعتباره أحد الأدوات الأساسية التي يمكن من خلالها إحداث تغيير في الثقافة المجتمعية المرتبطة بدور المرأة وحدوده وضوابطه الدينية والأخلاقية، كما أن بمقدور الإعلام أن يمهد لبعض المفاهيم والقيم الوافدة ويجعل قبولها ميسورًا, وذلك باعتماده على عنصر التكرار والإلحاح في تناول الفكرة وعنصر الإبهار البصري الذي يحول دون وقوف المشاهد أمام المدلولات المتضمنة وغير المعلنة التي يحملها المشهد البصري.
مجلات المتعة والتسلية
تكاد تجمع الدراسات المتكاثرة التي ظهرت في أعقاب مؤتمر بكين والمعنية برصد صورة المرأة في وسائل الإعلام (المقروءة والمسموعة والمرئية) أنها جميعًا تقدم صورة سلبية للمرأة, وذلك على اختلاف توجهاتها، وعلى سبيل المثال فإن الدراسات المسحية التي أجريت على المجلات النسائية العربية أكدت أنها تخصص حوالي 75% من صفحاتها للجوانب الجمالية والمظهرية للمرأة: كالأزياء وأدوات الزينة أو المشاكل العاطفية للقارئات مع إغفالها الأبعاد النفسية والداخلية للمرأة, وهكذا يتم تصوير المرأة وكأنها مظهر وشكل جميل دون أي مضمون داخلي، وهذا يدل على أن القائمين عليها على قناعة بأن المرأة تولي الاهتمامات المظهرية والشكلية عناية قصوى على حساب قدراتها الذهنية والفكرية.
وضمن هذا الإطار يمكن أن تدرج بعض المجلات النسائية التي تدعي الصفة الإسلامية – وهي منها براء - وذلك حين تكرّس نفسها لمتابعة أحدث صيحات الأزياء التي لا يمكن وصفها بأنها شرعية، وتتفنن في صنع أشكال متعددة للحجاب؛ فيتحول معها الحجاب إلى رمز للتبرج بدلاً من أن يكون رمزًا للاحتشام والعفاف.
وبرأينا أن تلك المجلات أسوأ أثرًا من المجلات النسائية الأخرى بإشاعتها ثقافة التبرج بين المحجبات مع عبثها بمواصفات الزي الشرعي.
استنادًا إلى هذا ترى الباحثة الإعلامية جوك هيرمز أن هناك عنصرين أساسيين تقوم عليهما الصحافة النسائية على اختلافها وهما: "المتعة" و"التسلية", وهي تذهب إلى حد افتراض أن قراءة إحدى المجلات النسائية ينتج عنها متعة تتساوى مع المتعة المتحققة من تناول قطعتين من الشيكولاتة، معتبرة أنه مثلما لا تنمي المجلة النسائية أفكار المرأة وثقافتها فإن قطعة الشيكولاتة لا تنمي جسدها أو تغذيه.
فضائيات الجسد
أما وسائل الإعلام المرئية فيمكن القول: إنها تصور المرأة بصورة أكثر سوءًا حين تعمد إلى استغلال جسد المرأة وكأنه سلعة في سوق الفيديو كليب، وتفيد الإحصاءات أن ما يقارب من ربع الفضائيات العربية مخصصة للفيديو كليب، ولا يمكننا أن نعثر على أي كليب يخلو من النساء حتى ولو كان المطرب رجلاً، وتعد مساحة العري أحد المؤشرات الدالة على نجاح الكليب وإمكانية تحقيقه جماهيرية.
وهذا التوظيف للجسد النسوي ليس قاصرًا على القنوات الغنائية, وإنما يمتد ليشمل طائفة أخرى من القنوات التي شهدت ظاهرة "المذيعة النجم" القادرة على استقطاب المشاهدين, ليس لمضمون ما تقدمه وإنما لنجاحها في جذب الانتباه، وهي ظاهرة آخذة في الانتشار إلى الدرجة التي دفعت بعض القنوات لأن تستعين بملكات جمال أو عارضات أزياء من أجل تقديم البرامج.
ومع طغيان الجوانب الشكلية لا يمكن الحديث عن عمق في المضمون، فهذه الفضائيات تقدم "المتعة المطلقة" الخالية من أي مضمون ديني أو خلقي أو فكري، وذلك بإفراطها في التركيز على النماذج التي تحقق المتعة للمشاهد كالممثلات والراقصات وتقديمهن باعتبارهن قدوة ومثلاً أعلى، على حين تتعمد تجاهل النماذج الملتزمة دينيًا, والتي استطاعت تحقيق مكانة علمية، وبهذا تخل بالميزان الأخلاقي الذي يحتكم إليه المجتمع وتحدث تشوشًا في المعايير الأخلاقية لدى الشباب خصوصًا.
التركيز على الجسد واتخاذ المرأة أداة للمتعة لا يعد المظهر السلبي الوحيد في تعامل هذه القنوات مع المرأة، فهناك إصرار على تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة على هيئة صراع مفتوح وممتد بين الطرفين، وعلى التعامل مع المرأة باعتبارها كيانًا فرديًا منعزلاً وكأنها لا ترتبط بأسرة أو مجتمع. وهي الاتجاهات التي ترسخت بعد مؤتمر بكين، وتجلت في مراقبة اتحادات المرأة لمضمون المادة الإعلامية للتأكد من خلوه مع ما يتناقض مع الاتفاقيات الدولية بشأن المرأة، ولعل المثال البارز على هذا تدخل المجلس القومي للمرأة في مصر وضغطه على مؤلف مسلسل عائلة الحاج متولي لإدخال تعديلات قسرية تدين مفهوم تعدد الزوجات في الحلقة الأخيرة، ولم يستطع الرجل إلا الإذعان.
ولا يتوانى هؤلاء عن المطالبة بضرورة تخليص وسائل الإعلام مما يسمونه "الأدوار التقليدية للمرأة"، كأن تصور أمًا وأختًا وزوجة ويعتبرونها أدورًا نمطية تكرس لدونية المرأة، وفي المقابل يدعون لإبراز أدوار المرأة العاملة باعتبارها أدورًا عصرية، وليس مشكلاً جوهريًا أن صاحب هذا استغلال لجسد المرأة من قبل وسائل الإعلام؛ إنما المشكل – بنظرهم - تقديم صورة سلبية عن قدراتها العقلية.
في مواجهة الابتذال
وهكذا أضحت المرأة فريسة أصحاب القنوات الفضائية المتاجرين بجسدها من جهة، وأنصار الرؤى النسوية المتاجرين بعقيدتها وقيمها من جهة أخرى، حتى تدنت صورة المرأة في وسائل الإعلام إلى أدنى مستوياتها، ولعل هذا ما استنفر بعض النسوة الفاضلات ممن شعرن بمسئوليتهن الدينية والخلقية في ضرورة التصدي لذلك الإسفاف؛ وتوجهن إلى مدير إحدى الشركات التجارية في القاهرة وهددنه بأنهن سينظمن حملة لمقاطعة منتجه إن لم يقم بتغيير الإعلان الذي تظهر فيه الفتيات بشكل مبتذل للغاية، فقام الرجل من فوره وسحب الإعلان من الفضائيات.
إننا نسوق هذا المثال لنؤكد أن هناك إمكانية للضغط لتعديل موقف الإعلام وجعله أكثر التزامًا واحترامًا، ليس للنساء فحسب وإنما للتعاليم الدينية والأخلاقية، وليس بعيدًا أن تؤدي مقاطعة إحدى القنوات الفضائية ولو لمدة يوم واحد فقط إلى إحداث تأثير إيجابي للغاية في هذا الاتجاه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: