من القضايا المُهمّةِ التي شغلتْ حيّزاً كبيراً في الفكر ِ الإسلاميِّ المُعاصر ِ ، قضيّة ُ الموقفِ من النصِّ والتراثِ والنظر ِ في قضيّةِ الخطابِ الدينيِّ والدّعويِّ ، ويكثرُ الكلامُ عن هذه القضيّةِ الشائكةِ في الأزماتِ الفكريّةِ أو الصراعاتِ الحركيّةِ ، التي تُحاولُ استمدادَ شرعيّتها من النصوص ِ المُباشرةِ ، أو من مواقفَ تأريخيّةٍ مشابهة ً ارتبطتْ ببعض ِ العلماءِ والمُصلحينَ .
وهناكَ فئة ٌ من المُتابعينَ للصّراعاتِ الفكريّةِ المُعاصرةِ ، تجهلُ حقيقة َ الصراع ِ في هذهِ المسألةِ ، وذلكَ أنَّ الصراعَ في قضايا ما يُسمّى بالموقفِ من النصِّ وإعادةِ قراءتهِ ، أو الخطابِ الدّينيِّ وتجديدهِ ، له جذورٌ تأريخيّة ٌ في عصورِنا المتأخّرةِ ، وأخرى فكريّة ٌ .
فمن ناحيةٍ تاريخيّةٍ : يعودُ النظرُ فيها إلى بدايةِ الاتصال ِ المباشر ِ للعالم ِ الإسلاميِّ بالحضارة ِ الغربيِّةِ ، حدثَ ذلكَ - تقريباً - قبلَ ما يزيدُ على قرنين ِ ، حينَ بدأت تفِدُ على أوروبا إرسالياتٌ من دول ٍ إسلاميّةٍ ، بغرض ِ الدراسةِ والتعليم ِ ، بينما كانتْ أوروبا تعيشُ فورة َ الحركاتِ التجديديّةِ والمدارس ِ الفلسفيّةِ والنقديّةِ ، وكذلك تعيشُ انفجار َ الثورةِ الصناعيّةِ ، وتشكّلتْ من هذه المجموعاتِ التي خرجتْ فئاتٌ تأثروا بالنمطِ الغربيِّ ، وكان بعضُ هؤلاءِ في بدايةِ أمرِهم من أهل ِ الدّيانةِ والمُحافظةِ ، فتغيّروا في الاتجاهِ الآخر ِ تغيّراً كبيراً ، وكوّنوا لاحقاً تيّاراً تغريبيّاً ، ساعدتِ الظروفُ الاستعماريّة ُ على تقويّتهِ ومدِّ نفوذهِ في المؤسّساتِ الحاكمةِ .
ومن المُهمِّ هنا أن أشيرَ إلى ما أشارَ إليهِ روجيه جارودي في كتابهِ " وعودُ الإسلام ِ " حينَ ذكرَ أنَّ الغربَ في عمومهِ سعى إلى تشويهِ صورةِ الإسلام ِ وتعاليمهِ ، فلم يكتفِ باستعمار ِ الأرض ِ ونهبِ الخيراتِ ، بل زادَ على ذلكَ أنّهُ هدمَ معالمَ الدّين ِ الإسلاميِّ ، ولم يسعَ إلى المُصالحةِ معهُ أو إزالةِ القطيعةِ بينهما ، أو حتّى فهمهِ بنزاهةٍ ، وهذا ما أدّاهُ إلى تقويةِ نفوذِ التغريبيينَ داخلَ العالم ِ الإسلاميِّ ، إمعاناً منهُ في الحربِ على الإسلام ِ وقصداً لتشويههِ عن صورةِ الحقّيقيّةِ .
وأمّا الجذورُ الفكريّة ُ : فقد تأثّرَ بعضُ الطلبةِ بما يوجدُ لدى الغربِ من الحضارةِ والحداثةِ ، في شقّيها : الماديِّ والفكريِّ ، ونظروا في الظروفِ التي أدّتْ إلى هذه الحداثةِ ، وفي طريقةِ تكوّنها ، فأعجبوا بالنهج ِ الغربيِّ ، ورأوا ضرورة َ نقل ِ تلكَ الفكرةِ إلى العالم ِ الإسلاميِّ ، وبما أنَّ أساسَ المنهج ِ الأوربيِّ كانَ التحرّرَ من القديم ِ ، وقيامَ حركاتٍ ومناهجَ تصحيحيّةً، تقومُ على أساس ٍ ماديٍّ تجريبيٍّ ، فقد تطوّعوا بنقل ِ الأفكار ِ الغربيّةِ إلى العالم ِ الإسلاميِّ .
كانَ هذا العصرُ يمثّلُ نكسة ً خطيرة ً للكثير ِ من المفكّرينَ والدارسينَ ، إذ سقطَ عددٌ منهم في مُستنقع ِ الحضارةِ الغربيّةِ وانهزمَ إليها ، وأصبحَ لا يرى حاضراً أو مجداً أو تقدّماً إلا بتلكَ العين ِ الغربيّةِ ، وهذه الهزيمة ُ النفسيّة ُ تلاها هدمٌ لأغلب ِ القيَم ِ والأصول ِ الشرعيّةِ ، تحتَ حُجّةِ التغيّر ِ والصيرورةِ ، وكانتِ النتيجة ُ أنَّهُم أخذوا يُقرّرونَ أن لا ثباتَ لأمر ٍ من الأمور ِ مُطلقاً ، وجميعُ الأمور ِ قابلة ٌ للتغيير ِ أو الإزالةِ ، والتغيّرُ الذي يبحثون عنهُ كانَ دائماً باتجاهِ الحضارةِ المادّيةِ الغربيّةِ ، وما اشتملتْ عليهِ من العلوم ِ الإنسانيّةِ ونحوِها .
وهذا ما يؤكّدهُ ابنُ خلدون ٍ بقولهِ في المقدّمةِ : " والمغلوبُ مولعٌ أبداً بالاقتداءِ بالغالبِ في شعارهِ وزيّهِ ونحلتهِ وسائر ِ أحوالهِ وعوائدهِ " ، وقد صدقَ النبيُّ الكريمُ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - : " لتتبعُنَّ سَننَ من كانَ قبلكم ، حذوَ القذّةِ بالقُذّةِ ، حتّى لو دخلوا جُحرَ ضبٍّ لدخلتموهُ معهم " ، والحديثُ في الصحيح ِ .
ولم يكنْ هذا أوّلَ العهدِ بالنظر ِ في قضيّةِ النصِّ ، بل سبقَ ذلكَ في القرن ِ الثاني الهجريِّ ، عندما نشأتِ الطوائفُ المنحرفة ُ كالجهميّةِ والمُعتزلةِ والأشاعرةِ ، والتي تعاملتْ مع النصِّ تعطيلاً تارة ً وتأويلاً أخرى ، وهذا نوعٌ من نقد النصِّ ، أو ما يُسمّيهِ بعضُ المفكّرينَ المُعاصرينَ : المرحلة َ الأولى لتطوير ِ النصِّ وإعادةِ قراءتهِ ، وهم يُريدونَ بهذا إضفاءَ الأصالةِ على طرحِهم ، والبحثِ عن جذور ٍ تاريخيّةٍ تؤكّدُ فكرتَهم .
ومن هنا بدأ الصراعُ في العالم ِ الإسلاميِّ حولَ القديم ِ والجديدِ ، وحولَ المحافظةِ والحداثةِ ، والتّراثِ والأصالةِ .
وفي بدايةِ القرن ِ الماضي اجتاحتِ العالمَ الإسلاميَّ حمّى سُمّيتْ حمّى النقدِ الذاتيِّ والمُراجعةِ الداخليّةِ ، بعدَ أنَّ عاشَ العالمُ الإسلاميُّ فوضى فكريّة ً عارمة ً ، حينَ انتشرَ الإلحادُ وسادَ التغريبُ المكشوفُ والتبعيّة ُ المفضوحة ُ للغربِ ، بل والعمالة ُ الصريحة ُ التي أبداها بعضُ المفكّرينَ إذّاكَ للمُستعمر ِ وقواهُ - طه حسين ، أحمد لطفي السيد ، علي عبدالرازق ، وآخرون - ، ممّا أدّى إلى فضحِهم وسقوطِهم من أعين ِ النّاس ِ ، وبدأ بعدها الأمرُ يأخذ ُ طابعَ التنظير ِ والبحثِ العلميِّ المُتجرّدِ ! ليكونَ أدعى للقبول ِ ، ويمكنَ تمريرهُ تحتَ غطاءِ النقدِ الذاتيِّ والمراجعةِ الداخليّةِ ! .
فظهرتْ مجموعة ٌ من الدراساتِ والمشاريع ِ النقديّةِ ، كانَ الغرضُ منها في ظاهرِها هو الخروجُ من مأزق ِ التخلّفِ والجمودِ الذي يُعاني منهُ العالمُ الإسلاميُّ ، في كافّةِ مجالاتهِ ، المادّيةِ والإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ ، وقامَ أصحابُ هذه المشاريع ِ باستقراءِ الواقع ِ في بلدانهم ، وقارنوا بينها وبينَ ما تعيشهُ الدّولُ الغربيّة ُ من التقدّم ِ والحضارةِ ، خلصوا بعدَ ذلكَ إلى نتيجةٍ واحدةٍ وهي أنَّ سببَ تخلّفِ العالم ِ الإسلاميِّ هو الحالة ُ الثقافيّة ُ والفكريّة ُ المُتخلّفة ُ التي يعيشُ فيها ، والتي شكّلتْ ما يُسمّى " بُنية العقلَ الإسلاميِّ " .
وهذا العقلُ الإسلاميُّ تشكّلَ من خليطٍ هائل ٍ من المعلوماتِ والمعارفِ المُتراكمةِ ، وبحسبِ رأيهم فإنَّ أغلبَ هذه المعارفِ أصبحَ غيرَ نافع ٍ للعصر ِ الحديثِ ، بل ذهبَ بعضُهم إلى أنَّ المعارفَ المُشكّلة َ للثقافةِ العربيّةِ المعاصرةِ ، هي ممّا يُعيقُ التقدّمَ ، ويقفُ حائلاً دونَ الحضارةِ .
وكانَ المكوّنَ الأبرزَ للثقافةِ في العالم ِ الإسلاميِّ هو التُراث ُ الإسلاميُّ ، ويأتي على رأس ِ التُراثِ : النّصوصُ الشرعيّة ُ ، يقولُ أدونيسُ " هذا النصُّ مفتاحٌ لفهم ِ العالم ِ الإسلاميِّ ، ولن يفهمَ أحدٌ المسلمينَ وتأريخهم ، إلا بدءاً من استيعابِ هذا النصِّ ، والإحاطةِ بمستوى العلاقةِ القائمةِ بينهُ وبينَ المُسلم ِ " ، إذن مقدّماتُ القضيّةِ ونتيجتُها هي: أنَّ هذه النصوصَ الشرعيّة َ لقوّتها ومكانتِها في النّفوس ِ ، جعلتْ من البلادِ الإسلاميّةِ بلاداً تسودُ فيهِ الأغلبيّة ُ المُحافظة ُ وروحُ الصحوةِ الإسلاميّةِ ، وحتّى تكتملَ مسيرة ُ التحديثِ للعالم ِ الإسلاميِّ ،- كما يزعمونَ - فلا بُدَّ من تنقيح ٍ للتراثِ ، ومراجعةٍ للنصِّ ، والذي شكّلَ المُكوّنَ الأكبرَ للثقافةِ ، المُحرّكةِ للطبقةِ المُحافظةِ ، التي تُعتبرُ أكبرَ الشرائح ِ .
ومن هنا تمَّ اختزالُ المشكلةِ في جزئيةٍ واحدةٍ ، هي الثقافة ُ النصيّة ُ السائدة ُ في المنطقةِ ، والتي حوّلتِ الثقافة َ والمعرفة َ الدينيّة َ الخاصّة َ إلى ثقافةٍ معياريّةٍ معرفيّةٍ عامّةٍ .
وبدأ هؤلاءِ المفكّرونَ بمحاولةٍ لاختراق ِ ما يسمّونهُ السياجُ الدوغمائيُّ المُغلقُ ، والذي تكوّنَ بفعل ِ الأيدلوجيةِ الاستلابيّةِ ، ويقصدونَ بهذا تسليمَ المسلمينَ أمرَهم للكتابِ والسنّةِ ، واتباعهم لتعاليمِها دونَ خروج ٍ عليها أو إبداءٍ للرأي حيالها ، وإنّما هو السمعُ والطاعة ُ والرّضا عن اللهِ ورسولهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - : (( سمِعنا وأطعنا غفرانكَ ربّنا وإليكَ المصيرُ )) ، و في ذلكَ كتبوا مؤلفاتِهم عن العقل ِ الإسلاميِّ : في نقدِهِ ، وإعادةِ تشكيلهِ .
وأغلبُ هذه المشاريع ِ النقديّةِ - كما في مشاريع ِ أركون ، الجابري ، زكي نجيب محمود ، حنفي ، وغيرِهم - كُتبتْ بلغةٍ متقعّرةٍ ، وبأسلوبٍ جافٍّ ، وراحَ أصحابُها يُعالجونَ قضايا فلسفيّةً ومباحثَ فكريّةً غايةً في الدقّةِ والتعقيدِ ، سطوا عليها من الحركاتِ النقديّةِ الغربيّةِ- والتي كانتْ أساساً عبارةً عن ردّاتِ فعلٍ لواقعهم أو لحركاتٍ أخرى - ووقعوا كذلك أسرى لمناهج ِ الفلسفةِ المُعاصرةِ دونَ أن يأتوا بجديدٍ يُذكرُ ، وهم الذين زعموا أنّهم سيخلّصونَ العالمَ الإسلاميَّ من حالةِ الجمودِ التي يعيشُها ، فوقعوا في جمودٍ أشدَّ منهُ ، وأصبحَ المُسلمُ البسيطُ من عامّةِ النّاس ِ - وهو المقصودُ ابتداءً بهذه المشاريع ِ - لا يعلمُ عنها شيئاً ، فهي لا تبحثُ فيما يُعالجهُ من هموم ٍ ، والشعوبُ في العالم ِ الإسلاميِّ بكافّةِ طوائفِها في ناحيةٍ ، وأطروحاتُ هؤلاءِ المفكّرينَ في ناحيةِ أخرى ، أولئكَ تُحرّكهم القضايا البسيطة ُ ، وهؤلاءِ يُفلسفونَ لمسائلَ غايةٍ في التعقيدِ والدقّةِ ، حتّى صارَ الوصفُ المُناسبُ لها أنّها مشاريعُ خاصّةِ الخاصّةِ ، وتحوّلَ البحثُ فيها من كونِها مشاريعَ تحملُ التبشيرَ الحضاريَّ للأمّةِ وعلاجاً لمشكلاتِ الحداثةِ والتواصل ِ مع الآخر ِ ، إلى حروبٍ وصراعاتٍ جديدةٍ ، وباتَ الشغلُ الشاغلُ لهؤلاءِ المثقفينَ هو : نقدُ المشروع ِ الفلانيِّ ، ومُراجعة ُ الفكر ِ الفلانيِّ ، وصارتِ البحوثُ نوعاً من الأفكار ِ الذهنيّةِ ، والمنازعاتِ الفلسفيّةِ المُملّةِ .
وأصبحتِ القراءة ُ في هذه الكتبِ والمشاريع ِ ، لا يتهيّأ لكثير ٍ من الباحثينَ في قضايا الفكر ِ ، والمُتخصّصينَ في الواقع ِ ، ولا يُكلّفُ نفسهُ عناءَ النظر ِ فيها أو الوقوفِ على جديدِها ، فكيفَ بمن عداهم من عامّةِ النّاس ِ ! .
بل إنَّ خطبة َ الجمعةِ المُعتادةِ ، في أحدِ الجوامع ِ النائيةِ ، من خطيبٍ لا يعرفُ النّاسُ اسمهُ ، تُحرّكُ من مشاعر ِ المُسلمينَ وأحاسيسِهم ما لا تفعلهُ أكثرُ المشاريع ِالتنويريّةِ دقّة ً وإحكاماً ، ممّا يدلُّ على غيابِ هؤلاءِ المفكّرينِ والمثقفينَ ومشاريعهم عن حياةِ النّاسِ ، أو قدرتِهم على التأثيرِ والتغييرِ .
كما أنَّ السمة َ الغالبة َ على هذه المشاريع ِ هو نقدُ التديّن ِ والصحوةِ الإسلاميّةِ بروافدِها وأدوارِها - وهو ما تراهُ العامّةُ جريمةً عُظمى - ، والهجومُ على القيَم ِ المحافظةِ ، وعلى جميع ِ الدعواتِ الداعيةِ إلى تحكيم ِ الكتابِ والسنّةِ في جميع ِ شئون ِ الحياةِ ، بدءاً من إدارةِ الدولةِ ، وانتهاءً بالآدابِ العامّةِ ، ووصفُ جميع ِ ذلكَ بالفكر ِ الماضوي المُتخلّفِ ، ومن تلطّفَ منهم في العبارةِ فإنّهُ يصفها بالجمودِ والانغلاق ِ الفكريِّ الذي يُحتاجُ معهُ إلى تجديدٍ وتنوير ٍ ، يقولُ الجابريُّ في كتابهِ " وجهة نظر " : " والحقُّ أنَّ ما يحتاجُ إليهِ المسلمونَ اليومَ هو التجديدُ ، وليسَ مُجرّدَ الصحوةِ ، إنَّ التحديّاتِ التي تواجهُ العالمَ العربيَّ والعالمَ الإسلاميَّ تتطلبُ ليسَ فقط ردَّ الفعل ِ ، بل الفعلَ ، والفعلُ في العصر ِ الحاضر ِ هو أوّلاً وأخيراً فعلُ العقل ِ ! " .
يقولُ هاشم صالح مُعلّقاً على كتابِ محمّد أركون " الفكر ِ الإسلاميِّ واستحالةِ التأصيل ِ " : " انتصارُ الغزاليِّ على ابن ِ رشدٍ كانَ يعني انتصارَ الفكر ِ اللاهوتيِّ المُتشدّدِ والمنغلق ِ ، على الفكر ِ العقلانيِّ المُنفتح ِ على الفلسفةِ الإغريقيّةِ ، وكانَ إيذاناً بالدّخول ِ بعصور ِ الانحطاطِ الطويلةِ ، ويُمكنُ القولُ بأنّنا لم نقم من تلكَ الضربةِ حتّى الآنَ ، فانتصارُ الأصوليّةِ حالياً فهو انتصارٌ للغزالي وابن ِ تيميّةِ ، وهزيمة ٌ لابن ِ رُشدٍ والفارابيِّ وابن سينا والمعرّي والتوحيديِّ ومسكويهِ ، وكلِّ المفكّرينَ الأحرار ِ في أرض ِ الإسلام ِ ، وإذن فهزيمة ُ الفكر ِ في العالم ِ العربيِّ أو الإسلاميِّ ليستْ حديثة َ العهدِ ، وإنّما تعودُ إلى الماضي البعيدِ ، من هنا صعوبة ُ النهضةِ أو النهوض ِ بعدَ تلكَ الكبوةِ الطويلةِ " .
وهذا النقلُ عن هاشم صالح ، يكفي في الدلالةِ على مدى حنق ِ وتغيّظِ مبشّري الحضارةِ والتنوير ِ على سلفِ هذه الأمّةِ ، حيثُ يرى هاشم صالح أن انتصارَ الغزاليِّ وابن ِ تيميّة َ يعني الركونَ إلى التخلّفِ والانغلاق ِ والجمودِ ! ، مع أنَّ ابنَ تيميّة َ يُعتبرُ من روّادِ المنطق ِ التجريبيِّ القائم ِ على أساس ِ الحسِّ والتجربةِ ، وهو من الأسس ِ التي قامتْ عليها الحضارة ُ الغربيّة ُ المُعاصرة ُ ، وقد سبقَ بذلكَ أساطينَ الفلاسفةِ الغربيينَ من أمثال ِ بيكون ومل ، بينما- في المقابل ِ - يرى هاشم أنَّ التحرّرَ إنّما يكونُ في متابعةِ الفلاسفةِ وأهل ِ الإلحادِ ، الذي اشتهروا بذلكَ ، وعاشوا على الحيرةِ والقلق ِ ، وهذا الكلامُ هو أيضاً كلامُ أستاذهِ محمّد أركون .
ويقولُ زكي نجيب محمود هادماً تُراثَ المُسلمينَ جميعهُ : " إنَّ هذا التراثَ كلّهُ بالنسبةِ إلى عصرِنا قد فقد مكانتهُ ! ، لأنّهُ يدورُ أساساً على محور ِ العلاقةِ بين الإنسان ِ واللهِ ، على حين أنَّ ما نلتمسهُ اليومَ في لهفةٍ مؤرقةٍ ، هو محورٌ تدورُ عليهِ العلاقة ُ بينَ الإنسان ِ والإنسان ِ ! " - من كتابهِ " تجديد الفكر العربيِّ - .
ولعلَّ قائلاً يقولُ : لقد كانَ للفلاسفةِ والنظّار ِ والأدباءِ تأثيرٌ شديدٌ في صناعةِ الثورةِ الفرنسيّةِ ، وما أعقبها من تغيير ٍ كامل ٍ في الحياةِ الغربيّةِ ، فما بالُكَ تستقلُّ هذه الجهودَ من أن تؤتيَ ثِمارها ؟ ، فإنَّا نقولُ لهُ جواباً على كلامهِ : أنَّ أولئكَ الفلاسفة َ إنّما أثّروا في النّاس ِ لدنوِهم إليهم وتواضعِهم معهم ، حتّى أصبحَ لهم أثرٌ فعّالٌ في حياتِهم ، بعكس ِ هؤلاءِ المُعاصرينَ ، والذين لا يعرفُ النّاسَ من أحوالِهم شيئاً ، بل مع الأسفِ يسكنُ أكثرُهم خارجَ بلادهِ ولا يعرفُ شيئاً عن وطنهِ وأهلهِ .
وأيضاً فإنَّ الفلاسفةَ الأوربيينَ كانوا يواجهون تسلّطَ الكنيسةِ ، وحربَها على العلمِ والمعرفةِ ، وممارستِها للاستبدادِ والقمعِ ، وتحويلها للنّاسِ إلى ممالكَ إقطاعيّةٍ ، فكانتْ دعوةُ أولئكَ الفلاسفةِ بالثورةِ نوعاً من الانتصارِ لأولئكَ المستضعفينَ من البشرِ ، مستغلين في الوقتِ ذاتهِ عجزَ الكنيسةِ عن مجابهةِ الحقائقِ العلميّةِ المتتابعةِ في الظهورِ ، وكانتِ الحقائقُ تظهرُ فتهزُّ ثقةَ النّاسِ في دينهم ، لأنّه قائمٌ أساساً على منظومةٍ عقديةٍ تدعو إلى إلغاءِ العقلِ ، والتركيزِ على التلقي المباشرِ دون فهمٍ أو وعي ، ويؤكّدُ ذلك أنَّ أبرزَ قضيّةٍ في الدينِ النصرانيِّ وهي قضيّةُ التثليثِ ، هي من القضايا التي اختلفَ فيها النصارى خلافاً كبيراً ، وكان أحظاهم بالعافيةِ هو من ألغى عقلهُ وآمنَ بتلكَ القضيّةِ دون فهمٍ أو استيعابٍ .
إنَّ العجيبَ حقّاً في قضيّةِ التنوير ِ والنهضةِ المزعومةِ ، أنَّ أربابها ودعاتها لا ينفكّونَ يُحاربونَ الإسلامَ ودعاتهُ ، ويرونَ أنَّ الدعوة َ إلى تحكيم ِ الشريعةِ الإسلاميّةِ دعوة ٌ للتخلّفِ والرجوع ِ إلى عصور ِ الظلام ِ والانحطاطِ ، ويرونَ كذلكَ في سيادةِ قيَم ِ المُحافظةِ سيادة ً للرجعيّةِ ، مع أنَّ هؤلاءِ المُفكّرينَ يُحسبونَ على المسلمينَ ! ، ولكنّهم أشدُّ عداءً لها من العدوِّ الأجنبيِّ ، بل إنَّ هناكَ من الأعداءِ الخارجيينَ من هم أنصفُ للإسلام ِ وأهلهِ من هؤلاءِ المفكّرينَ ! .
ومن هؤلاءِ الغربيينَ الذين أنصفوا الحركاتِ والجماعاتِ الإسلاميّةِ ، وأنصفوا الدّينَ الإسلاميَّ جملة ً ، المُستشرقُ الفرنسيُّ " جاك بيرك " ، يقولُ فؤاد زكريّا في كتابهِ " الصحوة ُ الإسلاميّة ُ " : " فقد تنبّهَ المستشرقُ الفرنسيُّ جاك بيرك الذي عاشَ فترة ً طويلة ً من حياتهِ في شمال ِ أفريقيا ، إلى الدور ِ الكبير ِ الذي لعبهِ الدّينُ الإسلاميُّ في الثورةِ الجزائريّةِ ، وفي حركةِ مقاومةِ الاستعمار ِ الفرنسيِّ في شمال ِ أفريقيا عامّة ً ، وجعلَ من هذهِ الظاهرةِ موضوعاً رئيسياً لعددٍ غير ِ قليل ٍ من كتبهِ ، وكانتِ الحقيقة ُ التي توصّلَ إليها هي أنَّ الدينَ في هذه المنطقةِ من العالم ِ ، لم يكنْ على الإطلاق ِ عاملاً مُخدّراً للشعوبِ ، بل على العكس ِ من ذلكَ كانَ سلاحاً عظيمَ الفاعليّةِ ، نبّهَ الشعوبَ إلى حقيقتِها ، وساعدها على حفظِ أصالتِها ، وصون ِ تراثِها ، في وجهِ استعمار ٍ يملكُ قدرة ً هائلة ً على التغلغل ِ والتسلّطِ ، لا في الميدان ِ السياسيِّ والاقتصاديِّ فحسب ، بل في الميدان ِ الفكريِّ والحضاريِّ أيضاً " .
ويقولُ شيخُنا سفرٌ الحواليُّ في مقالتهِ عن نقدِ الصحوةِ الإسلاميّةِ : " وهناكَ أكثرُ من مسئول ٍ غربيٍّ - فضلاً عن دراساتٍ كثيرةٍ جدّاً - صرّحَ بأنَّ الشعوبَ الإسلاميّة َ لو أتيحَ لها حُرّية ُ الاختيارُ ، لما اختارتْ سوى الإسلام ِ ، ولو أعطيتْ فرصة َ الجهادِ لاندفعتْ إليهِ من كُلِّ مكان ٍ ، فالعلمانيّة ُ والانهزاميّة ُ إذن مفروضتان ِ على الأمّةِ فرضاً ، وكفى بذلك إنجازاً وسبباً للتفاؤل ِ " .
وهذه النقولُ وأشباهُها تبيّنُ للباحثِ المُنصفِ ، أنَّ من يُسمّونَ بالمفكّرينَ العربِ ، إنّما هم أدواتٌ في يدِ الغربِ ، يطعنونَ بها خاصرة َ الأمّةِ ، ويمرّرونَ عن طريقِهم - علموا أو لم يعلموا - غزواتِ التغريبِ والعلمنةِ والإلحادِ ، بعدَ أن عجزوا طويلاً عن اختراق ِ صفوفِها من الداخل ِ ، فلجئوا إلى بعض ِ مفكّريها واستخدموهم لذلكَ ، وهذا الأمرُ ليسَ جديداً ، ففي السابق ِ وبعدَ فشل ِ الحروبِ الصليبيّةِ ، في فرض ِ الأنماطِ الأوربيّةِ على حياةِ الشرق ِ المُسلم ِ ، لجأ أولئكَ الغزاةِ إلى الاستشراق ِ ، وجعلوهُ أداة ً جديدة ً من أدواتِ الاستعمار ِ ، تحت غطاءِ البحثِ العلميِّ ، بينما هم في حقيقةِ الأمر ِ جيشٌ جديدٌ من الغزاةِ على العالم ِ الإسلاميِّ ، بقصدِ تهشيمهِ من داخلهِ ، كما كانَ الحالُ في حركاتِ الكشوفِ الجغرافيّةِ ، ولا تعجبوا إذن من كون ِ أكثر ِ المفكّرينَ العربِ المُعاصرينَ ممّن تربّوا في محاضن ِ الاستشراق ِ ، وبهذا تتضحُ العلاقة ُ بينهم في حربِهم المُتّحدةِ على أصالةِ الفكر ِ الإسلاميِّ ، وهدمهِ بمعاول ِ النهضةِ والتنوير ِ والحداثةِ ، وذلك أنّهُ باتَ من لوازم ِ الحضارةِ والتنوير ِ الاستسلامُ للمخطّطِ الغربيِّ والذوبان ِ فيه دونَ مقاومةٍ لهُ .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
16-03-2009 / 20:58:01 فينيق
نقد النصّ .. أم نقد الخطاب
الموضوع شائك ، و شائق ....الاعتماد على مقولات علماء في بدايات نقد الخطاب الديني .. فيه الكثير من التجنّي .. " نصر حامد ابو زيد " طرح الفكرة بمنطق المتآخرين من دعاة " النقد ".. مقولة الغزالي - ضد ابن رشد ، و غيره
مقولة تستبق فيها دراستك هذه .. فتنتقد اصحاب النقد باسلوب انتقادهم
هؤلاء .. و هؤلاء الذين انتقدتهم لم يتحدثوا عن الجرجاني ، و دو سيسير.. و الدخول في منطق النص القرآني .. نرجو ان تكون الدراسة غير ذات هدف مسبق ، و غير ذات احكام عامة .. كمثل " حنق ، وتغيّظ " " هادما التراث " .. و لنفرق بين من يتحدثون لما فيه خير الاسلام ، و بين المستشرقين ، و المستغربين العرب الذين ينهجون منهجهم
16-03-2009 / 20:58:01 فينيق