في حوادث الأمم، وفي صفحات التاريخ المعاصر؛ تُهم تأخذ قوة الأحكام المرتجلة، يتناولها كثير من الناس ويتوارثونها حتى تصير وكأنها حقيقة أو مسلمة لا تقبل نقداً أو جدلاً، وكأن إعادة بحثها ونقاشها بله دحضها أمر لا يجوز، وإن جاز ذلك فهو يتم على استحياء رغم أن الأمر لا يجاوز أن يكون مجرد شبهة متهافتة تتساقط عند النظر والاستدلال العقلي، لولا أن يتشنج الذين لا يريدون أن يفهموا، وللذين يصادقون الغباء ويخاصمون الفهم في أمتنا ميدان فسيح في الصحافة والإعلام.
من تلك التهم المتهافتة وصم الإسلام - لا بعض الناس - بالإرهاب، فإذا حدثت جريمة بالغرب نسبت لأفراد أو لبلاد لا للدين، وإذا حدثت جريمة ببلاد المسلمين نسبت للإسلام لا للأفراد ولا للبلاد!!، وكقضية ربط التخلف بالتدين، وكأن الدين - لا بيئة الاستبداد - بما يمثله من منظومات أخلاقية هو سبب تخلفنا، وبغباء يغيظ أو حَوَل شديد يدع بعضهم السبب ويتشبث بالعَرَض، وكقضية فصل الدين عن السياسة، وأشباه تلك الأمور التي لها أشباه أنصاف المثقفين في كل ميدان إعلامي.
وحصر تلك القضايا ودحضها في مقال قصير عسير، بيد أننا نرسم الخطوط العريضة لقضية فصل الدين عن السياسة متجاوزين عن نشأة الفكرة وتاريخها، محاولين إبراز بعض ملامحها العامة كما سيأتي:
من قواعد المنطق أن فهم الشيء فرع من تصوره، ولا يمكن تحليل أمر بناءً على تصورات خاطئة، وأفكار داحضة أو مرفوضة، أو هي محل جدل وشك لدى أهلها، فما بالكم حين يُصَدَّر فهم الإسلام للمسلمين من كتاب الأغاني لأبى الفرج الأصفهاني وهو الكتاب الذي هو محل شك وشبهة لدى علماء اللغة والأدب فما بالكم بعلماء الدين؟! وما بالكم حين يُصَدَّر فهم الإسلام للمسلمين من كتابات الغرب لا من منابع الدين الصافية كالقرآن الكريم، والسنة الصحيحة؟! وما بالكم حين يقول القرآن صراحة: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))[الجاثية18] وما مفهوم كلمة شريعة؟ وما الفرق بينها وبين التدين؟ سلوا علماء اللغة - قبل علماء الدين - عن ذلك.
وفي القرآن تبيان واضح الملامح لولا أن يتشدق الذين يرون في النص القرآني إرهاباً فكرياً يقول - تعالى-: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ))[المائدة48] ويقول - تعالى-: ((وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ))[المائدة49]، وبلغ الأمر وضوحاً (يحتاج إلى توضيح إطاره) أن قال الله - تعالى- في كتابه: ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة44]، ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[المائدة45]، ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[المائدة47].
وما بالكم بمن لا يفهم العربية وهو يتحدث عن فهم النص القرآني بلسان عربي مبين؟! وإذا كان صاحب الدين لا يفصل الدين عن شئون الحياة سواء السياسية أو الاقتصادية أو المدنية بما يمثله الدين من حدود وعقوبات، ويضع لذلك سياجاً مرناً يتحرك الناس في داخله لا كبتاً للحريات، ولكن تنظيماً للعلاقات كما القانون المدني في حياة المجتمعات الحديثة يقول - تعالى-: ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الأنعام162] فكيف نفصل بعد ذلك بين الدين والسياسة إذا كان صاحب الدين أراد لا السياسة وحدها وإنما الحياة كلها لله؟!
ولله در أخينا لؤي عبد الباقي حين كتب عن علاقة الإسلام بالسياسة مرجحاً أنها إشكالية دخيلة على الفكر العربي حيث قال: لم يعرف تاريخ الفكر السياسي الإسلامي مشكلة تتعلق بالربط أو الفصل بين الإسلام والسياسة، أو بين الدين والدولة؛ إلا في العصر الحديث بعد سقوط بعض الدول العربية والإسلامية تحت هيمنة الاستعمار الغربي، فتاريخ الصراع على السلطة في العالم الإسلامي قبل ذلك الوقت لم يسجل أزمة أو منافسة على المستوى المرجعي، بل كانت جميع الأطراف المتنافسة والمتصارعة تنتمي إلى المرجعية الإسلامية وحدها على اختلاف في الفهم والتطبيق طبعاً.
وهكذا فإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة والحكم بدأت تظهر في أدبيات الفكر السياسي العربي بعد اتصال المسلمين العرب بالغرب الحديث فيما سمي آنذاك بعصر النهضة العربية؛ أي في القرن التاسع عشر، ثم يختم مقاله بالقول: إن دراسة الفكر السياسي الإسلامي بموضوعية تربط مراحل تطوره بالتجربة التاريخية التي مر بها - لا بتجارب المجتمعات الأخرى - كفيلة بأن تظهر بوضوح غياب هذه الإشكالية عن تفكير المسلمين الأوائل، ما يدل على أن هذه الإشكالية لم تشكل في أذهانهم وتجاربهم قضية بحاجة إلى البحث والدراسة، وأنها مختلقة أو مستوردة من مجتمعات عاشت تجارب مختلفة عن تجارب مجتمعاتنا، وخضعت لفلسفات وقيم لا تتفق ولا تنسجم مع قيمنا ومعتقداتنا.
وجميل أن نسوق كلمة الدكتور عماد الدين خليل حيث يقول - رعاه الله -: إذا استخدمنا التعابير المعاصرة فإن الدين (استراتيجية)، والسياسة (تكنيك) يخدم (الاستراتيجية)، ويذلل الصعاب أمام أهدافها الكبرى، الدين حركة والسياسة أداة، الدين منهج عمل شامل والسياسة طرائق للتنفيذ، وفي كل الأحوال لا نجد ثمة ما يدعو للفصل بين القطبين، بل على العكس تحتم ضرورات التنفيذ والفعل والتحقق التكامل بينهما، إن (الدولة) ضرورة محتومة للدين إذا ما أُريد له أن يقول كلمته في العالم، وينفذ برنامجه في الأرض، وإن (الدين) ضرورة محتومة للدولة إذا ما أريد لها أن تكون في صالح الإنسان من أجل عالم أفضل، وغد سعيد، هنالك حيث يتحرر الإنسان، ويتحقق الوفاق المرتجى بينه وبين سنن الحياة والعالم والكون، وإن الذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة لا يفهمون في الدين ولا في الدولة.
خاتمة وملاحظات:
أعلم أن العنوان يغيظ، ولكن مذ متى كان يأبه العاقلون لغيظ السفهاء؟! لقد ظن الأغبياء يوماً أن المسلمين سيدعون شريعة الله إذا هم - أقصد دعاة فصل الدين عن السياسة - نقدوها نقد المتهافتين بعقولهم البشرية الناقصة، أو تخوفوا من توظيف الدين للسياسة (حيث يرى معظمهم أن فصل الدين عن السياسة هو في الحقيقة حماية للدين ذاته، وتنزيه له عن براجماتية السياسة والسياسيين، وصون له مما قد يمسّه بسبب التكتيك والمناورة والمداورة التي هي من خصائص عمل السياسيين ونشاطهم اليومي من أجل تحقيق استراتيجياتهم)، إنما هم واهمون، إنما يريد هؤلاء أن يذهبوا بالدين من أجل السياسة، وهو أمر على فرض صحته - وله شواهد من التاريخ تؤيده - فإن الخطأ ها هنا في العقلية التي تفهم وتحلل وتفرض الفروض، حيث كان ينبغي أن تكون دعوتهم لعدم استغلال الساسة للدين لا لطرح الدين برمته صيانة له من استغلال الساسة، ما هذا العته؟! هيهات هيهات.
وإنما ينشأ هذا الفهم المغلوط من عدة عوامل؛ لعل أبرزها أن بعض علمانيينا فضلاً عن جهل جلهم بمقاصد الشريعة، وقلة اطلاع بعضهم عليها؛ فإنما هم يفكرون بعيون الغرب ومشاعره وعقله، فترى بعضهم يفتئت على تراثنا بأن الفقه الدستوري غير موجود بتراثنا، وهو حين ينظر للنماذج الغربية فهو يقارنها بحيثيات أهل الحل والعقد عندنا مذ أكثر من ألف سنة، ويقيس الماضي الغابر على الحاضر بعيون غربية، متوهمين أن الوسائل غايات، وتلك من سفاهة القوم، وإن من السذاجة تصور أن الإسلام حين يحكم فإن شئون التعليم والجيش، والسياسة والزراعة، والاقتصاد سوف يتولى شئونها فقهاء ومشايخ، أو أن الإسلام الجميل يصادر الفنون الجميلة، أو استدعاء نموذج الدولة الدينية المسيحية ومقارنتها بحكم الإسلام، أو أن القائمين بالحكم في ظل الإسلام لا هم لهم سوى فرض تصوراتهم على الناس بقوة السلطان، هذا تصور طفولي مبعثه جهل شديد بطبيعة هذا الدين.
إن الإسلام الذي يعلي من قيم العلم والمعرفة والجمال لا يمكنه أن يلغي الكفاية العلمية، والمؤهلات المميزة للترقي، لا يمكن وهذا - كما ذكرت - جهل شديد بمعرفة طبيعة الخصائص العامة للدين.
في النهاية تطل علينا آيات القرآن كما يريدها صاحب الدين نفسه حيث يقول - تعالى-: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) ولكن أين من يسمعون؟! وأين من يفقهون؟! ألا سحقاً لجدال الأغبياء الذين يؤجرون عقولهم وثقافتهم وأقلامهم لبني الغرب القدامى منذ القرن الماضي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: