جاءَ دعاةُ التغريبِ يبثون فكرَهم المنحل في المجتمعات الإسلامية والعربية من خلال الإعلام في الصحف وغيرِها ، وللأسف هم مِنْ بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، وذهب بعضُهم إلى الغرب وانبهرَ بحضارتِهِ الزائفةِ ، وفكرِه الهزيلِ ، فأخذ يُجنِّد مَنْ استهوتْه الشياطينُ ، وزعموا أنهم ليبراليون يريدون الحريةَ المطلقةَ ، ويطلبون مِنْ الشعوب الإسلامية التحرر المطلق ، وما كان لأهل التغريب أن يُظهروا أصواتَهم إلا مِنْ خلال سيطرتهم على الإعلام .
وبعد هجمات 11 / 9 / 2001 زادتْ مناداتُهم للحرية المطلقة المنفلتة بلا ضوابط يدعمهم الغرب الكافر ، ومع ذلك لم يحققوا بفضل الله على ما يريدونه في المجتمعات الإسلامية ، فلم يحصلوا على أيِّ احترامٍ مِنْ المجتمع المسلم المحافظ ؛ حيث أيقنَ المجتمعُ بأن هؤلاء مُتَّبِعون للغرب وديكتاتوريون في نفس الوقت ، وتبين جلياً للمجتمع المسلم بأنهم غيرُ صادقين في دعوتهم بغضِّ النظر عن صلاحيتها ؛ لأن المجتمعَ المسلم يجد شعارَ الليبراليين ( الإنسان أولاً ) كما يظهرُ على واجهة الشبكة الليبرالية السعودية وفي ثنايا كتاباتهم ، ولا يجدُ تطبيقاً عملياً منهم لهذا الشعار ، فوجدَ منهم الهجومَ الوقحَ على الإنسانية ، فهذا الشيخ صالح اللحيدان يتعرضُ لأنواع مِنْ الأذى والشتائم وهو إنسان فضلاً عن كونه عالماً مِن العلماء ، وهذا الشيخ محمد المنجد لم يسلمْ مِنْ أذيتهم ، بل غزة بأكملها تُباد ويُباد أهلُها ولم يجدْ المجتمعُ المسلمُ لهم صوتاً في نصرةِ الحالة الإنسانية في غزة فضلاً عن كون أهلها مسلمين ، وليتهم التزموا الصمت ، لكن نجدهم منهمكين في السبِّ والشتم لحركة حماس التي كانت سبباً في وقف العدوان من خلال المقاومة للعدو المحتل ، وإلا لو لم يقاوموا لزادتْ مأساةُ الحالةِ الإنسانيةِ من خلال الاجتياح البري وسيطرة العدو على قطاع غزة ، وهكذا على سياسة سيدهم جورج بوش الابن (( إن لم تكن معي فأنت ضدي )) لكن بوش حقق تصفية الضدِّ بالسلاح والقتل ، وهؤلاء لكونهم لم يملكوا منصبَ بوش فحققوا في الضدِّ السبَّ والشتم ونحوها مِنْ أفعال الأطفال المتأثرين بغيرهم دون فقه لواقعهم ، وفشلوا أمام المجتمع في الانتخابات البلدية فلم يُرشَّح منهم أحدٌ إطلاقاً ؛ لكونهم غير صادقين في دعوتهم ، فإن حريةَ التعبير عن الرأي لا تشمل الإسلاميين في الصحف بحكم سيطرتهم على الإعلام فأين مصداقيتهم حين ينادون بالحرية ؟
وفشلوا في تحقيق أي تقدم يُذكر في المجالات العلمية ، وعذرُهم المتكرر دائماً عند السؤال عن هذه النقطة : لا نملك الإمكانيات التي يملكها الغرب ! ؛ لأنهم بكل بساطة يحملون أفكاراً معلَّبة مسبقة ويحاولون تطبيقها بطريقة فجة في بيئات مختلفة .
ومن فشلهم أنهم لم يستطيعوا إقناع المجتمع المسلم بما يطرحونه من قضايا ، ومن ذلك قيادة المرأة للسيارة ، حيث جاء أحدُ أدعياء الليبرالية وهو ( آل زلفه ) ليقنعَ المجتمعَ بقيادةِ المرأة للسيارة وهو مشروعه الوحيد في المرأة ، وتجده يستدلُ بآياتٍ وأحاديثٍ يزعمُ بأنها تخدمُ مشروعَه ، وهكذا يجدُ الرفضَ من المجتمع المسلم مع أنه يستدل بآيات وأحاديث ؛ لأن المجتمع المسلم يعي حقيقةَ المخوَّل بالاستدلال وتفسير النصوص وهم العلماء المتخصصون في الشريعة ، وإن سُئل آل زلفه عن سر اهتمامه بقيادة المرأة للسيارة مع وجود قضايا للمرأة بحاجة إلى حلٍّ لم يتعرضْ لها ، قال : اسألوا العاملين في المجالات المعنية لتلك القضايا ، ونسي المسكين بأن قيادة المرأة للسيارة ليست من شأنه ، وإنما من شأن ( المرور ) ، وهكذا فقد المجتمعُ الثقةَ في مصداقيتهم ، وشعرَ المجتمعُ بأنهم عصابةٌ إجراميةٌ تريدُ الانحلالَ والضياعَ والفوضى ، وهذه العصابة فاقدة لهويتها ، ويريدون من المجتمع المسلم أن يفقد هويته التي ليست من السهولة أن تُفقد من أيِّ مجتمعٍ فضلاً عن المجتمع المسلم ، فهذا ( ساركوزي ) يصرحُ بإصدار أمر بإغلاق القناة الفرنسية التي تبث بالعربية ، لأنه ببساطة يريد التمسك بهويته ، ولسان حاله يقول : من أراد أن يتابعنا من خلال قنواتنا فيجب عليه أن يتعلم لغتنا ، فإذا كان أهل التغريب لا يلومون مَنْ يتمسك بهويته إذا كان من مجتمع كافر ويلومونه إن كان من مجتمع مسلم يريدُ الحفاظ على هويته فحينئذ وقعوا في المفارقة الغبية التي جعلتهم يفشلون أمام الشعوب الإسلامية ، وكذلك في المجال الأدبي نجدُ أهلَ التغريب لا يتحدثون عن واقعهم المحلي الذي هو أعظم الأدب ، بل يتحدثون عن ثقافة الآخر ، ويكفي شاهداً على ذلك كتاب ألف ليلة وليلة ، وعلى المستوى الاجتماعي لم يستطع أهل التغريب تقديمَ أيِّ نظرية اجتماعية أو أخلاقية كل ما اهتموا به في الحقيقة موضوعات شكلية لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالنظريات الاجتماعية ، وكذلك في جميع المجالات فشل هؤلاء تماماً إلا أن هناك نجاح لهم هزيل ، فقد استطاعوا إنتاج جيل من الشباب مفرَّغاً من الأفكار ، لا يعرفون سوى الاتصال على البرامج الغنائية وإرسال إهداءات الأغاني لفلان وفلانة .. والانشغال بالأغاني مناقشةً حول جمال الأغنية من عدمه .
وإن من أسباب فشل هؤلاء هو لكونهم لا يملكون فكراً مستقلاً يمكن أن ينسبوه لأنفسهم بل استعاروا مناهج وأفكار طُبقت في بيئات ومجتمعات مختلفة تماماً في فكرها وخلفيتها الثقافية عن المجتمعات العربية والإسلامية، وعندما حاولوا التطبيق العملي صُدموا بهذه الحقيقة وهي أن مجتمعاتهم الإسلامية والعربية لم تستطعْ بسهولة أن تتخلى عن الموروث الثقافي الضارب في العمق التاريخي ، ولم تستطع تلك المجتمعات أن تتأقلم مع هذا التلفيق الفكري الذي حاولوا ممارسته على عقلهم الجمعي ، بينما كسب الإسلاميون بكل اتجاهاتهم الجولة ببساطة؛ لأن فكرتهم تسير متفقةً مع الموروث الثقافي والتاريخي للشعوب العربية والإسلامية.
ومن أسباب فشل التغريبيين – أيضاً - هو اصطدامهم بعملاق لم يعرفوا كيف يتعاملون معه وهو ( الإسلام ) ، ولذا فقد احتاروا وتخبطوا وسلكوا عدةَ مسالك ، فمنهم من أعلنها علمانيةً صريحة، وبكل وقاحة أعلن براءته من الإسلام كدين ومنهج للحياة ، ومع ذلك لم يستطيعوا التخلص من عقدة التاريخ واللغة والبيئة ، ومنهم مَن فضَّل العمل بطريقة أخرى وهي محاولة الجمع بين الإسلام والحضارة الغربية ، وسبب ذلك أن جزءاً منهم غير مستعد للتخلي عن الإسلام كفكرة لكنه مستعد تماماً لجعل الإسلام بعيداً كمنهج للحياة أو كدستور للعيش ، وهذا النوع فشل فشلاً ذريعاً في مهمته، والسبب في ذلك أن الإسلام كطبيعة دينية واجتماعية لا يسمح بمثل هذه الازدواجية ، وهم لم يفهموا هذه النقطة في الإسلام ، فلم يفهموا بتاتاً أن الإسلام دين لا يقبل التجزئة أو الحصار في زاوية مسجد أو تكِيَّة دراويش كما هو حال النصرانية وغيرها .
فهم لم يستوعبوا معنى عبارة ( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ) ولوازمها فلذلك وقعوا في المأزق، حيث ضاقوا ذرعاً بالإسلام ، فضاقوا ذرعاً بالإسلام عندما لم يتركْ الشؤونَ السياسية للساسة فقط كما هو حال بقية الأديان ، لكن أعجبتهم فكرة أن الإسلام دين يدعوا للعلم بعكس الكنسية النصرانية ، ووجدوا في الإسلام أشياء أعجبتهم لتوافقها مع الفكر الغربي مثل أن الإسلام دين يدعوا فعلاً للسلام ، لكنهم احتاروا كيف يتخلصون من مأزق أن الإسلام دين يدعو للجهاد ويصنف الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق .!! .
هذا التخبط الذي عاشه هؤلاء بسبب أنهم ليسوا مستقلين فكرياً ،وأن الإسلام الذي هو دين لم يساعدهم في تمرير المناهج الغربية للجماهير المسلمة بل حتى العربية ، وليس لمن يسمون أنفسهم علمانيين أو ليبراليين إلا طريقان : إما أن يأخذوا الإسلام بالكلية ، أو أن يخرجوا من حالة ( النفاق ) ويعلنوا الكفرَ صراحة بكل أمر إسلامي ، لا توجد حالة ثالثة سوى هذا المأزق.
بينما الإسلاميون أثبتوا لجميع المجتمعات وليس للمجتمع المسلم فقط أثبتوا للعالم أنهم قادرون على التصدي وقول كلمة (لا) بأقل الإمكانيات المتوفرة لديهم ، فعندهم شخصية واستقلال .
واستطاع الإسلاميون أن يربحوا وينتصروا في جولاتٍ كثيرة في المنازلة مع العالم الغربي ، فمثلاً كانت هزيمة الروس في أفغانستان على يد الإسلاميين سبباً قوياً جداً لانهيار كذبة ( الدولة العظمى التي لا تقهر ) ، وبضربهم لأمريكا في عقر دارها في الحادي عشر من سبتمبر – بغض النظر عن صحة ما قاموا به – إلا أن الإسلاميين استطاعوا أن يثيروا سخرية الدنيا كلها بالقوة العظمى الأخرى ، وسبب نجاحهم في ذلك هو تحررهم من عقدة الخوف عند منازلتهم لروسيا في المرحلة الأولى ، ولأنهم مستقلون ، وفي أحداث غزة مؤخراً انكشف حقيقة ( الجيش الذي لايُقهر ) وطُرد شر طردة بعزيمة الصامدين المتمسكين بدينهم المتبرئين من الكافرين مع قلة عددهم وعدتهم مقارنةً بعدد الأعداء وعدتهم ، ثم إن بعض الناس من المنهزمين يتهم الإسلاميين بالجنون ، ويقول : هل هؤلاء لايعرفون مدى قوة الدول العظمى والأسلحة النووية وو....الخ حتى يهاجموها في عقر دارها أو لايستسلموا لها إن هاجمتهم ؟ لا فبالعكس ، إن الإسلاميين من أذكى الناس ، واستخدموا ذكاءهم بطريقة خطيرة للغاية حيرت عقول أذكى المحللين الاستراتيجيين والعسكريين وفرضوا قواعد جديدة في اللعبة ، وتتمثل القواعد الجديدة في فكرة : قاومه بما لا يمكنه أن يستخدمه ضدك .
أمريكا تستطيع أن تهزم نظرياً أيَّ قوة في العالم عند توفر شروط معركة تقليدية ، لكنها فشلت تماماً في مقاومة عمل منظم ودقيق قام به أقل من عشرين شخصاً عازمين على تدمير مبنى مركز التجارة العالمي فدمروه فعلاً ، والذي مِن تداعياته حصول هذا الانهيار الاقتصادي لأمريكا .
واكتشف الإسلاميون منذ وقت مبكر أن جيوش أمريكا وأساطيلها يمكن تحييدها في معركة هم يفرضونها على أمريكا ، فنجحوا بكل بساطة .
ولا زلت أتذكر قول الجنرال الروسي اناتولي شابليكوف في لقاء مع إحدى الفضائيات العربية ، وكان يتحدث عن أسامة بن لادن قال : (إن هذا الرجل عسكري خطير للغاية ، لقد استطاع سحب الأمريكان إلى معركة في الوقت الذي حدده هو وفي المكان الذي أراده هو ، وأن تحدد وقت ومكان المعركة نصف الطريق إلى النصر ) . لست هنا في معرض الكلام عن أسامة بن لادن أو غيره – مع التحفظ على ما قام به - لكن الكلام عن أن هذه النجاحات تلاحظها جميع الشعوب الصامتة بكل وضوح ، وهذه الأمور تزيد من توسع المسافة وتُظهر الفرق بين الاتجاه التغريبي الذي ظل يتحدث قرناً كاملاً ولم يفعل شيئاً سوى انتكاسات عربية متلاحقة ، وبين رجل إسلامي أعلن قبل سنين الجهاد على أمريكا ثم نفذ كلامه بدون أدنى خوف أو تراجع .
ومهما حصل من ضعف في إعدادات المسلمين إلا أن تمسكهم بمبادئهم هو النصر الحقيقي ، فالنصر ليس الكسب المادي فقط ، وإنما هو الثبات على المبادئ حتى الموت، ولذلك يقول مفكروا الغرب عن الإسلام والمسلم : العملاق النائم و الرجل المريض ، فيخشون صحوة النائم وشفاء المريض ، بينما هؤلاء التغريبيون ليس لديهم أي تمسك بالمبادئ ، وإنما مع المادة ، فهذا تركي الحمد كان شيوعياً ، لكن لما سقطت الشيوعية ذهب يتلفت يمينة ويسرة إلى أن وجد الليبرالية فأصبح ليبرالياً ، وهكذا كل مَن لم يتمسك بالإسلام عقيدةً ومنهجاً فإنه يعيش الاضطراب والتناقض والحيرة وعدم فرض نفسه على الشعوب ، وصدق الله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) ، وقال تعالى (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) . فهل يفيق هؤلاء ويرجعوا لدينهم الإسلام ؟! أتمنى .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: