على الرغم من كم التنازلات التي لم يكف بنديكت 16 عن تقديمها للصهاينة فهو يواجه حاليا واحدة من اعنف التحديات وأكثرها إحراجا، التي اعترت طريقه من جانبهم، منذ توليه كرسي البابوية.. فإن كانت المواقف السابقة يتم التعتيم عليها نسبيا في وسائل الإعلام الغربي، فهذه المرة الضغوط التي تواجهه علنية وعلى صفحات الجرائد، ولم يتمكن الفاتيكان من إخفائها خاصة وان عواقبها لا تزال تتوالى.. وذلك لأنها جلجلت في بداية انعقاد سينودس الأساقفة الثاني عشر الذي انعقد في روما من 5 إلى 25 أكتوبر 2008..
لقد انعقد المجمع بحضور 253 أسقفا و41 خبيرا في اللاهوت و37 مستمعا من جميع أنحاء العالم، تحت عنوان "كلام الله في الحياة وفى رسالة الكنيسة". وذلك بهدف التوصل إلى أفضل الوسائل لجذب الأتباع إلى الكتاب المقدس، ولتدارس أفضل السبل لكيفية تقديم تفسير للأناجيل بصورة يقبلها العقل والمنطق، في مواجهة الموجة العاتية التي تقودها الفرق البروتستانتية والإنجيلية، إذ أن كثيرا من التفاسير قد أدت بالفعل إلى الإطاحة بتاريخانية يسوع المسيح، أي بالصورة التاريخية التي نسجتها المؤسسة الكنسية.
ومن أهم الأسئلة المطروحة للدراسة، بخلاف ما يخص العقيدة، والتي أوردتها الصحف والمواقع الفاتيكانبة، نورد منها ما يلي:
* كيفية إمكان تفعيل الوحدة بين المسيحيين والحوار مع اليهود ونصوص الأناجيل ؟
* كيف يمكن التوفيق بين ممارسة الحوار بين الأديان وفى نفس الوقت تأكيد عقيدة أن المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر ؟
* أية المعايير والسبل يمكن الاستعانة بها لتفسير النص الإنجيلي لضمان وتأكيد غرس الرسالة الإنجيلية في مختلف الشعوب ؟
وهو ما يجب أن يلتفت إليه أولئك الذين يهرولون إلى لقاء حوار الأديان بعد عدة أيام في عقر دار الفاتيكان..
وقد تواكبت مع هذا السينودس احتفالية ابتدعها بنديكت 16، إلا وهى ما أطلقت عليه الصحف الغربية "ماراثون قراءة الكتاب المقدس".. قراءة متتالية بلا توقف ليل أو نهار، تناوب عليها 1200 قارئا تم اختيارهم بعناية فائقة من قِبل البابا، من بين مائة ألف متطوع تقدموا لهذه البدعة لمجرد إثبات أن ذلك الكتاب، الذي لا يكاد الأتباع يقرأونه، يمكن قراءته والتمسك بما جاء به كالقرآن الكريم !!
كما تواكبت مع هذا السينودس محاولة لم يتم الالتفات إليها بالقدر الكافي، ألا وهى: إنفراد جريدة "لاكروا" المسيحية، من يوم 13 أكتوبر الحالي، بتخصيص مساحة لمدة خمسة أسابيع يتناوب الكتابة فيها العديد من رجال اللاهوت حول الحوار الإسلامي-المسيحي، لطرح الآراء والعقبات التي يمكنها أن تصادف مؤتمر الحوار الذي سوف ينعقد من 4 إلى 6 نوفمبر القادم (2008) في الفاتيكان، لمواصلة ما تمخض عنه الخطاب-الفضيحة الذي وقّع عليه في البداية 138 من علماء المسلمين، وانتهى الموقف آنذاك بإعلان بنديكت 16 أنه يتعيّن على المسلمين أن يقوموا بتغيير النص القرآني وتعاليمه مثلما فعلت الكنيسة بنصوصها تحت ضغوط عصر التنوير !!
وقبل افتتاح السينودس ذهب البابا يوم السبت 4 أكتوبر لزيارة جورجيو نابوليتانو، رئيس الدولة الإيطالي، وأعرب له قائلا: "أنه لا يوجد ما يخشاه من أن تتدخل الكنيسة ورجالها في شؤون الدولة، وأنهم ينتظرون مقابل ذلك أن تمنحهم الدولة حرية العقيدة" – وفقا لما أعلنته الصحف الفرنسية والإيطالية في حينها.. وهى عبارة تطرح العديد من التساؤلات حول الوضع الديني والتدخلات الفاتيكانية في إيطاليا، وحول ما يمكن أن يتمخض عنه ذلك السينودس من قرارات معلنة وغير معلنة !
ولأول مرة في تاريخ مثل هذه المجامع ضم السينودس أسقفا من كندا وأسقفا إفريقيا من كنشاسا، وثلاث فئات من الكنائس الشرقية الكاثوليكية، وأسقف القسطنطينية البطريارك بارتولوميوس الأول المؤيد لفكرة توحيد الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما، إضافة إلى سابقة هي الأولى في تاريخ المؤسسة الفاتيكانية ألا وهى: دعوة حاخام حيفا شير ياشوف كوهين، الذي فجر موقفا لم يكن في الحسبان، وهو ما أغضب كلا من الكاردينال برتونى و ممبارتى، من أمانة دولة الفاتيكان اللذين أعربا عن ندمهما لدعوته، إذ أن الموقف سيكشف عمن له الكلمة العليا في الأمور الكنسية الفاتيكانية: البابا أم الصهاينة !..
أما الموقف الذي فجّره الحاخام كوهين في المداخلة التي ألقاها يوم 6/10 فهي رفض اليهود إضفاء صفة القداسة على البابا بيوس 12 المعاصر "للمحرقة"، إذ بدأ مداخلته قائلا: "نحن معترضون على إضفاء صفة القداسة على بيوس 12 فلا يمكننا أن ننسى صمته أيام المحرقة، و لا يمكننا أن ننسى الواقعة الأليمة لعدة كبار الشخصيات بما فيهم كبار الزعامات الدينية، صمتهم وعدم قيامهم بإنقاذ إخواننا وآثروا الصمت (...) لا يمكننا أن نغفر ولا أن ننسى ذلك ونرجو أن تتفهموا موقفنا (...) بل ونأمل الحصول على معاونتكم كمسؤلين دينيين لحماية دولة إسرائيل والدفاع عنها من أيدي أعدائها، فهي الدولة الوحيدة والمتفردة ذات السيادة من بين أهل الكتاب " !..
وذلك في الوقت الذي كان فيه البابا يستعد لتوقيع قرار تطويب بيوس 12، وهى الخطوة الأخيرة اللازمة لإضفاء لقب قديس عليه. وما أكثر التصريحات التي كان بنديكت قد أشاد فيها بمواقف بيوس 12 التي تستوجب تقديسه وخاصة ذلك القداس الذي أقامه يوم 9/10 أي بعد مداخلة الحاخام كوهين بثلاثة أيام، بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيل بيوس 12 والإعلان عن مواقفه "البطولية السرية" !.. ومن الصعب إن لم يكن من المحال حصر كم الكتابات التي تدين وتتهم تواطوء ذلك البابا وصمته أيام الحرب العالمية الثانية وأحداثها، ولا نقول شيئا عن كل الذين يتناولون الدفاع عنه.. واللافت للنظر أن الفاتيكان يرفض فتح ارشيفه السري الخاص المتعلق بتلك الفترة للمؤرخين والباحثين..
وفى يوم الجمعة 17/10 قام المجلس الممثل للمؤسسات اليهودية في باريس بالإفصاح عن رأيه في مشروع بنديكت لإضفاء صفة القداسة على بيوس 12، موضحا أن ذلك "سيؤدى إلى ضربة حاسمة للعلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والعالم اليهودي".. ويضيف البيان الذي أذاعته وكالة الأنباء الفرنسية قائلا: "إن الأغلبية العظمى من المؤرخين الأحرار لا تؤيد فكرة النشاط الذي لا يكل للبابا من أجل حماية اليهود سرا آنذاك" – وهو ما كان يردده بنديكت 16 في دفاعه عن البابا المتهم..
وفى 18/10 أعلنت جريدة "لا كروا" المسيحية أن بنديكت 16 لن يقوم بالتوقيع على قرار تطويب بيوس 12 لعدم إغضاب اليهود ولكي يظل على علاقة طيبة بهم – وذلك وفقا لما أعلنه يوم السبت الأب بيتر جومبيل P. Gumpel)) المسؤل عن عملية تطويب بيوس 12 و الذي أوضح أن هذه الأوراق منتهية منذ عام ونصف ولم يكن ينقصها سوى توقيع بنديكت 16.. بينما علق فدريكو لومباردى، المتحدث الرسمي باسم الفاتيكان، قائلا: " إن البابا لم يوقع على هذه الأوراق لأنه بحاجة إلى فترة تأمل".. ويوضح الأب جومبيل أن التعليق المكتوب تحت صورة البابا الراحل في المتحف التاريخي للمحرقة، في ياد فاشيم، والذي يتهم بيوس 12 بأنه لم يرفع صوته ضد لمحرقة يمثل فضيحة بالنسبة للكاثوليك !.. ولم يكن ذلك التعليق هو الوحيد الذي أغضب الأب جومبيل، وإنما راح يذكّر بموقف اليهود قديما من يسوع، عليه السلام، واتهامه بأنه "ابن زانية وجندي روماني" !.. وهو ما تناقلته عدة صحف ومجلات.. ورضخ بنديكت 16 لمطلب الصهاينة وكأن شيئا لم يكن..
وفى 24/10 أعلن احد مواقع الفاتيكان ملخص بيان السينودس الذي بدأ بآيتين من رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثوث قائلا: "إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع المدعوين قدّيسين مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان لهم ولنا. نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح" ( 1: 2-3 ).. وقد آثرت نقل الآية ليدرك الذين سيشاركون في حوار الأديان أن "ربنا يسوع" و"الرب يسوع المسيح" هو ما تؤمن به حقيقة تلك المؤسسة الكنسية وأتباعها، رغم تحايلها واللعب بالألفاظ أثناء اللقاءات، وان ذلك هو ما سوف يُفرض عليهم لقبوله ضمن التنازلات التي تنتظرهم في لقاء من 4 إلى 6 نوفمبر المقبل..
أما نفس ملخص البيان فينص على تأكيد "أن يسوع المسيح هو الله، الذي أرسل أبنه وتعذّب وبُعث حياً"، وتأكيد أهمية دور الكنيسة ودور الإفخارستيا، وتأكيد أن يسوع قد قال، "اذهبوا وكرزوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس" (متى 28: 19-20)، متناسين أن الثالوث قد تم اختلاقه في القرن الرابع، في مجمع القسطنطينية سنة 381، فكيف توجد في نص يقولون انه تمت صياغته في أواخر القرن الأول ؟ وهو مجرد تناقض من آلاف المتناقضات !..
كما قرر البيان لختامي ضرورة استخدام كافة وسائل الإعلام والإنترنت لإدخال الكتاب المقدس في كل الأسرات وان يتم إدخاله في المدارس والأوساط الثقافية والفنية والأدبية والموسيقية والفكرية، وخاصة أن يتم توصيله وتطبيقه على من لم يدخلوا المسيحية بعد ويتّبعون ديانات أخرى.. وقد أعلن المجتمعون أنهم أقروا "مواصلة الحوار مع المسلمين في نطاق احترام حقوق الإنسان والمرأة" كما أقر أن "تكون المعاملة بالمثل، وان حرّية العقيدة والعبادة ستكون نقطة هامة في هذا الحوار"، والمقصود بها بناء كنائس في أرض الحرمين الشريفين ورشقها بالآناجيل – وفقا لما كان قد أعلنه البابا السابق يوحنا بولس الثاني ويحاول بنديكت 16 تنفيذه..
وإذا ما أخذنا في الاعتبار مقولة الحاخام كوهين من أن "إسرائيل هي الدولة الوحيدة والمتفردة ذات السيادة من بين أهل الكتاب"، وما تمخض عنه السينودس من قرارات وإعلانه أن "ربنا يسوع المسيح" هو المخلّص الوحيد للبشر والذي يجب فرضه على العالم أجمع، وما قامت به جريدة "لاكروا" لفتح باب المناقشات إعدادا لمؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، من جهة، وكل ما تم فرضه سياسيا على المسلمين من محاولات تمهيدية لاقتلاع الإسلام بأيدي المسلمين، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قبول إلغاء مادة الدين من التعليم كمادة أساسية للنجاح والسقوط، وقبول " تعديل" المناهج الدينية وتغيير الآيات في المناهج الدراسية بدلا من شرح وتفسير أسباب نزولها، وإسناد المعاهد الأزهرية إلى التربية والتعليم أو تحويلها إلى مرافق أخر، و" تعديل " الخطاب الديني، وإغلاق المساجد بين الصلوات، وتضييق نطاق بناء المساجد، و تحويل ما لم تُقم فيه الشعائر بعد إلى مرافق أخرى، بل وهدم ما تم بنائه قبل استخراج تصاريح البناء، وهنا لا يسعني إلا أن أسأل: هل يمكن لنفس هؤلاء المسؤولين والوزراء القيام بنفس التصرف حيال الكنائس؟! فما أكثر ما تم بناؤه بلا تراخيص، بل ما أكثر الأراضي التي أُخذت بوضع اليد ولم يتحرك أحد، وما أكثر الكنائس التي تضخّم حجمها في مكانها إلى درجة الإنبعاج الفظ معماريا وكأنها على وشك الإنفجار!.. بل لقد خرج الأزهر عن تعاليم الدين ووصايا الرسول عليه الصلاة والسلام بالتهاون في مسألة الحجاب في فرنسا، وبتسليم وفاء قسطنطين بدلا من حمايتها، كما غض الطرف عن الدفاع عن الإسلام وعن نبيه الكريم في مهزلة مسرحية كنيسة الإسكندرية، بإحالتها إلى عالم الصمت والنسيان ببضعة عبارات مرتعدة جوفاء، والصمت حينما أهانت السلطات القمعية الأمريكية المصحف الشريف في جوانتنامو وغيرها، وخاصة ذلك الصمت الغريب حينما تم إعلان عيد ميلاد "ربنا يسوع" عطلة رسمية في الدولة يوم 7 يناير، وكان من الأكرم لهم أن يوضحوا ما بهذا الإجراء من مساس بعقيدة المسلمين، الموحدين بالله، والذين يمثلون الأغلبية الساحقة في مصر وفى البلدان الإسلامية !. وكيف أن مثل هذه الإجراء يخرج عن حدود التسامح ليسهم أو ليمهد لعمليات التبشير الدائرة ! بل وقام بعض رجاله بالتوقيع على اتفاقية بين الأزهر والفاتيكان والكنيسة الأنجليكانية بالموافقة على أن يقوم المبشرون بالتبشير في مصر دون أن يتعرض لهم أي شخص !؟ وكان ذلك في 18 ابريل 2005.. وهو ما تم تطبيقه في البلدان الإسلامية الأخرى.. ولا نقول شيئا عن عمليات التنصير المواكبة لحروب الاحتلال الدائرة في فلسطين و أفغانستان والعراق..
إذا ما استعرضنا كل هذه النقاط، وغيرها كثير، لأدركنا ما سوف يتم فرضه خلال اللقاء الشؤم القادم، الذي سينعقد من 4 إلى 6 نوفمبر 2008، أي بعد بضعة أيام في الفاتيكان.. إنها صيحة موجهة لكل من في يده الدفاع عن الدين، أيا كان مركزه، فما يتم الإعداد له في تلك المؤسسة العاتية الجبروت بحاجة إلى وقفة صادقة من كافة المسلمين.