على مدى العقدين السابقين أصبحت أفكار وطروحات وممارسات ما يطلق عليه في الغرب الحركة النسوية أو (الفِمِنِزْم) تمثل تياراً قوياً وسائداً في الحياة الاجتماعية والثقافية بل والسياسية، ويجد المتابع هذا الأثر في العديد من دور النشر المخصصة لنشر هذه الأفكار في عشرات الكتب الصادرة للترويج ونشر تلك الطروحات، كما يجده في جمعيات اجتماعية وفكرية نشطة، وفي دوائر ذات نفوذ داخل المعترك السياسي تعمل على تحويل الأفكار والطروحات النظرية إلى واقع عملي فعلي من خلال استصدار القوانين والتمكين الاجتماعي للممارسات النسوية عبر وسائل الإعلام الطاغية التي تشكل الرأي العام.
وبما أن الفمنزم قد أصبحت في الغرب وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص أشبه بالأيديولوجية الفكرية التي وجدت فيها الليبرالية العلمانية تجديداً لدمائها، فقد سرت هذه الأيديولوجية بشكل واضح ومتحمس من خلال مؤتمراتها عن المرأة والسكان والعقود التي كرستها للمرأة والطفل وكانت الصياغة اللغوية مثلاً لوثيقة مؤتمر السكان العالمي الذي عقد بالقاهرة خلال شهر سبتمبر في العام 1994م منشوراً نسوياً خالصاً تجلت فيه - في عباراته وكلماته - معظم دعاوى ومفاهيم تلك الحركة مما مثل وصولاً للأيدلوجية النسوية الغربية إلى مستوى الطرح العالمي، لتكون نمطاً في الأفكار والقيم والعادات والممارسات يراد فرضه وتعميمه في الدنيا بأسرها.
مرجعية هذه الحركة في الغرب:
إن الحركة النسوية في الغرب التي يراد لها الآن أن تصدر إلى العالم كله لتصبح نموذجاً عالمياً، ينبغي أن تفهم في إطار نشأتها الاجتماعية والفكرية والثقافية، وفي إطار الروافد الثقافية التي غذتها، والأوضاع الحضارية العامة التي أفرزتها، ذلك لأن هذا الفهم هو الذي يعصم العقل من الدعوى التي تزعم أن هذه الحركة ليست أيديولوجية نسبية ثابتة في بيئة فكرية واجتماعية معينة وخاصة، بل إنها فلسفة مطلقة عالمية صالحة لكل زمان ومكان، أو هي نموذج مطلق للسلوك البشري بعامة.
والحق أن الفمنزم في هذا التطور تكرر ما حدث للأيديولوجيات الغربية السابقة من ليبرالية واشتراكية وبراجماتية التي طرحت على العالم ليست باعتبارها اتجاهات خاصة بالحضارة الغربية، بل باعتبارها مذاهب مثالية وعالمية ونماذج تطبيقية تسري على كل البشر رغم اختلاف حضاراتهم وعقائدهم.
وهذا الإطار للفهم الذي نلمح إليه معقد ومتشعب، لكن أول وأهم ما يمكن أن يقال عن الفمنزم: إنها على عكس ما يفهم بعضهم في العالم الإسلامي - وهم يريدون من خلال هذا الفهم إحداث نوع من التمازج أو التقارب بين أفكارها وبين التعاليم الإسلامية تحت شعارات مثل تحرير الإسلام للمرأة- ليست حركة تهتم بحقوق المرأة أو توفير العدالة والإنصاف لها فالحديث عن حقوق المرأة والعدالة في تحسين وتصحيح أوضاعها هو حديث جزئي بل لا معنى له في ظل أفكار الفمنزم، ذلك لأن الحقوق والعدالة لا يمكن أن يكون لها معنى بمعزل عن إطار مرجعي وقيمي ومفاهيمي عام، يحدد ماهية تلك الحقوق وطابع العدالة ونوعها، والفمنزم في هذا الصدد لا تعترف طبعاً بأي إطار مرجعي عام في مجتمعها أو حضارتها، بل هي تزعم أنها تحدد وتنشيء إطاراً مرجعياً عاماً جديداً في السياق الغربي.
ومن هذا فالحركة النسوية ليست امتداداً - كما يحاول أن يوحي بعضهم إما بجهل أو بسوء نية - لحركات ظهرت في الغرب خلال القرن الماضي، تريد انتزاع حق التصويت للنساء في الانتخابات، أو حقوق الملكية والتعليم والعمل.
ومن باب أولى فإن الفمنزم لا يمكن أن تكون هناك رابطة أو صلة بينها وبين حركات ودعوات ظهرت في بلدان إسلامية في مطلع القرن الحالي لتنادي بحقوق المرأة في ظل الإسلام، وتطالب بتحسين أوضاعها وفق القيم التي أرساها هذا الدين الحنيف.
إن الفمنزم في جوهرها أطروحة جذرية ترفض أن تدافع عن حقوق المرأة وفق الإطار القيمي الذكري أو الرجالي أو الأبوي السائد كما يصفونه، وهي تسعى في أفكارها إلى طرح إطار مرجعي عام بديل هو الإطار النسوي.
هذه الحركة في إطارها الفكري:
وهنا نصل إلى كنه الفمنزم ووضعها داخل السياق الفكري والثقافي الغربي العام، إنها سعي إلى قلب كل التصورات الاجتماعية والقيمية، بل والأدبية واللغوية التي تسود في الغرب عبر إدخال منظور جديد أو معيار ظل في تصورهم مكبوتاً حتى الآن ألا وهو المنظور النسوي الذي ينبغي أن يعاد تفسير وكتابة كل التاريخ البشري الاجتماعي والفكري وحتى الاقتصادي من منطلقه وباعتماده إطاراً مرجعياً مطلقاً.
والحق إن الفمنزم في هذا لا تختلف عن فلسفات غربية سابقة سعت إلى قلب جذري للمفاهيم والأوضاع من خلال إدخال منظور جديد لرؤية الأمور وتحليلها، ولعل أشهر هذه الاتجاهات هو النزعة الإنسانية (الهيومانزم) التي سادت ما يسمى بعصر النهضة في أوروبا وأحلت الدنيوي (أو العلماني) محل الديني، أو الليبرالية التي أحلت البورجوازي محل الأرستقراطي محوراً للتفسير، أو الماركسية بإرجاعها كل الأمور البشرية إلى المعيار المادي الاقتصادي...
إلا أن الفمنزم تزعم لنفسها تميزاً في هذا الصدد فكل الحركات السابقة - كالبراجماتية أو الفلسفات الوجودية مثلاً - كانت تغيرات جذرية في المنظور، ولكن داخل إطار قيمي مرجعي أعلى واحد لم يتغير هو الإطار الذكري، أما الفمنزم فتعتبر محاولة تتجاوز كل محدوديات الفلسفات السالفة الذكر في أنها تغير وتبدل الإطار العام الذي حكم تلك الفلسفات.
ولكن رغم هذه الدعوى العريضة فإن الدراسة السريعة لمحتوى أفكار الفمنزم تكشف عن أنها استعادت وأخذت بشكل انتقائي من أفكار تلك الفلسفات الذكرية الطابع، بحيث يمكن القول بأنه لولا تلك الفلسفات لما نشأت الفمنزم، وأنها تمثل امتداداً للسياق العلماني العام الذي هيمن على الفكر والحضارة الغربية منذ عصر النهضة، فعلى سبيل المثال أخذت الفمنزم من الليبرالية ذلك الإحساس المفرط بذاتية الفرد الإنساني منعزلاً عن السياق الاجتماعي والديني، وإن كانت قد صبت هذا الإحساس على المرأة وليس الرجل، وأخذت من الماركسية بعض الشعارات الثورية وتحليل الاستغلال الاقتصادي مع تطبيق هذه المصطلحات والتحليلات على المرأة في الغرب وليس على الطبقات الاجتماعية وأشكال الإنتاج المادي، وأخذت من بعض مدارس التحليل النفسي مفاهيمها في نشأة الهوية الجنسية وتطورها، ولكنها طورتها لكي تتخذ منها مبرراً للدفاع عن مفهوم استرجال المرأة وتخنث الرجل، مما يمهد لظهور جنس ثالث يخرق كل المواصفات المستقرة حول طبيعة كل من الرجل والمرأة، وأخذت كذلك من فلسفة نتشه وبعض الفلسفات المعاصرة كالبنيوية والتفكيكية مبدأ النسبية وتحطيم المطلق لكي تتوصل من ذلك إلى نسف وهز الأسس الفكرية للمجتمع الذكري كما تسميه، تمهيداً لإنشاء وإقامة طروحاتها التي تريدها أطراً مطلقة، مهيمنة وسائدة.
محددات أخرى للموضوع:
وإذا كانت العلاقة مع الفلسفات الغربية الكبرى تحدد موقع الفمنزم الفكري من خلال آليات المعارضة والاستعارة والامتداد المقلد، فإن محددات أخرى لهذه الأطروحة لا يجب إغفالها لاسيما وأن هذه المحددات خاصة بالتجربة الغربية العقائدية والحضارية، وأنها هي التي ترسم للفمنزم مجالها الخاص باعتبارها أيدلوجية غربية بحتة لا يجب ولا يمكن أن تمتد لتطرح باعتبارها رؤية عالمية شاملة لكل البشر، فمن هذه المحددات تصور الفكر الغربي العام للمرأة ذلك التصور الذي حددته الفلسفات اليونانية والكنائس النصرانية والمفاهيم اليهودية ثم نقحته الأفكار الإنسانية العلمانية، ومن هذه المحددات الكبرى وضع المرأة الاجتماعي والاقتصادي على امتداد القرون وما شابه في القرون الأخيرة من مشكلات مع تعقد أنماط الحياة الغربية بفضل الثورة الصناعية ونتائجها.
وجلي أن هذه الفلسفات والقيم والأوضاع تختلف اختلافاً جذرياً ونوعياً عن مثيلاتها في الإسلام وفي خبرة المجتمعات الإسلامية التي حددت أوضاع المرأة، وحتى لو تقبلنا الطرح القائل بوجود مشكلة للمرأة أو قضية للمرأة في إطار المجتمعات الإسلامية، فإن الحقيقة تبقى أن هذه المشكلة والقضية تختلف في تكييفها عن مشاكل وقضايا المرأة في الوسط الغربي، كما تختلف في الإطار القيمي الذي تطرح من خلاله، والحلول التي يمكن أن توجد لها في ظل هذا الإطار كما نجده في الغرب.
لقد طرحت الفمنزم نفسها في البداية استجابة ومخرجاً من الأوضاع التي تحكم حياة المرأة الغربية في الأوقات المعاصرة، ورداً على ما حللته بأنه ظلم المفهوم اليوناني - الروماني - النصراني الذي ظل يحدد كيان وهوية المرأة على مدى حياة الحضارة الغربية، وهي في هذا أوحت في الفترة المبكرة بأنها امتداد - وإن كان جذرياً - لبعض الحركات النسوية السابقة التي دعت إلى تحرير أو انعتاق أو حقوق المرأة في بعض النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ولكن مع تطور واتساع الحركة فكرياً، وتزعم بعض العناصر اليهودية والراديكالية لطروحاتها، ظهرت أبعاد الفمنزم الحقيقية التي ألمحنا إلى طرف منها فيما سبق، كما ظهر طابعها العنصري الذي يتخذ من معاداة الرجل محور الانطلاق الأساس، ويشعل نيران الحرب العنصرية بين الرجال والنساء في حرب مستعرة لا ترضى بأقل من إخضاع الرجل -الذي يعامل في الفمنزم كجنس مطلق وشرير- وتغيير طبيعته لكي يكتسب الأنثوية الرقيقة المستسلمة في الوقت الذي تسيطر فيه المرأة باعتبارها هاجساً مطلقاً بعد أن تكتسب خصائص الاسترجال والذكورة مثل القوة والشراسة والهيمنة.
هذا هو الهدف الأسمى للفمنزم أو الفردوس الأرضي الموعود كالفردوس الماركسي للبروليتاريا، وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف الطوباوي وضعت المفاهيم الجذرية للعلاقات بين الجنسين، واستعيرت الأفكار التي تنسف المطلق وتروج للنسبية، ونشطت عملية قلب وعكس القيم تحت دعوى الانطلاق من المنظور النسوي في مواجهة الذكري.
الفمنزم أيدلوجية تغريبية مقصودة:
انتهت الفمنزم في الغرب - أو كادت - منذ سنوات باعتبارها حركة فكرية نشطة، ولكنها مع هذا الموت أو التجمد الفكري بقيت مترسخة هناك باعتبارها مذهب أو أيدلوجية لها أتباع، وارتبطت بمصالح مادية وإعلامية وسياسية، وتيارات اجتماعية تعادي الأديان والعقائد وتروج للإلحاد والإباحية والشذوذ الجنسي.
وكما هو الحال بالنسبة للفلسفات الغربية السابقة التي تحولت إلى هذا المصير، بدأت الدوائر الحاكمة ذات النفوذ في البلدان الغربية الكبرى تنظر إلى الفمنزم على أنها سلاح أيدلوجي ضد الخصوم والقوى الحضارية التي يتوجس الغرب منها، وبدأت الفمنزم أداء هذا الدور في الثمانينات أولاً ضد الماركسية الثورية، ولكن بعد انتهاء قوة الشيوعية ظهر دورها الأساس في المرحلة الحالية سلاحاً فكرياً يواجه قيم وتعاليم ومفاهيم وتصورات الإسلام.
ومن هنا بدأ طرح الأيدلوجية النسوية من خلال منابر الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، لتجد طريقها إلى ما يسمى بدول العالم الثالث ومعظمها في الحقيقة دول إسلامية، بل إن هذه الدول بالذات هي المستهدفة خصيصاً من ترويج وفرض هذه الأيدلوجية باعتبارها نموذجاً اجتماعياً سلوكياً يراد له أن يسود ليدمر قيم الإسلام وممارساته وسلوكياته.
ولكي تؤدي الفمنزم دورها بشجاعة شكلت منها - كما حدث مع الفلسفات الغربية السابقة التي صدرت إلى العالم - نسخة تصديرية تشبه تلك النسخ التصديرية من أنواع السلاح أو الآلات المتقدمة التي لا يصدرها الغرب إلى البلاد الإسلامية إلا بعد أن يدخل فيها تعديلات تسلب منها فعاليتها التقنية وإن بقيت على شكلها الخارجي البراق والمتقدم، والنسخة التصديرية للفمنزم نزعت منها دعاوى الشذوذ الجنسي واسترجال المرأة، وتخنث الرجل وقلب الأدوار وإعادة تفسير التاريخ من المنظور النسوي في مواجهة المنظور الرجالي، وهذه النسخة صيغت في قالب الدعوة التي ألفها المسلمون من حقوق وحريات و إنصاف للمرأة، لكنها في الواقع بقيت في الجوهر محتفظة بهذه المفاهيم الأصلية لها بحيث إذا تساءل إنسان عن نوعية هذه الحقوق والحريات والإنصاف المطلوب للمرأة في ظل الفمنزم في نسختها التصديرية بإشراف الأمم المتحدة، لوجد أنها تكمن في الحرب العنصرية ضد الرجل وفي استهجانه، وإبعاد الهداية الدينية والتوجيهات الإسلامية، وفي عكس الأدوار وصولاً إلى مجتمعات وثنية شائهة تشبه مجتمع قوم لوط.
أختي المؤمنة هذا ما يريدون!
ومن هذا الإطار نفهم أن ما يحدث الآن مع الفمنزم في العالم الإسلامي هو بالضبط ما حدث مع فلسفات سابقة في إطار عمليات الإمبريالية الثقافية والغزو الفكري والإلحاق والتبعية وتغريب وعلمنة المسلمين بالكامل ومحو هويتهم، فالتصدير والفرض للأيدلوجية النسوية من خلال آليات المنظمات الدولية والمعونة الغربية، يحدثان كما حدثا من قبل مع الماركسية والليبرالية، والمروجون أنفسهم من العملاء الذين يوصفون بالمفكرين والكتاب الذين يدعون أن الفمنزم حل سحري جديد، يروجون كما سبق أن روجوا للفلسفات الغربية الأخرى، والانبهار نفسه والاستخذاء الذي حدث مع المذاهب الفكرية السابقة الوافدة من الغرب يظهر الآن مع الفمنزم حيث نسمع عن اتجاهات للتلفيق والمواءمة تستعير من مصطلحات وشعارات الفمنزم ما تحاول أن تضفي عليه الطابع والمفهوم الإسلامي.
وأصبحنا نقرأ كتباً عن تحرير المرأة المسلمة لا بتعاليم ومفاهيم الإسلام الواسعة المرنة والإنسانية، بل من خلال أطر الفمنزم المرجعية لتصبح المرأة المسلمة مجرد نسخة من امرأة الفمنزم المشاكسة العدوانية المحاربة لجنس الرجال، والتي قد تقبل من الإسلام ما تراه يكرس لها حقوقاً لكنها ترفض منه ما ترى أنه واجبات تكبلها، والمشكلة الأساسية وراء كل ذلك أن الفمنزم تحولت من أيدلوجية غربية خاصة ذات سياق معين ومحدد إلى برنامج وخطة عمل تطبيقية يراد لها أن تطبق على المسلمين لتحل محل دينهم، كما يراد لها أن تطبق بشكل مطلق وعام.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: