بعدما تأكد للجميع أن المقاومة والجهاد في غزة قد تحققا وحققا أهدافهما، ولم يفلح العدو الصهيوني في إسكات المقاومين أو اجتثاثهم، التفت الأعداء ومعهم الخونة من بني جلدتنا للفت في عضد الجهاد وأهله قائلين: ما لكم والآلة العسكرية الإسرائيلية الضخمة التي لا يستطيع أي جيش عربي نظامي أن يهزمها أو يقف أمامها؟
يثبطون المقاومة وأهلها قائلين: ما لكم وهؤلاء الصهاينة الذين يمدهم الأمريكان والأوروبيون بكل أنواع السلاح والعتاد ويقف معهم الإعلام الدولي؟
وإذا كانت أجهزة السياسة والإعلام الغربية تبث هذه الأراجيف على نطاق واسع، فإن الكارثة أن ترددها بعض وسائل الإعلام العربية وبعض الساسة العرب المتعاونين والمنسقين مع العدو الصهيوني، فها هو محمود عباس يقول: إذا كانت المقاومة سوف تتسبب في تدمير شعبنا فلا نريدها.
اليوم هؤلاء المقاومون المجاهدون في غزة يقال لهم: إن إسرائيل وأمريكا قد أجمعوا أمرهم على الرجوع إليكم لاستئصالكم, فاحذروهم واتقوا لقاءهم, فإنه لا طاقة لكم بهم, فزادهم ذلك التخويف يقينا وتصديقا بوعد الله لهم, ولم يثنهم ذلك عن عزمهم, فساروا إلى حيث شاء الله, وقالوا: حسبنا الله أي: كافينا, ونعم الوكيل المفوض إليه تدبير عباده.
إن الأمة في هذه اللحظات العصيبة تتكالب وتتداعى عليها تكتلات وقوى متناصرة كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وتتهاوى القيم والأخلاق والعهود والمواثيق والتنظيم الدولي، وتبرز أنياب الغدر، تتهم الأمة في دينها وفي أنظمتها وقوانينها ودساتيرها، بل ورجالها ومناهجها.
ماذا يراد لها؟! إنها النية القديمة، وإنه الحقد الماضي الدفين وعدم الرضا إلا بالدونية والتبعية، بل إنها الشراهة لما عند الأمة من خيرات وثروات.
إننا في هذه الظروف الصعبة التي تتعرض لها الأمة علينا أن نتذكر قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } آل عمران173.
فالآية الكريمة تتحدث عن أحداث غزوة أحد وما لا بسها من أمور وأحوال، وهي في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبى سفيان يوم الأحد وعلى رأسهم رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم، وقد رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين هزموا يوم السبت بأحد، وأن يرهب أعداءهُ فأمر مؤذناً يؤذن بالخروج في طلب أبى سفيان وجيشه، فاستجاب المؤمنين وخرجوا رغم ما بهم من آلام وجروح.
إلا أن الله تعالى ألقى الرعب في قلب أبى سفيان فارتحل هارباً إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبداً الخزاعي مر بمعسكر أبى سفيان فسأله عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه خرج في طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفاً، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بحمراء الأسد برجاله عدة ليالي ثم عادوا لم يمسسهم سوء وفيهم نزلت الآية وغيرها.
ويأبى الله إلا أن يتكرر ما جاء في الآية القرآنية التي ذكرناها آنفًا، ولم لا والقرآن صالح لكل زمان ومكان، وهو أمل البشرية كلها في العدالة والحق والإنصاف والسلام، ولنا في رسولنا الذي طبق القرآن وجعله حيًا، الأسوة والقدوة.
إن المرجفين والمثبطين والمنهزمين كثيرون بيننا، وكانوا قبل حرب أكتوبر 1973 يقولون كيف ستحاربون اليهود وكيف ستعبرون القناة وهناك خط بارليف الحصين، أقوى حائط مسلح في العالم، وبه مجاري للنابالم إذا اقترب منها الجنود الذين سيفكرون في الاقتحام سيتم فتحها لتحرقهم بلا هوادة.
قالوا هذا وأكثر منه ليشيعوا اليأس في النفوس، ولكن لأن الجيش المصري كان يريد أن يقاتل ويتأر فإنه تحسب للأمر وخطط وأبدع، فكانت النتيجة هي النصر على المحاربين والمثبطين على حد سواء.
وإذا كان المقاومون والمجاهدون في غزة هم قلة قليلة مؤمنة مستضعفة، فإن حديث القرآن عن الكثرة غالبًا ما يأتي ليصف الحالة السيئة والمتردية التي تكون عليها الكثرة، مثل قوله تعالى: [وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ] الأنعام: 116، ومثل قوله: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] غافر: 61، ومثل قوله: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] يوسف: 40.
بينما جاء حديث القرآن الكريم عن المؤمنين والمصلحين يأتي دومًا بصيغة التقليل، مثل قوله تعالى: [وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ] هود: 40، ومثل قوله: [وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] سبأ: 13، ومثل قوله: [ِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ] ص: 24.
وصفات هذه القِلَّة المؤمنة واضحة ومعروفة في كتاب الله عز وجل، وفي سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ أمتنا، فهم مُخْلصون تمام الإخلاص في عقيدتهم، يُحبُّون الله ويُحبّهم الله، يتوجَّهون إليه سبحانه وتعالى بكل أعمالهم وأقوالهم. إنهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بشرع ربهم، لا يقبلون بتبديل أو تحريف، ولا يتنازلون عن كبيرة ولا صغيرة، وهم مُعَظِّمُون للقرآن والسُّنة تمام التعظيم، ولا يحتكمون في حياتهم إلا إليها.
وهم مجاهدون مقاومون مُستعدون للبذل والتضحية من أجل عقيدتهم ومبادئهم، دينهم عندهم أغلى من كل شيء، وهم يعلمون تمام العلم أن الطريق شاق، وأن المصاعب كثيرة، وأن التضحيات هائلة، ومع ذلك فهم يستهينون بكل هذه التحدِّيات؛ لأنَّ عيونهم على الأجر العظيم الذي يعطيه الله عز وجل لهذه القِلَّة المؤمنة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: