عدنان المنصر - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9770 amansar2002@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إلى أين يتجه الوضع في ضوء المخاض الحالي في المنطقة العربية بعد محرقة غزة؟ أسفرت انتخابات اسرائيل على وضع جديد حتى بالنسبة للإسرائيليين وربما كان شكل الحكومة المقبلة كما يلي: نتنياهو في رئاسة الوزراء، ليفني في الخارجية وافيغدور ليبرمان في الدفاع. في المقابل تتهيأ إيران لإجراء انتخابات رئاسية ستظهر نتائجها الأولية أقل من أسبوع بعد نشر نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلي، وكما هو متوقع فإن "المحافظين" يتجهون إلى فوز ساحق على الإصلاحين المنقسمين، مستفيدين حتما من ظرفية دولية متحدية لإيران ومن نجاحات أحمدي نجاد ومن الدعم الصريح لمرشد الثورة وحرسها.
تتجه الأوضاع نتيجة لهذه الصورة إلى مزيد من التوتر الذي يقرب أكثر من أي زمن مضى المواجهة المحتملة بين إيران وإسرائيل، تلك المواجهة التي يبدو أن عرب الإعتدال هم الأكثر استعجالا لها. وبما أن الوقوف في وجه الطموحات النووية الإيرانية أمر تجمع على ضرورته كل الأوساط السياسية في إسرائيل ( وهو بالتأكيد أحد الأسباب القوية لتصاعد اليمين الإسرائيلي المتطرف في استطلاعات الرأي الأخيرة)، فإن أولئك العرب يطمعون بالتأكيد أن يكون التصدي "للتمدد الإيراني" الشيء الوحيد الناجح الذي تأتيه إسرائيل بعد فشلها في تحقيق أهدافها من العدوانين الأخيرين على لبنان ثم غزة.
وفي الحقيقة فقد ضاقت صدور عرب الإعتدال بإيران ضيقا لا مثيل له في الآونة الأخيرة. ولعل إطلاق إيران قمرها الصناعي الأول في الذكرى الثلاثين لثورتها قد بين اتساع الهوة بين دولة تسعى باستمرار وبلا كلل في إثبات حقها في التسلح والتقدم العلمي والتقني والإقتصادي، وبين محيط عربي يسعى دون هوادة لمزيد الإنحدار والسقوط في هوة التخلف والتبعية. يفترض النظام الرسمي العربي، في بنائه للأولويات التي ينبغي أن تحكم تخطيطه السياسي، أن إيران تمثل الخطر الأول، وأن حماس وحزب الله هما الخطر الثاني، في حين لا نجد إسرائيل إلا في ذيل القائمة. ينطلق ذلك في الحقيقة من قراءة "موضوعية" تعتبر أن التحدي الحقيقي هو المحافظة على النظام الرسمي العربي وليس الحفاظ على مصالح استراتيجية للأمة العربية. ولو نظرنا إلى المسألة من نفس الزاوية التي يتخذها عرب الإعتدال لوجدنا الأمر ينطوي على كثير من "الحكمة". فعليا، لا خطر على النظام الرسمي العربي من إسرائيل، وسنرى أنه مهما كانت نتيجة الإنتخابات الإسرائيلية معبرة عن حالة عامة من التطرف في المجتمع الصهيوني، سيواصل بعضهم، في القاهرة وفي عمان خصوصا، استقبال مجرمي الحرب الصهاينة مهما كانت درجة تلطخ أيديهم بالدماء. سيكون الأمر متعلقا باحترام إرادة "الشعب الإسرائيلي" الذي سيكون قد عبر عنها في "انتخابات ديمقراطية ونزيهة" وسيقال أن العرب الذين لم يتعبوا من "مد أيديهم للسلام" يحتاجون دائما إلى شريك يتفاوضون معه.
هناك شيء وحيد يبرر بعض "الهلع" من استفراد الثالوث المتطرف نتنياهو-ليفني-ليبرمان بالقرار، وهو أن ذلك سيثبت للفلسطينيين مرة أخرى أن لا جدوى من المفاوضات. لن يتنازل هذا الثالوث عن شيء لعباس يرمم به بقايا صورته لدى الفلسطينيين مما يعني مزيدا من الإلتفاف، اختيارا أو اضطرارا، حول حماس. تلك هي القراءة التي تجعل المصريين يستشرسون في محاولة انتزاع اتفاق حول التهدئة مع حماس يعطي للعمل وكاديما فرصة الفوز بالحجم الذي يسمح لهما بتشكيل الحكومة القادمة دون نتنياهو وليبرمان. هناك حالة هلع مصرية حقيقية من رؤية الوضع يزيد إفلاتا من يد سلطة عباس المستنسخة من النظام الرسمي العربي. يسمح ذلك بتفسير إصرار المصريين على إطلاق شاليط في إطار التهدئة وفي مقابل فتح المعابر بما فيها معبر رفح (أصبح المعبر المصري ورقة في يد المفاوض الإسرائيلي)، أي دون إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين من حماس. يتخوف المصريون بشكل واضح من إطلاق عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين في سجون الإحتلال لأن معنى ذلك سيكون شديد الوضوح: نجاح سياسي لحماس وفصائل المقاومة يزيد من التفاف الفلسطينيين حولها، وعودة المجلس التشريعي الفلسطيني للعمل بإطلاق سراح النواب من حماس الذين اعتقلتهم اسرائيل خدمة لعباس. يعني ذلك أيضا أن المجلس في أول جلسة له سيقر، بالأغلبية المتوقعة، لاشرعية حكومة فياض المنصبة، وانتهاء صلاحية فترة حكم عباس الذي يرفض المصريون التخلي عنه.
وحدهم الفلسطينيون (تستثنى منهم سلطة رام الله والمؤلفة قلوبهم حولها) لا يبدون في عجلة من أمرهم. هناك درجة كبيرة من الواقعية الناتجة عن التجربة تحرك الفصائل في إصرارها على تحقيق مطالبها ولو أدى ذلك إلى دخول نتنياهو وليبرمان إلى الحكومة. "ما ذا يمكن لهم أن يفعلوا أكثر مما فعلوا حتى الآن؟" قد يفسر ذلك عدم تحمس حماس لإعطاء أية مكاسب سياسية للثالوث الحالي يسمح له بمواصلة الإستفراد بالقرار في إسرائيل دون الإلتجاء إلى تحالف مع "المتطرفين"، ذلك أن أية مكاسب للثالوث المذكور تعني مكاسب لعباس وللمصريين حصرا وانتصارا للنظام الرسمي العربي الذي لا يحصد، منذ زمن طويل، سوى الخيبة تلو الخيبة.
يمسك النظام الرسمي المذكور بأوراق عديدة مع ذلك. وأول هذه الورقات هي ورقة رفح والإعمار. هناك إصرار واضح على عدم استخدام المال والثروة العربيين إلا بما يخدم إسرائيل والولايات المتحدة في مسعاهما لتسطيح المنطقة من أي نزوة رفض. لن يدخل شيء إلى غزة طالما تمسكت الفصائل، وحماس تحديدا، بمسعاها للإطاحة بسلطة عباس. وتوقيا لهذا الخطر، استفاقت ضمائر عرب الإعتدال و"العالم الحر" على ضرورة الوحدة الوطنية الفلسطينية. أخيرا ...! لم يبق منهم أحد لم يدع إلى "وحدة الصف الفلسطيني" بما في ذلك سيء الذكر طوني بلير. يساعد عباس أحيانا ببعض الصراخ فيضع على حماس شروطا ليس في موقع القدرة على التفوه بها إطلاقا. لا يمكن للصراخ أن يخفي ذلك الخوف من فقدان السيطرة على الجزء الباقي من الضفة الغربية، ليس أمام إسرائيل (التي نسي الجميع فيما يبدو أنها تحتل كل الضفة الغربية بما في ذلك حدود "المقاطعة")، وإنما أمام حماس. هناك حالة هلع حقيقية من أن يستفيق عباس ذات صباح ليجد أن عليه المغادرة وأن يترك، مثل دحلان وأبو شباك، كل ملفاته بيد حماس أو مؤيديها. تترجم عن تلك الحالة الإيقافات الواسعة وعمليات التعذيب الوحشية والقتل تحت التعذيب ضد معتقلي حماس بالضفة والتي ازدادت وتيرتها بوضوح منذ العدوان على غزة.
هل أصبح الهم الأكبر لدى عرب الإعتدال هو الحفاظ على عباس؟ يبدو أنه لا أحد يترك لهم خيارا. لم يعد هناك حديث عن مروان البرغوثي الذي أشير إليه في السابق على أنه الوحيد القادر على قلب الإتجاه في وجه حماس. لن يقلب البرغوثي شيئا بل سيزيد التأكيد على نهج المقاومة إذا ما خرج من الأسر في اتفاقية التبادل المنتظرة، ذلك ما يفسر أن لا أحد يذكره اليوم ، يا للمصادفة الغريبة، سوى حماس. تتطلع حماس إلى رؤية البرغوثي يعيد السيطرة على فتح ويضعها، مجددا، على السبيل الصحيح بعد عملية الإختطاف التي نفذتها بحقها، وبحق القضية الفلسطينية، عصابة دايتون.
وكما أن مرد خيباتنا المتتالية هم حكامنا، فإن مرد خيبات حكامنا هي إسرائيل التي تحبط في كل مرة تطلعاتهم إلى "السلام العادل" الذي، لفرط عدله ، لا ينصف ضحية ولا يكبح جماح جلاد. لا يرى هؤلاء في كاديما والعمل سوى فرصة لذلك السلام-السراب، ويتناسون عمدا أنه تجاه القضايا العربية جميعا وتجاه حقوق الشعب الفلسطيني خصوصا، لا فرق بين كاديما والعمل والليكود إلا بدرجة القتل الممارس. يستغرق عرب الإعتدال في اعتدال لا يمنح إسرائيل إلا فرصا متزايدة للإجهاز على ما تبقى ويستقتلون في إماطة الأذى عن طريقها، وهم يحسبون أنهم بذلك يمكنون أنفسهم من فرصة أخرى للبقاء. أصبح النظام الرسمي العربي رهين بقاء إسرائيل وتعاظم قوتها، وإلا ما عساهم يبيعون في سوق العالم؟
لا جديد تحت الشمس في بلاد العرب منذ حوالي النصف قرن، حيث تحرك نفس العوامل نفس النخب لتنتج نفس السياسات. هناك حالة ترهل لأنظمة الإعتدال لن ينقذها من حشرجاته المؤلمة سوى إعلان موتها السريري السريع. فرغم أن القضية الأم تضطرم نيرانها في المنطقة العربية منذ نصف قرن أيضا، يفلت تقرير مصيرها من أيدي العرب يوما بعد يوم وتنتقل إلى مراكز ثقل أخرى. فقط دول ثلاث وهي، يا للصدفة المريرة، غير عربية، تشهد حراكا ديمقراطيا يمنحها فرصة حقيقية ومتعاظمة للتعبير عن انتظارات شعوبها ويجعلها معبرة عن التيار الغالب داخل جماهيرها: إسرائيل وتركيا وإيران. أما مصر، فلا داعي لتحريك السكين في الجرح أكثر من ذلك. ما يتجاهله عرب الإعتدال، الذين يرون كل صيحة عليهم، أن قمع الشعوب لا يؤخر مصيرهم المحتوم إلا قليلا، وفي هذا السياق فلن يكون بإمكانهم الصمود إلى ما لانهاية. هناك حاجة إلى حراك ديمقراطي حقيقي في الساحة العربية يتيح تداولا للسلطة يمنع الإنفجار، وحبذا لو تم ذلك بكامل السلاسة. غير أن ذلك لا يبدو متاحا في الظرف الحالي، تماما كما كان عليه الأمر باستمرار عندما تطرح قضية التداول على الحكم في البلاد غير الديمقراطية. لا يبدو أن ارتباط قضية تحرير فلسطين بالمسألة الديمقراطية في المنطقة العربية كان أشد وثوقا مما هو عليه اليوم، وإن الخطر الأكبر على المسار الديمقراطي (الذي يفترض أنه بدأ منذ عقود عديدة) هو إصابة الجماهير باليأس من إمكانية أن يتم التحول بالهدوؤ المطلوب ودون تمزقات مؤلمة. من المحبط حقا أن الجماهير الواسعة يقل إيمانها وتفقد أملها بإصلاح لا يأتي، ذلك أن من يستفيد من ذلك اليأس هم أنصار الإستبداد مهما كانت تلويناته. كما أنه من المحبط لهذه الجماهير ،التي تتناسى أحيانا أن الحرب هناك تكسب بالسلم هنا، أن المعتدلين الذين يحلو لهم أن يسموا أنفسهم بالليبراليين هم الذين يضعون الحاجز تلو الآخر أمام عملية الإنتقال الديمقراطي للسلطة في المنطقة العربية.
ولكن هذه قضية أخرى، فأي مسار ديمقراطي لا ينتج، في الظروف الراهنة، سوى صعودا "للتيارات الخضراء" غير المرغوب فيها. لا يفيد في هذا المجال التذكير بأن الأمر لا يعدو كونه ذريعة أخرى ابتدعت لتأخير ما لا بد منه. "الخوف على الديمقراطية هو الذي يمنع الإنتقال إلى الديمقراطية"، ما أكثر ما تخفيه هذه المقولة من نفاق وسادية. على عرب الإعتدال، ماداموا قد وضعونا في هذا النوع من المفاضلة أن يختاروا هم أيضا اليوم بين انفتاح ليبرالي حقيقي يفرض قواعد التداول الديمقراطي على الجميع، أو بين الخراب الذي تبشر به تنظيمات مثل القاعدة ستزداد قوة ماتواصل الإنسداد الراهن. يبدو هذا النوع من المفاضلة، رغم فجاجته الظاهرة، المبرر الوحيد لإحداث حراك في عمق الفعل السياسي. ما يتوجب على أم الدنيا، وعلى بقية المعتدلين فهمه، هو أن البديل لحماس لا يمكن أن تكون فتح مجددا، فهذه صفحة قد طويت منذ أفرغت فتح من أبنائها ومن خيارها المقاوم، وإنما القاعدة التي تنتظر هناك نتيجة المعركة الحالية طمعا في استثمار يأس آخر. آنذاك، فقط آنذاك،سيصبح هلعهم مبررا .
-------------------
عدنان المنصر
مؤرخ من تونس
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: