في تركيا الجديدة استطاع حزب (العدالة والتنمية) أن ينتزع نصراً كبيراً على العَلْمانية المستبدَّة بإقرار البرلمان التركي تعديلَ الدستور بما يعطي للطالبات المحجبات الحق في الدخول إلى الجامعات بالحجاب، وجاء هذا النصر بعد القراءة الأولى للتعديل الدستوري الذي وافقت عليه الأغلبية بـ 401 صوت مقابل 110 أصوات لم توافق عليه، وفي القراءة الثانية تحققت الأغلبية بـ 403 أصوات مقابل 107 أصوات، وهو ما يعني أن التعديل تمت الموافقة عليه بشكل نهائي.وكان حزب (العدالة والتنمية) عمل على إدخال تعديلات في الدستور التركي أهمها على الإطلاق: حق الفتيات المحجبات في الالتحاق بالجامعة.
والمعلوم أن الجامعات في تركيا أحد أهم معاقل العَلْمانية التركية؛ فهناك مؤسسات في النظام التركي هي عنوان العَلْمانية مثل: الجيش والجامعات والإدارات البيروقراطية المدنية، والمحكمة الدستورية العليا. وفي شهر ديسمبر الماضي جرى تعيين (يوسف ضيا أوزكان) رئيساً لما يطلق عليه (YAK) بالتركية أي: (مجلس الجامعات التركية)، وأن الذي يعيِّن رئيس مجلس الجامعات التركية هو (رئيس الجمهورية).
ويشجع الرئيس الجديد للجامعة حرية التعبير في الجامعة بما في ذلك حق الطالبات المتدينات اللواتي يرتدين الحجاب في دخول الجامعة؛ لأن حرمانهن لأسباب متصلة بسلوكهن الديني هو نوع من التمييز الذي يجب أن تترفع عنه الجامعات التركية التي يجب أن تكون ساحة لإعلان الأفكار وتداولها بما في ذلك حق الباحثين والأساتذة في التعبير.
ومن خلال متابعتنا للصحف التركية فإن هناك عدداً من عمداء الكليات العَلْمانيين انتفضوا ضد التعديل الدستوري الجديد الذي يدعمه حزب (العدالة والتنمية) والحركة القومية التركية، وهو ما يضمن لهما ثلثي المقاعد التي تتيح لهما تعديل الدستور. وعلى الجانب الآخر من الصورة فإن أكثر من 300 من أساتذة الجامعة وعمدائها أصدروا بياناً أعلنوا فيه إدانتهم لمنع الفتيات المحجبات من الدخول إلى الجامعات، أي: أن غالبية أساتذة الجامعات التركية هم مع حق المحجبات في إكمال تعليمهن.
ولكي نتخيَّل معاً (وحشية الدولة التركية) التي أسَّسها (أتاتورك)؛ فإن رئيس الأركان التركي دخل بنفسه على الخط وأعلن أنه ضد التعديلات الدستورية التي تمنح بنات تركيا المحجبات الحق في استمرار تعليمهن في الجامعة. ومن المعلوم أن حكماً للمحكمة الدستورية العليا - وهي إحدى قلاع العَلْمانية التركية - هي التي أصدرت حكماً بمنع الفتيات المحجبات من دخول الجامعة، كان ذلك في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت والحجاب هو إحدى المعضلات الكبرى في تركيا حيث ترفض الطالبات الجامعيات أن يخلعن الحجاب من أجل دخول الجامعة، واضطر معظمهن إلى عدم إكمال التعليم الجامعي تمسكاً بالحجاب أو إلى الذهاب إلى بلدان مجاورة لتركيا للتعلُّم فيها مثل: سورية ومصر، أو إلى بلدان بعيدة عنها مثل: ماليزيا وغيرها من البلدان العربية والإسلامية.
ثم أعلن العَلْمانيون عن مظاهرات في 17 مدينة تركية ضد مشروع التعديلات الدستورية بدعوى أن فتح الباب لدخول المحجبات الجامعة سوف يؤدي إلى المزيد من المطالب الأخرى التي تقود في النهاية إلى تغيير الطابع العَلْماني للدولة التي أسسها (أتاتورك).
بالطبع يمكن للمؤيدين للحجاب وهم بالملايين - فثلثا نساء تركيا مع حق الفتيات الجامعيات في ارتداء الحجاب، وما يقرب من نصف نساء تركيا محجبات أن يخرجوا في مظاهرات مضادة تأييداً للحجاب، وهو ما يعني جرَّ البلاد إلى نوع من الاستقطاب السياسي الذي يهدد وحدة المجتمع التركي وأمنه، ومن ثم فالمشهد الذي نراه هو نوع فقط من إثبات الوجود العَلْماني وليس تعبيراً عن عافية حقيقية، إنها مرارة الروح العَلْمانية التي تشعر أن الرياح والعصر والزمان ليس في صالحها، وأن زمان تركيا استدار كهيئته يوم أن كانت مسلمة في ظل الخلافة العثمانية.
العَلْمانية والوثنية السياسية:
العَلْمانية التركية كما أرسى تقاليدها (أتاتورك) هي عَلْمانية فاشية ضد الإنسان والتاريخ والثقافة والحضارة والطبيعة ذاتها، وهذه العَلْمانية تهاوت تحت مطارق التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد والتي قادت في النهاية إلى هزيمتها أمام (الحزب الديموقراطي) الذي قاده (عدنان مندريس) بعد إعلان التعددية الحزبية في تركيا عام 1946م، ثم جاء (تورجوت أوزال) في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي ليعلن أن الجمهورية الأولى التي بناها (أتاتورك) قد جاوزها الزمن، وكان هو أول رئيس وزراء ثم رئيس جمهورية يجهر بأداء الصلاة ثم يذهب إلى بيت الله الحرام ليحج، وهو من فتح الباب واسعاً أمام طبقة رجال الأعمال المسلمين في تركيا ليكونوا جزءاً من المجتمع وليزاحموا؛ لتأكيد الوجود الاقتصادي الإسلامي في تركيا. لقد تجرأ (أوزال) على نقد (أتاتورك)، وهو أول من تجرأ على (إقالة رئيس للأركان)، وكان يعدّ نفسه المؤسس الحقيقي لما أطلق عليه (الجمهورية الثانية).
وحين ضاقت السبل بالعَلْمانيين في أزمة الحجاب اتجهوا فوراً إلى ضريح (أتاتورك) في أنقرة وهم يشكون له ما يحدث؛ هكذا تحدثت بعض التقارير.
ومن هنا فالوثنية والشرك ليسا فقط في دعاء الأولياء والصالحين كما يفعل العوام، وإنما هما أيضاً في الاعتقاد السياسي أن (أتاتورك) هو الملاذ والغوث حين المدلهمات، والذهاب إلى قبره لطلب العون السياسي والاجتماعي منه.
فالعَلْمانية هي أيديولوجية تُفقِد الإنسان قدرته على التفكير الصحيح؛ لأنها تفرض عليه أيديولوجية تتوحش لتصبح ديناً يطلقون عليه في العلوم الاجتماعية (الدين السياسي)، وهذا الدين السياسي يحاول أن يحتل مكان الدين الإلهي فيفشل، ومن هنا نلحظ محنة العَلْمانية التي هي بالضرورة أيديولوجية شمولية فاشية يجري فرضها استناداً للسلطة والقوة كما حدث مع النازية والشيوعية، ولدينا أيضاً مصطلح (الفرعونية السياسية) حيث الفرعون يعتقد أنه يتحول من الصفة الإنسانية البشرية إلى صفة جديدة يتلاقى فيها الناسوت واللاهوت، وهذا معــنى يمكن أن نطلــق عليه (الحلــول السياسي) حيـــث يتجــــاوز الفرعون المستبــد قدره ويزعـــم أنه إله كـــما في قوله - تعالى -: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 83]، وفي قوله - تعالى - أيضاً: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 92]، ومن هنا فالعَلْمانية ذات طبيعة حلولية تنعدم فيها الحدود والمسافات والصفات والحدود، ومن هنا فهي تقود بالضرورة إلى نظام يختزل الإنسان وحريته في التفكير والاختيار، وتنتج في التحليل الأخير نظاماً يفرض سطوته وجبروته واستبداده على الإنسان حتى لو اتخذ طابعاً تعددياً ديموقراطياً، فالعَلْمانية لا تقود فقط إلى الوثنية السياسية وإنما أيضاً إلى التألُّه السياسي.
أما التوحيد حيث توجد الحدود وتعرف الصفات والمسافات وتحدد؛ فإن الألوهية تكون للــه، والإنسان هــــو عبد لله، والكون والطبيعة هما مجال الفعل الإنساني، وهناك دائماً (الوحي) القرآن والسنة الصحيحة - الذي يحدد للإنسان مصادر الإيمان، ومن ثم لا يمكن أن تتلاشى المسافات بين الله والإنسان ولا يمكن في الحالة التوحيدية أن يخرج إنسان ليقول: (أنا الله، أو: ما في الجبة إلا الله) كما يقول الحلوليون من الصوفية؛ بمعنى: أن المسافات والحدود بين الله والإنسان انهارت لديهم، ونظروا إلى أنفسهم بمنظار استكبار وغرور، حتى لو كان ذلك في صيغة وَجْدٍ وذوبان وعرفان صوفي كما يزعمون.
كما لا يمكن أن يظهر في النسق الإسلامي ديكتاتورٌ فرعون يقول: (أنا ربكم الأعلى). أو يقول: (ما علمت لكم من إلهٍ غيري)، فهو هنا بالضرورة عَلْماني أيضاً بمعنى انهيار الحدود والمسافات وسقوط ثنائية الله الإنسان، وثنائية الإنسان الطبيعة.
الوثنية السياسية هي تضخيم مكانة إنسان ميت في إدراك إنسان حي تجعله يعتقد أن بإمكانه أن يضرَّ وينفع، وأنه يُلْجأ إليه في وقت الأزمات والمشكلات. وهكذا تلجأ الأيديولوجيات السياسية والشمولية لتجعل من هذا الميت الذي لا يضر ولا ينفع وثناً.
لقد كان مشهد العَلْمانيين في تركيا وهم يلجؤون إلى قبر (أتاتورك) تعبيراً عن العودة إلى حــالة البــدائية الوثنيــة وما قبل الحضارة التي يفتقد الإنسان فيها إلى الرشد ويتحرر من نزعات الغواية والضعف أمام الشيطان والأيديولجيات والصيغ الوثنية التي تجعل من الإنسان عبداً لغير الله.
والإسلام هو الحضارة، فهو الذي أعطى للإنسان حريته وكرامته، والتوحيد هو تحرير الإنسان من العبودية إلا لربِّه عبر المسؤولية والفاعلية: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْـجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 27].
مستقبل العَلْمانية التركية:
العَلْمانية التركية إلى زوال ومستقبلها إلى أفول بإذن الله؛ ذلك لأنها - كالعَلْمانية الغربية - لا مستقبل لها. لقد كان التصور الغربي يقول: إن المزيد من العلمنة سوف يؤدي إلى المزيد من التحديث والتقدُّم والديموقراطية والإنسانية والعقلانية، كما أنه سيؤدي إلى تراجع الدين، ولكن المزيد من العلمنة لم يؤدِّ إلى ذلك، فالعَلْمانية هي التي قادت إلى الحروب التي راح ضحيتها الملايين مثل: (الحرب العالمية الأولى والثانية) وحروب (بوش) الأخيرة وإن اتخذت غطاءً دينياً لكنها في روحها ذات طابع عَلْماني حيث إنه يقول: إنه يريد أن يصبغ العالم كله بصبغة أمريكية وغربية. والعقلانية هي التي قادت إلى الاستعمار وما قيل وقتها عن (عبء الرجل الأبيض)، وهي التي قادت إلى احتلال العراق والحرب الدائرة هناك، وهي التي قادت إلى احتلال أفغانستان والحرب الدائرة هناك، فهي ترى الإنسان مادة استعمالية يمكن توظيفها فقط من أجل المقاصد العَلْمانية والتي هي في الحقيقة مصالح للأقوياء في مواجهة المستضعَفين وَفْق المنطق الدارويني الغربي.
ودعنا نسمع شهادة لأحد أبرز علماء الاجتماع الديني في الغرب وهو (رودني ستارك) حيث يقول: (لا بد من إعلان نهاية إيمان علم الاجتماع بنظرية العلمنة والإقرار بأنها لم تكن سوى محصلة لأفكار وتوجهات محبَّبة؛ فبعد ثلاثة قرون من إخفاق نبوءاته حريٌّ بمبدأ العلمنة أن يُلقَى في مقبرة النظريات الفاشلة).
تصوَّر كثيرون في العالم الإسلامي أن التحديث يشترط استبعاد الدين والتمسك بالعلمنة، بينما أثبتت التطورات خطأ هذه الرؤية؛ فمن الممكن أن يكون الإنسان والنظم السياسية حديثة وفي الوقت نفسه تستند إلى أسس أخلاقية ودينية، والآن وبعد ما يزيد عن ثمانين عاماً من العَلْمانية في تركيا؛ فإن نهضة البلاد والتحولات التي تعيشها يقع في القلب منها الإسلاميون وهم ينتقلون من الهامش إلى القلب ويمثلون قاعدة تتسع كل يوم حتى أصبحت تعبِّر عن التيار الرئيسي في المجتمع التركي، ومن ثم فإن عجلة التاريخ تدور باتجاه استعادة الإسلاميين للفضاء الذي سلبته منهم بالقوة وغشم السلطة (الدولة الأتاتوركية).
وهذه هي المعركة الدائرة اليوم بين قوى تتراجع وهي القوى العَلْمانية وقوى تصعد في هدوء وهي القوى الإسلامية، والحجاب هو أحد عناوين المعركة التي نشهد بداياتها.
يشعر العَلْمانيون بالخوف والعصبية لأن العَلْمانية ليست مجرد أيديولوجية ولكنها تعبير عن مصالح وامتيازات، ومن ثَم فالذين يخرجون إلى المظاهرات اليوم يخرجون من أجل مصالحهم وامتيازاتهم التي منحتهم العَلْمانية إياها.
ولم تنجح مظاهرات العَلْمانيين ولا تهديدات العسكر في التأثير على البرلمان التركي الذي أقرَّ للطالبات المحجبات الحق في دخول الجامعة بإضافة تعديلين إلى الدستور؛ ينص الأول على: معاملة مؤسسات الدولة للمواطنين الأتراك على قدم المساواة، وينص الثاني على: المساواة في الحصول على حق التعليم وهو ما يعني من الناحية العملية إلغاء حظر الحجاب في الجامعات التركية، والحق في الحصول على التعليم الجامعي.
إن المشهد التركي العام ينبئ عن أن العَلْمانية تتراجع وينكشف الوجه الاستبدادي لدعاتها، بينما يتسع القبول العام للتوجه الإسلامي الذي يتقدم وينتقل من الهامش إلى الصدارة. ومسألة الحجاب في الواقع هي واحدة فقط من مظاهر التحول الاجتماعي والسياسي في تركيا والذي يؤكد أن مصير العَلْمانية إلى زوال بينما مستقبل تركيا هو في العودة إلى دينها وتراثها وحضارتها وثقافتها وتاريخها، إنها العودة إلى الإسلام؛ لكي تعود الحقوق إلى أصحابها ويسترد المسلمون الأرض التي اغتصبها منهم العَلْمانيون.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: