لا عجب إذا قلنا إن ما فعلته السينما العربية وفي خلال سنوات معدودة من تأثير على النفس والذهنيات العربية يساوي أضعافاً مضاعفة لما فعله الاستعمار الثقافي على مدار قرن ونيّف من الزمان، فما خلفته هذه السينما من تشويه على مستويات عدة فكرياً وحتى عقائدياً يفوق كل التصورات، لقد صنعت لوحدها جيلاً يؤمن بكل ما تطرحه هذه السينما من أفكار في غالب الحالات هي أفكار ماكرة تدلل على هبوط وخسة من يروج لمثل هذه الأفكار وتلك المعتقدات.
السينما العربية إضافة إلى المسلسلات تمكنت من هيكلة العقل العربي، وبرمجته على موجات وترددات أقل ما يقال عنها إنها منفصلة عن كل ما تعتقده الأمة العربية الإسلامية، وما ظلت لقرون تعتقده هذه الأمة العربية والإسلامية أنه الحق والصواب.
ولا يغرنك حديث المخرجين والمنتجين والفنانين بأنهم يعالجون أمراض المجتمع العربي، بل هم من جاؤوا بتلك الأمراض، وزرعوها في جسم هذا المجتمع الذي لم يكن يصدق أنه خرج منتصراً من معركة التواجد الاستعماري، ومن معركة محاولة تدجينه وتهجينه، ومسخه كالقردة والخنازير.
من الأفكار التي روجت لها هذه الأفلام والمسلسلات العربية فكرة أن التعدد يهدم البيوت، ويشرد الأسرة، وهذا لوحده تشويه لما جاء به الإسلام فيما يخص التعدد الذي يعتبر مشروطاً تحكمه القيود، ولو أننا حريصون على أن مثل هذا الموضوع يكون له تفرد لوحده بالدليل والحجة والبراهين الشرعية لأنه كما يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -: "أن هناك من هذه الأمة من لا يحق له أن يتزوج واحدة فضلاً عن أربع لأن هناك الكثيرين من هم ليسوا أكفاء لأن يكونوا أزواجاً وأرباب بيوت".
ولمسنا هذا في واقعنا الحياتي كيف أن الرجل الذي يريد أن يعدد رغم اكتمال كل الشروط الضرورية الكفيلة بأن تجعله محقاً فيما يريده، بيد أن هذه الأفلام شوهت الصورة، وأشاعت أن التعدد هو خيانة للزوجة الأولى، بل قننت شيئاً اسمه الزواج العرفي الذي لم يكن أحد يسمع به.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد لكن تعداه إلى تشجيع الزنا والحب الماجن باسم العلاقة الشريفة بين الرجل والمرأة، وكثيراً ما رأينا في مثل هذه الأفلام كيف أنه يجوز للرجل أن يخون زوجته بالمفهوم السائد لدى هؤلاء الناس عندما يقع في حب امرأة أخرى دون أن يعقد عليها قرانه، وكثير من حالات العشق والسقوط في الرذيلة هو مشروع ما دام كلمة حب موجودة على ألسنة هؤلاء الأكابر المنظرين للحب، وهم مع أسف شديد أفشل الناس في الحب، وفي الحياة الزوجية الحقيقية في الواقع المعيشي والحياتي.
لكم سألت نفسي مرات ومرات عن حياة هؤلاء النجوم الذين يروجون لمثل هذه الموبقات والمنكرات؛ هل هم فعلاً يؤمنون بما يقومون به، وهل حقاً هم سعداء فيما يفعلونه، أم أن الأمر مجرد لهو ولعب وتحصيل فلوس التي هي للأسف تذهب في الريح لأن ما هو من السحت فالنار أولى به.
وكما ذكر لي أحد الأصدقاء أنه عمل مسحاً حول الفنانين والفنانات الذين يروجون لفكرة أن التعدد هو خيانة في حد ذاته، وأن جلهم يعيشون إحباطاً، وجلهم فاشلون في حياتهم الزوجية، بل إن أغلبهم يعيش على الحرام في مثل هذه الأمور، ويكفي تدليلاً أن أغلب التائبات من الفنانات عندما يتحدثن عن حياتهن الفنية يذكرنها أنها حياة كلها قلق واضطراب.
السينما العربية رسخت فكرة قوية لدى كثير من النساء أن الرجل عندما يريد أن يعدد فهذا معناه أنه خائن، وكثيراً ما نسمع عن نساء طلبن الطلاق بمجرد أن سمعن أن أزواجهن أعدن الزواج في السر، وطبيعي أن يكون في السر ما دام أنه ممنوع عليه أن يتزوج حتى لو وجد لديه ألف مبرر شرعي لذلك.
والسبب يعود إلى المشاهد التي تشيعها مثل هذه الأفلام وهذه المسلسلات، وربما المسلسل الوحيد الذي أعطى تنفيساً للرجال هو مسلسل الحاج متولي، على الرغم أنه مسلسل كان غارقاً في السريالية، والمثالية؛ على عكس ما هو موجود على أرض الواقع من منطلق أنه لا يوجد نساء متفهمات لتلك الضرورة كما كان في مسلسل الحاج متولي، لكن كان جيداً من حيث الطرح، ومن حيث التقديم، ومن حيث أنه مسح تلك النظرة السائدة أن التعدد هو الشر المستطير، وأن المرأة تخاف التعدد لأنه يقضي على ملكيتها المطلقة للرجل.
هذه المسلسلات العربية أعطت للمرأة سلطة غير مستحقة بحيث ملكتها الرجل دونما قرار شرعي، فبمجرد أن تتزوج هذه المرأة الرجل حتى تقيده بقيود وأغلال، وتضعه في زاوية ضيقة لا يتحرك إلا بأوامرها، مع العلم أن الزواج ليس هو الحب فقط بل هو العشرة، والكلمة الطيبة، والعدالة، وبما أن الأفلام والمسلسلات العربية أشاعت مثل هذه الأفكار التي تتمحور كلية حول الحب ومترادفاته؛ فالمرأة تتصور أنها تظل تعيش على مثل تلك الكلمات إلى أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
صحيح أن التعدد يجب أن يكون مشروطاً كما جاء في القرآن الكريم، لكنه في حد ذاته حل لكثير من المشكلات المطروحة في المجتمع - ومن دون الخوض في مثل هذه المشكلات -، وربما هذا الذي لم ترد أن تفهمه المرأة العربية كونه - أي التعدد - هو ضد كرامتها، وضد بيتها، وضد حبها الأول كما تدعي حسب الأفلام والمسلسلات.
ما زلت أذكر أن أحد أجدادنا تزوج من النساء ما طاب له منهن لكن ما سمعنا يوماً أن زوجة من زوجاته طالبته بالحب الأول كما تطالب النساء اليوم، وحتى لا أثير زوبعة كبيرة فإن الحب الأول والزوجة الأولى التي تريد أن تستحوذ على قلب الرجل لوحده ولو كان متعباً منها؛ هما وهم يعشعش في رأس المرأة العربية فقط.
فالعالم الغربي اليوم يريد أن يصل إلى مسألة مفادها أن التعدد هو الحل لكثير من المشكلات - لكن يجب أن يكون الرجل الذي يعد رجلاً بأتم معنى الكلمة وليس مجرد ذكر تحكمه نزواته وشهواته -؛ لأنه جرب طريق الزنا وما وصل إلا إلى الأمراض الفتاكة التي نعرفها من مثل الإيدز، والهربز، وبانكوك، فهل نحن نتعامى عن مثل هذا الحل وهو بأيدينا؟
ربما الدولة الوحيدة التي تحرم التعدد هي تونس على عكس أغلب الدول العربية الأخرى، وكم كنا نسمع عن نظام بورقيبة الذي سن قانون عدم التعدد؛ لكن في المقابل سن قانون تحليل الخنا، وتشجيع الزنا، ولقد كانت الشرطة التونسية تعاقب كل من تجده متزوجاً بأكثر من واحدة، لكن تطلق سراحه إذا وجدت من معه هي عشيقته، هذه هي الحضارة التي كان يروج لها بورقيبة.
الأدهى أن السينما العربية؛ وبدلاً من معالجة مثل هذه المسائل بما يتوافق والشرع الإسلامي - إذا كان الممثلون حقاً يعرفون ما هو الشرع الإسلامي - راحت تخالف حتى الفطرة، وذهب بعضهم إلى طرح السؤال التالي: إذا كان الرجل يتزوج أربع نساء فلماذا لا تتزوج المرأة أربعة رجال؟ وهذا جهل من أنفسهم، لأنهن لا يعرفن طبيعة الخلق، ومراد الخالق - سبحانه وتعالى - الذي أعطى كل شيء تفصيله كما يتماشى والطبيعة الإنسانية.
إن الأفلام العربية والمسلسلات إذا حق لنا أن نصفها توصيفاً مقبولاً يليق بمقامها فإننا نقول عنها: إنها الطاعون الذي استشرى في المجتمع العربي، وحطم كل ما هو جميل في ديننا، وليس التعدد الذي مسته هذه الأفلام؛ ولكن كل ما له علاقة بالأخلاق والدين، ولكن لماذا ألوم على هذه الأفلام وأصحابها أغلبهم من رواد الخمارات، وهل السكران يعي ما يفعل، ويعي ما يقول، ففاقد الشيء لا يعطيه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: