دأب أعداء الإسلام من الغربيين والملاحدة ومواليهم من العرب على قصف "الحضارة الإسلامية" باتهامها بالتخلف والعدوانية، وغير ذلك من الصفات التي لا تتفق مع طبيعة هذه الحضارة وتاريخها.
وحتى نخلص إلى الحقيقة، ونحيط بكل أبعادها نرى أن المناقشة الموضوعية تتطلب التعرف ابتداءً على مفهوم الحضارة. وقد تعددت تعريفات الحضارة في كتب التاريخ والسياسة والاجتماع . ومن هذه التعريفات:
1 ـ الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، والحضارة تتألف من عناصر أربعة هي: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون.
ونلاحظ أن "ديورانت" الذي قدم التعريف السابق يستخدم ـ في سفره الضخم: قصة الحضارة ـ كلمتي: الحضارة والمدنية بمعنى واحد. وقد ذكر ذلك صراحة في مقدمة كتابه، فقال: إن قصة الحضارة تعني تاريخًا للمدنية.
2 ـ الحضارة جملة مظاهر الرقي العلمي، والفني، والأدبي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة، وهناك حضارات قديمة، وأخرى حديثة، وحضارات شرقية، وأخرى غربية، والحضارات متفاوتة فيما بينها، ولكل حضارة نطاقها، وطبقاتها وكتابها.
3 ـ الحضارة ـ في مفهومها العام ـ هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودًا أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية.
ويشترك في صنع الحضارة عناصر ثلاثة هي الزمن، أو التاريخ، والعقل، أو التفكير، والإنسان بتركيبه العضوي، وخصائصه البدنية كذلك.
4 ـ الحضارة مجموعة الإنجازات الفكرية، والاجتماعية، والأخلاقية، والصناعية التي يحققها مجتمع معين في مسيرته لتحقيق الرقي والتقدم.
ويركز بعضهم في استخدام المصطلح على الناحية الثقافية، بينما يستخدمها البعض الآخر على أساس أنها سيادة العقل في المجتمع، أما استخدامها فقد شدد على ما تضمنه من التطور العلمي والتكنولوجي، وما يفرزه هذا التقدم من إنجازات في الميادين الأخرى من الحياة.
وهناك تعريفات أخرى وهي ـ في مجموعها ـ تدور في هذا الفلك، وإن كان بعضها يخلط بين تعريفها، وتعريف الثقافة، وهي ـ كما عرفت "الإرث الاجتماعي"، ومحصلة النشاط المعنوي والمادي للمجتمع، وهي ثمرة المعايشة للحياة، والتمرس فيها، والتفاعل مع تجاربها ومراحلها". وبعضهم يعتبرها "إحدى مراحل التقدم في حضارة ما".
وبصرف النظر عن الخلط والتداخل تعتبر الثقافة ـ كمعرفة واسعة مميزة ـ آلية من آليات الحضارة وتقدمها. ومن ناحية أخرى تعتبر ثمرة من ثمرات الحضارة في مسيرتها السديدة المطردة.
والتعريفات السابقة ـ على اختلافاتها الجزئية ـ تلتقي في أن الحضارة تمثل العطاء الإنساني ـ على مدى الأجيال ـ في مجال العلم والاقتصاد، والسياسة، والمعيشة، ونظم الحياة.
وتعريفات الحضارة ـ تأثرًا بالتوجهات الغربية ـ تجنح ـ في مجموعها جنوحًا ماديًّا حادًا، أما الحضارة بالمفهوم الإسلامي ـ وإن اتسعت للعناصر السابقة ـ فتجمع بين المادة والروح، وتجعل الدين ركنها الركين، كقوة فعالة دافعة من ناحية، وكمبادئ وقيم روحية وأخلاقية من ناحية أخرى. فكل حضارة من الحضارات التي مرت بها البشرية ـ كما يقول سيد قطب ـ لم تكن كل قيمتها فيما يراه من نتاج، إنما كان معظم قيمتها فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون، ومن صور وقيم للحياة، وما تركه هذا الاهتداء في شعوره من ارتقاء، وفي ضميره من تهذيب، وفي تصوره لقيم الحياة من عمق، والحياة الإنسانية بوجه خاص، مما يزيد المسافة بعدًا في حسابه، وحساب الواقع بينه وبين مدارج الحيوانية الأولى في الشعور والسلوك، وفي تقويم الحياة، وتقويم الأشياء.
فأما ابتداع الآلات، أو تسخير القوى، أو صنع الأشياء فليس له في ذاته وزن في ميزان القيم الإنسانية، إنما هو رمز لقيمة أساسية أخرى هي مدى ارتقاء العنصر الإنساني في الإنسان، ومدى الخطوات التي يبعد بها عن عالم الأشياء، وعالم الحيوان، أي مدى ما أضاف إلى رصيده الإنساني من ثراء في فكرته عن الحياة، وفي شعوره بهذه الحياة، هذه القيمة الأساسية هي موضع المفاضلة والموازنة بين حضارة وحضارة، وبين فلسفة وفلسفة كما أنها الرصيد الباقي وراء كل حضارة المؤثر في الحضارات التالية حين تتحطم الآلات، وتفنى الأشياء، وحين تنسخها آلات أجد، وأشياء أجود مما يقع بين لحظة وأخرى في مشارق الأرض ومغاربها.
**********
وعلى ذكر الحضارة في الغرب طروحات تتحدث عما أسمته "صراع الحضارات" أو صدامها، وهي في مجموعها تنتصر للحضارة الغربية وتزري بالحضارة الإسلامية، وواقع المسلمين حاليًّا وتوجهاتهم العقدية. ولعل أشهر من تولى كبر هذه الطروحات:
صمويل هنتنجتون، وفرانسوا فوكوياما.
والأول له طروحات ثلاثة، هي بترتيب ظهورها:
1 ـ مقال بعنوان "صدام الحضارات" نشر في صيف 1993م في مجلة فصلية هي مجلة "شئون خارجية" Foreign Affairs.
2 ـ كتاب بعنوان "صدام الحضارات" إعادة صنع النظام العالمي وهو يعد تمديدًا مفصلاً مضخمًا لمقاله السابق.
3 ـ مقال بعنوان "عصر حروب المسلمين" نشر في مجلة "النيوزويك" Newsweek ـ العدد السنوي الخاص ديسمبر 2001م ـ فبراير 2002م.
أما فوكوياما فقد كتب كتابه المشهور "نهاية التاريخ". وآخر طروحاته مقال بعنوان "إنهم يستهدفون العالم المعاصر" نشر بالنيوزويك: ديسمبر 2001م ـ فبراير 2 ص 200.
ولسنا في مقام الرد على هذه الطروحات، ونقض كثير من مضامينها فذلك يحتاج إلى دراسة مستقلة، ولكنها في مجموعها تنم على الحقائق الآتية:
1 ـ فقر الكاتبين في المعارف والدراسات الإسلامية، والاعتماد على استقراء ناقص جدًّا في الخلوص إلى الأحكام، مما أبعدهما جدًّا عن الموضوعية والحياد في معالجة موضوع الحضارات ومسارها وطبيعة العلائق بينها من صدام أو صراع، أو تفاعل، أو تكامل ... إلخ.
2 ـ الوقوع في أخطاء تجافي المنهجية العلمية؛ لأنها لا تعتمد على أساس منطقي، أو عملي كقول هنتنجتون في مقاله "عصر حروب المسلمين".. وبحلول عام 2020م سوف تنخفض حدة الزيادة في عدد فئة الشباب في العالم الإسلامي، وبالتالي فإن عصر حروب المسلمين قد يختفي في أدراج التاريخ، وتتبعه حقبة جديدة تهيمن عليها أشكال أخرى من العنف بين شعوب العالم.
3 ـ التعصب الشديد ضد كل ما هو إسلامي: حضارة، وتاريخًا، وواقعًا، ففوكوياما يتهم الإسلام بالفاشية فيقول في مقاله: "إن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين، فبحر الفاشية الإسلامية يشكل تحديًّا أيديولوجيًا هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية ..." وعنوان مقاله "إنهم يستهدفون العالم المعاصر" يعطي إيحاء قويًّا بأن المسلمين بفاشيتهم وتخلفهم يستهدفون الغرب المتحضر لتدميره، والقضاء على قيمه من حرية، وديمقراطية، وتكنولوجيا.
وبالمقابل ظهر ـ في هذه الكتابات التعصب الشديد للغرب والمسيحية اعتمادًا على مغالطات، وبيانات مبتورة ناقصة.
**********
هذا وقد تصدى الدكتور صلاح قنصوه لنقض الأباطيل، والأغاليط التي وقع فيها "صمويل هنتنجتون" في كتابه "صدام الحضارات" وذلك في تقديمه للكتاب المذكور، فهو يرى ـ ضمن ما رأى ـ أن "ما يصنعه هنتنجتون" في نهاية الأمر، أو يقدمه، هو خريطة جديدة لإدارة الأزمات التي تنتج عن عوامل الصراع الحقيقية.
ويضع "جدول أعمال يغير فيه من مواقع الأولويات للأوضاع الاقتصادية، والسياسية الفعلية، وهو ما من شأنه أن يساهم مساهمة نشطة في تزييف وعي المواطنين في مختلف بلدان العالم، ويفضي ذلك جميعًا إلى صرف الانتباه عما يجري في الواقع العالمي بحيث يتم تحريك الأطراف المختلفة بكفاءة واقتدار لخدمة مصالح بعينها ، بعيدة عن مصالح أوسع لفئات الجماهير سواء في الشرق أو الغرب.
فالكتاب كله تذكير ملح على واجب المواطنين في التشبث بالخصومة بين البشر، حتى يفرغ أصحاب المصالح لشئونهم، وإدارة العالم الممزق. ونظرته في "الصدام الحضاري" ليست أكثر من ثوب قشيب لفكرة أو ممارسة عتيقة جدًّا هي "فرق تسد".
ومن أمثلة التدليس حرص هنتنجتون على اعتبار "الماجناكارتا" عنوانًا للأصولية الغربية، مع أن الذي أصدرها هو الملك "جون" الذي اغتال شقيقه الملك "ريتشارد" ـ قلب الأسد ـ في طريق عودته إلى إنجلترا من الحروب الصليبية المقدسة، وكانت "الماجناكارتا" بيانًا لحقوق النبلاء الإقطاعيين إزاء الملك، وليس للشعب أو العامة نصيب فيها.
ومن مظاهر التعصب ضد المسلمين ما زعمه هنتنجتون في مقاله الأخير بقوله "وعبر العالم الإسلامي ـ خاصة فيما بين العرب ـ يوجد إحساس قوى من الحزن والاستياء والحسد والعدوانية تجاه الغرب، وثروته وقوته وثقافته ...".
وهذا الافتراء الهش ينقضه الواقع التاريخي، وينقضه الواقع المعيش، فالحضارة الإسلامية كانت حضارة غنية متكاملة، وعاش الغرب عالة عليها قرونًا طويلة، كما عاش قرونًا من التخلف تفوق ما كان عليه البدو الأقحاح في العصر الجاهلي ـ كما أن الغرب في القرنين الأخيرين حقق ثراءه بالاستيلاء على أراضي الشعوب الأخرى ونهب ثرواتها مرتكبًا أبشع الجرائم، كما حدث في الأمريكتين، وتسمانيًا، وفضحه مؤلف كتاب "حرب قذرة" وغيره.
صحيح أن المسلمين والعرب يشعرون بالحزن والاستياء والنقمة على الغرب؛ لأنه اتخذ منهم موقف العداء الذميم، وعمل ـ وما زال يعمل ـ على إضعافهم، ونهب ثرواتهم، والتحيز الإجرامي لإسرائيل، والوقوف وراءها والعمل على تقويتها بكل ما يستطيعون.
أما إلصاق تهمة الحسد والعدوان على الغرب بالعرب فيدعو إلى الضحك، ويدخل في نطاق المثل العربي المشهور "رمتني بدائها وانسلت" فهو من قبيل الإسقاط.
وإذا كان المسلمون يرفضون "الحضارة الغربية" كمشروع كامل؛ فلأن هذه الحضارة مجهضة بطوابعها المادية الحادة، مما دفع كثيرين من الغربيين إلى رفض كثير من معطيات هذه الحضارة.
ولكن المسلمين يأخذون منها ما يجدون فيه نفعًا لمجتمعاتهم في الجوانب العلمية بخاصة، فنبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها".
**********
وواضح في هذه السياقة ـ بعد الذي عرضناه ـ أن الغرب أصبح يعتنق اصطلاح "الصدام" أو "الصراع" ، وأصبح يدور على الألسنة والأقلام، وأراد أن ينهي هذا الصراع لمصلحته، فظهرت "العولمة"، والأدق ـ اعتمادًا على الواقع المعيشي ـ أن نسميها "الأمركة"، وهي تعني فرض الحلول الأمريكية والغربية ـ اقتصاديًّا وسياسيًّا، وعسكريًّا، وإعلاميًّا، وتعليميًّا على الشعوب الأخرى، وخصوصًا شعوب العالم الثالث.
ونتيجة لهذه السياسة التسلطية، وهذا السلوك العملي الشائن، أصبحت كلمة "صراع" كلمة مشبوهة، بل متهمة، ورأينا مفكرين مسلمين لهم مكانتهم ينكرون هذا المصطلح، ويستبدلون به أسماء أخرى: فالدكتور محمد عمارة يرى أن البديل الإسلامي "لصراع الحضارات" ليس حالة السكون في علاقات الحضارات بعضها بالبعض الآخر؛ لأن في السكون "مواتًا" ، ربما أفضى إلى التبعية والتقليد اللذين ينتهيان إلى الواحدية والمركزية الحضارية، وإنما البديل الإسلامي لفلسفة الصراع، هو فلسفة التدافع بين الحضارات، وهذا التدافع هو "حراك" اجتماعي، وثقافي حضاري، أي تنافس، وتسابق بين الحضارات.
وشبيه بهذا ما كتبه الدكتور مجدي قرقر، فهو يؤثر "التدافع" على "الصراع"؛ لأن الصراع ـ من وجهة نظره "لا يحتمل إلا معنى واحد، وهو القضاء على الآخر وفناؤه". أما التدافع فيحتمل عدة معان، وهو وسيلة للحياة والحركة، والنمو، وانطلاق الطاقات، وله صوره ودرجاته المتعددة، بداية من الحوار، ومرورًا بالجدل والمناظرة، والمنافسة، والسباق، والمواجهة، والمغالبة، وانتهاء بالصراع أو القتال.