لم يأت حين من الدهر، منذ أن عُرِف ابن عربي، دون أن يكون للرجل مريدوه ومعجبوه وأتباعه.. وذلك أمر طبيعي جداً طالما ظل للتصوف مساحة في عالمنا، وهي مساحة ظلت تمد وتجزر، لكنها بقيت موجودة وبقي في جزء معين منها، مكانٌ لابن عربي..
وابن عربي مختلف عليه دونما شك، والآراء حوله تتدرج من اعتباره (الشيخ الأكبر) إلى (من شك بكفره فقد كفر)!. وقد كفّرته طائفة من العلماء منهم العز بن عبدالسلام وابن حجر العسقلاني وابن كثير وابن تيمية، ونقل عن الإمام الذهبي قوله: «ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص وإن كان لا كفر فيه فليس في الدنيا كفر! »، بل إن السيوطي الذي لم يكفره وانتقد من كفّره عدّه مبتدعا وحرّم النظر في كتبه!..
وبغض النظر عن التكفير أو التبجيل، فإن التيار الإسلامي العام رفض «شطحات» ابن عربي حتى لو لم يكفره من أجلها، وهي شطحات ظلت هجينة عن التراكم الفكري الإسلامي وناشزة عن مجمله، وكان وضوح نشاز بعض هذه الشطحات محرجاً للمدافعين عنه، وقائمة الدفاع تتضمن القول إن الشطحات مدسوسة عليه (كالعادة!) وأنه قال في كتبه أشياء أخرى تناقض هذه الشطحات، أو أنهم يعتذرون عن ذلك بتعقيد لغته وغموضها وبالتالي عدم فهمها كما يجب، والفصل في كفر ابن عربي - كشخص - أو إيمانه أمر لا يخصنا حتماً، بل يخص الذي يعلم ما في صدورنا جميعاً، هذا مع العلم أن الكثير من الطرائق الصوفية السائدة حالياً قد نأت بنفسها عن شطحاته، أو على الأقل عن البعض من مؤلفاته.
إلى هنا والأمر عادي جداً، فلغة الرجل المميزة رغم تعقيدها وغزارة مؤلفاته منحت له مكانة معينة ضمن رفّ معين، له بالتأكيد رواده ومحبوه.
لكن غير العادي إطلاقاً، هو هذا الاهتمام الجديد بابن عربي من قبل تيار بعيد ليس عن التصوف فحسب، بل عن الدين ككل، تيار ظل يدعي العقلانية بمفهومها الغربي الديكارتي الذي لا يؤمن بغير التجربة ومعاييرها الواضحة، لكنه فجأة صار حريصاً على ابن عربي وذوقياته التي لا يمكن إخضاعها لأي معيار ومن أي نوع..
هذا الاستحضار الليبرالي-العلماني لابن عربي تجلّى في كتابات لكُتَّاب ليبراليي التوجه (هاشم صالح، وعبدالوهاب المؤدب، ونصر حامد أبو زيد، وسواهم)، وهو استحضار لا يمكن أن يكون بريئاً البتة، بمعنى أن ابن عربي يبدو هنا غريباً وشاطحاً حتى أكثر من ذي قبل، فقبل كل شيء، فإن انتماء ابن عربي إلى منظومة التصوف، ولو في طرف الغلو والشطط منها، سيكون أمراً مفهوماً داخل هذه المنظومة ككل، أما استحضاره داخل المنظومة الليبرالية، فأمر يشبه إقسار «كارل ماركس» أو «سيغموند فرويد» داخل منظومة الفكر الإسلامي..
والحقيقة أن (شطحات) ابن عربي التي كفّره من كفره من أجلها، هي بالذات ما يريده هؤلاء الليبراليون من ابن عربي المستحضر ليبراليا، أي إن موقفهم هنا لا يشبه موقف المدافعين التقليديين الذين يعتذرون عن شطحاته بهذا العذر أو ذاك، بل في الواقع هم حريصون على (تكريس) هذه الشطحات وتأكيدها، بل والتركيز عليها والدفاع عنها.
ولا شك أن ما يفعله الليبراليون ذكي جداً، فهم يدركون أن القارئ المعاصر لا يملك النفس اللازم لقراءة مجلدات الفصوص والفتوحات، بالذات مع لغة ابن عربي التي تميل إلى الغموض والتعقيد أحيانا، لذلك فهم يقدمون وجبة سريعة معاصرة من ابن عربي تحتوي على انتقاءات معينة مما قال، وهي انتقاءات مدروسة لخدمة منظومتهم الليبرالية، وتجعل من ابن عربي (حلقة وصل) بين تراكم (محسوب في نهاية الأمر على التراث الإسلامي) وبين منظومة غربية يحاول الليبراليون منذ عقود إدخالها إلى العقل المسلم وبوسائل شتى وبنجاحات متفاوتة، ويبدو ابن عربي اليوم وسيلة أخرى من تلك الوسائل، خاصة أن اسمه مدعوم (غربياً) من قبل دوائر عديدة ومؤسسات بحثية ومراكز دراسات.
يبدأ الليبراليون نهجهم هذا بما يعدونه «مسلمة» لا جدال فيها بينما هي ليست كذلك إطلاقاً، ألا وهي اعتبار ابن عربي (قمة نضج الفكر الإسلامي! في مجالاته العديدة من فقه ولاهوت وفلسفة وتصوف وعلم تفسير القرآن وعلوم الحديث واللغة والبلاغة) (أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، ص 24).
هكذا مرّة واحدة وبحسم نهائي يعتبر ابن عربي قمة نضج الفكر الإسلامي في كل هذه المجالات! ما الدليل على كل هذا؟ سيلقمنا أبو زيد بمستشرقين اثنين يوافقانه على رأيه، أحدهما ياباني والآخر إسباني، وما داما ينتميان إلى المنظومة الغربية، فإنه يستغل عقدة نقصنا تجاههما، ويمرر الأمر كما لو كان (متفقاً عليه) بينما هو على الأغلب في النقيض من ذلك.
سيقول أبو زيد أيضا بلا مواربة: «إن استدعاء ابن عربي يمثل طلباً ملحاً بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الثلاثين الأخيرة» (أبو زيد، ص26)، وبعبارة أخرى فإن صورة ابن عربي (المتطرفة تسامحا وبلا حدود) هي البديل عن» صورة الإرهابي حامل البندقية والسكين» (المتطرفة عنفا وبلا حدود أيضا) «أبو زيد، ص 27».. كما لو أن علينا دوما الاختيار بين واحد من الطرفين بلا خيار ثالث مستمد من ثوابت وسط للأمة الوسط..
وهكذا سيتم إعادة إنتاج ابن عربي أو تحضير روحه من قبره في السوق الدمشقية القديمة، في حفلة زار عولمية الملامح من أجل أن ينضم صوته لجوقة المصفقين لها ولقيمها.. (حتى لو قيل ضمن ما قيل أشياء ضد العولمة ذرا للرماد في العيون).
وبين كل ما قاله ابن عربي، سيتم التركيز على أمور دون غيرها، ربما كانت أساسية في تكفيره بالنسبة إلى مناهضيه، لكن هذه المرة ليس لتكفيره، بل باعتباره النموذج الذي يجب ترويجه.
وهكذا سنرى أبيات ابن عربي التي كثيراً ما عُدت سبباً لكفره، تتحول لتصير مُعلَّقة من معلقات الليبراليين الجدد..
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة *** فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف*** ألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني
هذه الأبيات يحتفي بها الليبراليون لأنها ببساطة «تؤدي إلى تحويل الاعتقاد القرآني إلى اعتقاد نسبي عن طريق إعطاء الصدقية لجميع الأديان والاعتقادات الأخرى بما فيها الاعتقاد الوثني» (هاشم صالح، الانسداد التاريخي، ص 171)، « وهو يؤدي إلى المصالحة مع فلسفة التنوير على طريقة سبينوزا وفولتير وروسو»، بل الأكثر من هذا يهلل هؤلاء إلى أن هذا ما دفع «المسلمين المستنيرين! إلى تقبل الرسالة الماسونية! » (هاشم صالح، ص 171).
إذن فالهدف من كل هذا الاحتفاء معلن وصريح: تحويل الاعتقاد القرآني إلى اعتقاد نسبي يضع كل المعتقدات، حتى الوثنية، وأسهل منها الليبرالية، في سلة مقبولة واحدة!.
لكن هذا الانفتاح غير المشروط على كل العقائد الذي نظَّر له ابن عربي، سيكون له فيما كتبه شخصياً شواهد «عملية» مناقضة، فحينما تكون هناك مواجهة عسكرية بين المسلمين وغيرهم تنتهي بهزيمة المسلمين نجد أن ابن عربي (لا يحتمل رؤية الزور وأهله يعزون والدين القويم ذليل، ويحلم بأن يقام دين محمد، ودين المبطلين يزول)، وهو موقف إنساني وطبيعي تماما، لكن الليبراليين هنا يعتذرون لنا، بالنيابة عن الشيخ الأكبر«عن هذا التناقض الذي حول التسامح إلى تعصب» (أبو زيد، ص 71) فمجرد الرغبة بانتصار الإسلام يصبح تعصباً يستحق الاعتذار بالنسبة إلى هؤلاء! ولعل هؤلاء كانوا يفضلون لو أن ابن عربي خرج لاستقبال الغزاة بالورود، بالضبط كما روّجوا للغزاة الجدد ولطريقة استقبال مثلى تحقق عمليا قراءتهم المعاصرة لنظرية ابن عربي في التسامح!.
رؤية ابن عربي للكفر والإيمان، سيتم أيضاً تجييرها لصالح المنظومة الليبرالية عبر الوجبة السريعة دون أن نتمكن من معرفة إن كانت هذه رؤية ابن عربي حقاً، أم أنها القراءة الليبرالية لها، وهكذا «فالكفر بمعنى عدم الاعتراف بوجود إله لا وجود له عند ابن عربي، فالكفر بمعنى إنكار وجود الباري ليس إلا صفة عارضة ظهرت ظهور الشرائع السماوية على أيدي الرسل الذين صدقهم البعض -وكذبهم البعض- ولولا نزول الشرائع ما كان للكفر أن يظهر ولكن ذلك لا ينفي حقيقة أن العالم كله مؤمن في الباطن» (أبو زيد، ص 78).
إذن لا كفر هناك حقاً، حتى المشرك الذي يعبد الأوثان والأشجار والكواكب ليس كافراً حسب هذه المنظومة لأنه «يعبد تجلياً من تجليات الله! ».
ماذا عن الملحد الذي يزعم مطلق الكفر ويرفض الانتماء لأي دين؟.. حتى هذا «مؤمن رغم أنفه» حسب ما تحاول القراءة الجديدة لابن عربي إقناعنا «أي إنسان لا بد أن يكون مؤمناً بشيء ما، بمذهب فكري ما، وهذا في باطنه ليس إلا إيماناً بمجلى من مجالي الحقيقة الإلهية المطلقة» (أبو زيد، ص 19).. حتى الإلحاد، حتى الموقف الفكري الواضح الذي يتضمن الإنكار الصريح لوجود الله - تعالى -يعد إيماناً وفق هذه الرؤية!..
ماذا يريد الليبراليون أكثر من هذا؟
فكل ما سينتجونه، مهما كان بعيداً، بل ومناقضاً ومحارباً للدين وللقيم الدينية، سيكون إيماناً رغم كل النصوص الدينية، بل إن هذا المفهوم سينفي مفهوم الكفر من أساسه رغم تعارض هذا النفي مع القرآن الكريم ووضوح مفهوم الكفر فيه، لكن ستحصره القراءة الليبرالية لابن عربي في هامش ضيق واضح أن ابن عربي لم يقصده، ولكنهم يقوّلونه رغم أنفه (لا مجال للتكفير عند شيخنا، فالخطأ يقع فقط حين يزعم الزاعم أياً كان أن منظوره للحقيقة هو المنظور الكامل والنهائي!) (أبو زيد، ص96).
سيبدو ابن عربي هنا دمية صامتة يحاول الليبراليون عبرها أن يقولوا كل ما يريدون قوله دون أن يتمكنوا من ذلك، بالضبط سيكون وسيلة لشرعنة التفلت الفكري ومن ثم السلوكي باعتباره رمزاً محسوباً على التراث الإسلامي حتى لو كفّره أكثر من خمسين عالما من رموز هذا التراث!..
خلال كل ذلك، سيتضح إلى أي مدى يكون استعداد الليبراليين للتضحية بأبسط مبادئ العقلانية في سبيل تمرير جزء من منظومتهم، فمن أجل أن نروج لابن عربي، سنسكت عن خرافات وترّهات كتبها ابن عربي بمنتهى الجدية مثل لقائه المتعدد بالخضر، وعن بساط طائر.. إلخ، وكلام آخر يستحق قائله أن يرسل إلى مشفى الأمراض العقلية لكي يجد حلاً لمشاكله، لا أن يعد (قمة نضج الفكر الإسلامي)، ولكن العقلانية لا تهم، والتفكير السليم لا يهم، ونبذ الخرافات لا يهم، المهم أن نقبل الآخر، أن نتماهى معه، أن نقبل ما ينتجه من أفكار ولو كانت لا تقبل أبسط ثوابتنا.. وأن نرتكز على ذلك كله على شخص محسوب على التراث الإسلامي..
أمر أخير، لم يكتف أبو زيد بكل ما سبق، بل تجاوز ذلك إلى ذكر أبيات شعرية تغزل فيها ابن عربي بصبي تونسي، وذكر تفاصيل عن ذلك مثل اسم الصبي وعمره ومهنة والده وما يحبه ولا يحبه (أبو زيد، ص 42) وبعد أن ينهي هذه التفاصيل، يذكرنا أن هناك دلالات صوفية عميقة للتغزل بالغلمان ويفوته أن يقول لنا شيئا من هذه الدلالات! هل يمكن حقا فصل هذا بالذات عما يدور في الغرب من حديث عن «حقوق المثليين» وقوننتها، وارتباط ذلك بقدس الأقداس عند الليبراليين «الحرية الشخصية»، وبالتحديد بشق التفلت والانحلال من هذه الحرية؟
هل تكون هذه التفاصيل إلا لإثبات أن الأمر حقيقي، وأن الشيخ الأكبر كان يتغزل فعلا بصبي حقيقي وليس بغلام افتراضي؟ وبالتالي لتمرير موضوع الشذوذ الجنسي ولو بشكل غير مباشر؟
ابن عربي، في حفلة الزار الليبرالية هذه، ليس سوى باب من أبواب المشروع التغريبي، كل ما في الأمر أن الباب هذه المرة «بديكور تراثي»!..
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
23-03-2009 / 07:48:33 ابو سمية
وماذا عن الزندقة بتونس وتناميها
يا اخي الحمامي اولا هؤلاء الزنادقة يحملون تسميات كثيرة حسب المناسبة، فهم احيانا ليبيراليون بمعنى انهم متحررون من اية سلطة غيبية كما يقولن، واحيانا حداثيون حينما يفتخرون بانهم حملة مشعل الالحاق بالغرب وانهم امتداد لتيارات الحداثة الغربية، وهم علمانيون احيانا اخرى، وكما ترى فهذه كلها تسميات براقة لا تحمل تسفيها لهم، ولذلك انا اقول انه يجب وصفهم بما يستحقون بنعوت نابعة من لغتنا ومعبرة عن حالهم، بالفاظ من مثل الزنادقة والمنافقون وغيرها
كتعليق على هؤلاء وخطورتهم، لتعلم ان امرهم منتشر بتونس بشكل كبير، بل ان تونس تكاد تكون الدولة الإسلامية الوحيدة التي يتجرأ فيها هؤلاء الزنادقة على التشكيك في الاسلام والنبي بدون ادنى خشية من عواقب ذلك ، اذ ان احدهم وهو هشام جعيط اصدر منذ فترة كتابا يعلن فيه بوضوح تشكيكه في كون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا ويقول انه مجرد ناقل لتعاليم المسيحية، كما يشكك في عمر النبي حين بعثته وحين موته ويقول عن النبي صلى الله عليه وسلم انه لم يكن اميا وانه لم يكن اسمه محمد وغير ذلك من البهتان، مما كان يفترض ان يقاد على إثره مباشره للمحاكمة، ولكن الموضوع مرّ مرور الكرام لدينا
ثم وقع ان عقد جماعة أخرى من الزنادقة وعلى راسهم عبد المجيد الشرفي منذ ما يقل عن شهر، ندوة فكرية بجامعاتنا التونسية، دعي لها رؤوس الزندقة العرب منهم نصر حامد ابو زيد ومحمد اركون وهم الذين مافتئوا يروجون لمقولة ان الدعوة الاسلامية هي تجربة بشرية تاريخية يجب ان يعاد قرائتها من غير قدسية، وهي ما يعني احالة الاسلام كله لمجرد دعوة بشرية، والقران لمجرد نص ادبي
كل هذا يعقد في بلادنا وبجامعاتنا وفي بلاد الزيتونة والقيروان، من دون ادنى تحرك وصد لهم
ولا حول ولا قوة الا بالله
22-03-2009 / 14:26:25 حمامي
مقال ممتاز و أود أن أشير إلى أمر آخر يتمثل في أن هؤلاء العلمانين ربما يريدون التلبيس على الناس بإستغلال تشابه الأسماء بين النكرة الضال إبن عربي هذا والعالم الرباني إبن العربي بالألف واللام ومن هنا فإن تحصيل العلم التاريخي والشرعي هام جدا وقد يكون واجباً في زمان الفتن هذا حتى ينأى المرء بنفسه عن الشبهات والسلام عليكم.
23-03-2009 / 07:48:33 ابو سمية