البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية (3)
اللبنات الأولى للحياة البرلمانية، والقوانين الوضعية

كاتب المقال د- هاني السباعي   
 المشاهدات: 11837


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


لقد اختمرت الفكرة العلمانية في عقل الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي بعد أن استقاها من عدة مصادر نذكر منها:
أولاً: اطلاعه على الدستور الفرنسي وترجمته للقوانين الفرنسية.

ثانياً: معاصرته للثورة الفرنسية:
فقد شهد الطهطاوي أحداث ثورة الشعب الفرنسي 1830م على الملك شارل العاشر.. حيث عاش الطهطاوي أحداث هذه الثورة ونزل في شوارع باريس وسجل غضب الجماهير وتحركاتهم المسلحة، ووصف انتصاراتهم ضد السلطة الحاكمة، وتكلم عن السلطة الثورية المؤقتة التي أقاموها في الأحياء.
"هذه هي ثورة 1830 التي عاشها رفاعة الطهطاوي يوماً بيوم ومسه منها لهيب أشعل قلبه وأضاء عقله، وعلمه أن الحرية جوهرها مرادف انساني.
وفي هذا الوصف المثير صور رفاعة الطهطاوي كيف استولى الشعب في باريس على الأوتيل دي فيل وهي دار البلدية، وكيف خرج الحرس الوطني للدفاع عن الشعب، وكيف رفع الفرنسيون من جديد التريكولور أي العلم المثلث الألوان على الكنائس، والمباني العامة. وهو علم الثورة الفرنسية الذي كانت الملكية قد ألغته بعد سقوط نابليون وعودة الحكم إلى البوربون وكيف انضم الجيش إلى الثوار، وكيف انتهى الأمر بعزل شارل العاشر وطرد ولي العهد إلى إنجلترا، وبتولي لافاييت رئاسة الحكومة المؤقتة وبعودة لويس فيليب، دوق أورليان، ليكون وصياً على العرش ثم إعلانه ملكاً على الفرنسيين، بعد أن أقسم يمين الولاء للدستور.
فأسباب ثورة 1830 كما شرحها رفاعة الطهطاوي لمثقفي جيله تتلخص في شئ واحد وهو الأوتوقراطية أو الحكم المطلق.
وقد تجلت أوتوقراطية شارل العاشر في خرقه دستور 1818 مرتين: مرة بتمسكه بوزارة بولينياك التي أقالتها الأغلبية البرلمانية ولجوئه إلى إصادر سلسلة من القوانين غير الدستورية دون الرجوع إلى البرلمان، وأمره بفرض الرقابة على المطبوعات وبمصادرة حرية الصحافة وحرية التعبير بوجه عام"[1]
أقول: هذه الثورة التي يشيد بها الطهطاوي ثورة الححادية معدية لأي دين، قامت للقضاء على الرابطة الدينية لدى الشعوب المسيحية، وأكدت على عبادة الفرد والمصلحة وإطلاق العنان لرغبات الفرد وقد أدت إلى تفسخ المجتمع الواحد وتفرق الناس شيعاً وأحزاباً ووقع المجتمع في فوضى وتناحر نتيجة لتشعب الآراء واختلاف المشاعر التي كان يوحدها الدين.
فالشيخ الطهطاوي أعجبه بريق الحرية التي نادت بها الثورة الفرنسية وحالة الأمن والرخاء المادي في المجتمع الفرنسي ولم يسبر غور مبادئ الثورة الفرنسية وأسباب اندلاعها ومن وراء أحداثها فهو لم يفهم من الحرية معناها الواسع الذي عنته الثورة الفرنسية وهي ثورة لا دينية، بل هي ثورة معادية للدين، وأصبع الماسونية وأثر الصهيونية العالمية فيها واضح مشهور. لم يفهم الطهطاوي الحرية في ذلك المعنى اللاديني الواسع الذي يشمل حماية القانون لكل الأعمال والأقوال التي تهز القيم الدينية والأعراف الإجتماعية. وتجاهر بمخالفتها وتسفيهها، والتي تنشر الفوضى وتفرق الجماعة بالتشكيك فيما يلتقي عليه الناس من عقائد وقيم، والتي تطلق للشهوات العنان لأنها لاترى أن على الدولة التزاماً دينيا أو خلقياً.

ثالثاً: أساتذته الذين أشرفوا على تعليمه في فرنسا:

من أمثال: المسيو "جومار" المشرف على البعثة التعليمية. والكونت "دي شبرول" محافظ ولاية السين وعضو مجلس النواب، وأحد علماء الحملة الفرنسية على مصر. ورئيس بعثة الإستشراق في عصره "سلفستردي ساسي" والمستشرق "كوسان دي برسفال" وقد تتلمذ الطهطاوي على مجموعة من أنبه علماء فرنسا في ذلك الوقت وعقد معهم صداقات وعكف على مؤلفاتهم، ولم تفته أمهات هذه المؤلفات منها: "روح القوانين" لمنتسكيو و"العقد الإجتماعي" لجان جاك روسو..إلخ.
وقد ذكر الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز) بعض المراسلات بينه وبين كبار علماء فرنسا، وذكر عبارات الحفاوة والتشجيع التي كتبها له هؤلاء العلماء. فيقول عن نفسه:
رسالة من المسيو دساسي:
"فيمن كاتبني عدة مرات مسيو دساسي، ولنذكر لك بعض مكاتبيه، فمنها ما كتبه باللغة العربية، ومنها ما كتبه باللغة الفرنساوية. صورة مكتوب منه:
(من الفقير إلى رحمة ربه، سبحانه وتعالى، إلى المحب العزيز المكرم والأخ المعز المحترم الشيخ الرفيع رفاعة الطهطاوي، صانه الله عزوجل، من كل مكروه وشر، وجعله من ذي العافية وأصحاب السعادة والخير. أما بعد فإن القطعة التي أكملت المطالعة فيها من كتابك النفيس وحوادث إقامتك في باريس رددتها إليك على يد غلامك، ويصلك صحبتها حاشية مني على ماتقوله في باب الفعل في لغتنا الفرنساوية، فإذا نظرت فيها تبين لك صحة ما نستعمله من صيغة الفعل الماضي، فمن الواجب عليك أن تصنف كتاباً يشتمل على نحو اللغة الفرنساوية المتداولة عند أمم أوربا كلها وفي ممالكها حتى يهتدي أهل مصر إلى موارد تصانيفنا في فنون العلوم والصناعات ومسالكها، فإنه يعود لك في بلادك أعظم الفخر، ويجعلك عند القرون الآتية دائم الذكر ودمت سالماً. كتبه المحب: سلوستري دساسي. انتهى"[2]
ورسالة من المسيو جومار:
"لما أراد مسيو رفاعة أن أطلع على كتاب سفره، المؤلف باللغة العربية، قرأت هذا التاريخ، إلا اليسير منه، فحق لي أن أقول: أنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأن منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهماً صحيحاً عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية، ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية. (..) وبالجملة فقد بان لي أن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن، حتى تأهل لأن يكون نافعاً في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلة عظيمة، ومحبة جسيمة. البارون: سلوستري دساسي. باريس في شهر فبراير سنة 1831 ـ 19 في شعبان سنة 1246"[3]
وهناك بعض الرسائل الأخرى من مسيو كوسين دي برسوال المؤرخة بتاريخ 24 فبراير1831 ولكن نكتفي بهذين المثالين.

رابعاً: تأثره بآراء "سان سيمون" :

وهو مفكر فرنسي ولد عام 1760 وهو مؤسس المذهب الوضعي الذي يرى تطبيق المبادئ العلمية على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية، وفهمها بعيداً عن الدين تماماً وقد اصر "سان سيمون" الثورة الفرنسية. بل يعتبره البعض من أبرز محركيها كما أنه المؤسس الفعلي لعلم الإجتماع، فهو أستاذ "أوجست كونت" الذي تعرف عليه سنة 1817م وجعله سكرتيراً له لمدة ست سنوات، ومنه استقى "أوجست كونت" مبادئ تقويض الدين وتدميره، وقد تأثر بأفكاره كارل ماركس.
وخلاصة مذهب سيمون الإلحادي:
"أـ يرى سيمون أن الإنسان هو الذي اخترع الله مدفوعاً بدوافع مادية! وبعد أن تم له ذلك الإختراع اعتقد في أهمية نفسه، ويذهب سان سيمون إلى أبعد من ذلك فيقول: إن الله في الحقيقة فكرة مادية، وهي نتيجة لدورة السائل العصبي في المخ.
ب ـ اقترح سان سيمون تكوين جمعية من واحد وعشرين عضواً لتمثيل الإدارة الإلهية في الكون، ويقول سان سيمون: إن الله يحدثه، ويحى إليه بفكرة الديانة الجديدة ـ ديانة نيوتن ـ ويقول له: إن مجلس سوف يمثلني على الأرض، فيقسم الإنسانية إلى أربعة أقسام: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، وسوف يكون لكل قسم من هذه الأقسام مجلس على غرارالمجلس الرئيس، وسوف يرتبط كل فرع في العالم مهما كان موطنه بأحد هذه الأقسام (الأوروبية الغربية بالطبع)، وبالمجلس الرئيس ومجلس القسم الذي يتبعه، وينتخب النساء في هذه المجالس على قدم المساواة مع الرجال"[4]
وقد التقى الطهطاوي بتلاميذ سان سيمون في مدرسة الهندسة العسكرية بباريس، وتأثر بأفكارهم بل والتقى بهم في القاهرة عقب عودته إلى مصر، ونقل الطهطاوي أهداف الماسونية في مؤلفاته، بمعنى أوضح التقى الطهطاوي وأتباع سان سيمون على هدف واحد هو القضاء على الإسلام، وتغريب المسلمين بحجة التطوير، ومواكبة التحديث الأوروبي.
هكذا اصطنع الطهطاوي على أعين علماء الفكر المادي الحديث في فرنسا، وهؤلاء هم شيوخه الجدد الجدد!! وهذه أهم الينابيع التي استقى الطهطاوي منها أفكاره التي نقلها إلى العالم الإسلامي. وكانت أخطر الصور التي نقلها الطهطاوي إلى مجتمعاتنا هي الحياة البرلمانية ومجالس التشريع وهي عصب المنظومة الغربية بل وعمودها وإن اختلفت أشكالها.
ومن منطلق هذه التقدمة، سنلقي الضوء على بعض الأفكار التي استقاها الطهطاوي من الدستور الفرنسي كقضية الحقوق المدنية التي تعتمد على ركيزتين هما (المساواة والحرية) وقد دندن الطهطاوي حول هذه الحقوق في معظم كتبه وهي التي جعلته مغرماً بالمنظومة الغربية:

أولاً: الدستور الفرنسي والكلام عن الحياة البرلمانية:

بداية لم يكن الطهطاوي مترجماً بالمعنى الحرفي لهذه المهنة، بل إن الطهطاوي قد تجاوز ذلك كثيراً.. فالشيخ رفاعة يقوم بالترجمة والشرح والتعليق وابداء وجهة نظره في كثير من القضايا وهذا ما سنوضحه على النحو التالي:
يقول الطهطاوي في تقدمته لترجمة الدستور الفرنسي: "والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن ويتخذونه أساساً لسياستهم، هو القانون الذي ألفه لهم ملكهم المسمى لويز الثامن عشر ولايزال متبعاً عندهم ومرضياً لهم وفيه أمور لاينكره ذووا العقول أنها من باب العدل. والكتاب المذكور الذي فيه هذا القانون يسمى الشرطة. ومعناها في اللغة اللاطينية ورقة، ثم تسومح فيها فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فنذكره لك، وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلاتسمع فيهم من يشكو ظلماً أبداً، والعدل أساس العمران."[5]
أقول: نلاحظ أن الطهطاوي يمدح دين العلمانية؛ فقانونهم البشري هو الذي أراح بالهم وعقولهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم..إلخ وكأن الرجل يتكلم عن الدولة العمرية أو الخلافة الراشدة! ولا نقول على الرجل؛ فالطهطاوي يعلم أنه يتكلم عن قوانين وضعية من أدمغة بشرية كما يقول "وإن كان غالب مافيه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم" ورغم هذا الوضوح انبرى الأستاذ فتحي رضوان مدافعاً عن عبارة الطهطاوي المذكورة: "ولم يكن قصد الطهطاوي بهذه العبارة الإشارة إلى علمانية الحكم الفرنسي، أي فصل الدين عن الدولة"[6]
وتصداقاً لوجهة نظرنا نجد أن معظم من كتب عن الطهطاوي يثبت مدح الطهطاوي العلمانية الغربية؛ فالدكتور محمد عمارة محقق الأعمال الكاملة لمؤلفات الطهطاوي يذكر:
"فالطهطاوي يمتدح علمانية الفرنسيين وتسامحهم الديني الناتج عن هذه العلمانية"[7]
ولمزيد من تلبس الطهطاوي بالفكرة العلمانية وخاصة في التشريع، يقول الطهطاوي في كتابه مناهج الألباب (ثم إن الحالة الراهنة اقتضت أن تكون الأقضية والأحكام على وفق معاملات العصر، بما حدث فيها من المتفرعات الكثيرة المتنوعة بتنوع الأخذ والإعطاء من الأنام)[8]
ولنا وقفة مع هذه الفقرات في الفصل الثالث ـ إن شاء الله ـ وفي هذا القدر كفاية.
عود إلى الدستور الفرنسي حيث يترجم الطهطاوي مواد الدستور بالتفصي المتعمد، ثم يشرع في التعليق على بعض بنوده، وقد أفسح لها المجال في فصل كامل في كتابه تخليص الإبريز.
نختار بعض الفقرات والبنود التي ترجمها وعلق عليها الشيخ رفاعة:
ذكر الطهطاوي في ترجمة ديباجة الدستور الفرنسي "وفي هذا القانون عدة مقاصد؛ المقصد الأول: (الحق العام للفرنساوية). الثاني: (كيفية تدبير المملكة). الثالث: (في منصب ديوان البير). الرابع: (في ديوان رسل العمالات الذين هم أمناء الرعايا ونوابهم). الخامس: (في منصب الوزراء). السادس: (في طبقات القضاة وحكمهم). السابع: (في حقوق الرعية)"[9]
ثم شرع الطهطاوي في ذكر مواد الدستور الفرنسي نختار منها:
"المادة الخامسة عشر: (تدبير أمور المعاملات بفعل الملك وديوان البير ورسل العمالات)"[10]
ولنترك الطهطاوي يوضح لنا وظيفة هذه الديوانين:
"وظيفة أهل ديوان البير: تجديد قانون مفقود أو إبقاء قانون موجود على حاله ويسمى عند الفرنساوية شريعة، فلذلك يقولون: شريعة الملك الفلاني.
ومن وظيفة ديوان البير أن يعضد حقوق تاج المملكة ويحامي عنه ويمانع سائر من يتعرض له، وانعقاد هذا الديوان يكون مدة معلومة من السنة في زمن اجتماع ديوان رسل العمالات بإذن ملك الفرنسيس، وعدد أهل ذلك الديوان غير منحصر في مخصوصة، ولايقبل دخول الإنسان فيه إلا وهو ابن خمسة وعشرين سنة، ولايشرك في الشورى إلا وهو ابن ثلاثين سنة، مالم يكن من بيت المملكة، وإلا فبمجرد ولادته يحسب من أهل هذا الديوان، ويشرك في المشورة حين يبلغ عمره خمسة وعشرين سنة، وكانت وظيفة البيرية متوارثة للذكور، فيقدم أكبر الأولاد، ثم بعد موته يقدم من يليه، وهكذا"[11]
ويشرح لنا الطهطاوي وظيفة ديوان رسل العمالات قائلاً:
"ووظيفة ديوان رسل العمالات غير متوارثة، ووظيفتهم امتحان القوانين والسياسات والأوامر والتدبير، والبحث عن إيراد الدولة ومدخولها ومصرفها، والمنازعة في ذلك، والممانعة عن الرعية في المكوس والفرد وغيرها إبعاداً للظلم والجور، وهذا الديوان مؤلف من عدة رجال ينصبهم أهالي العمالات، وعددهم أربعمائة وثمانية وعشرون رسولاً، ولا يقبلون إلا بعد بلوغ كل واحد منهم أربعين سنة، ولابد أن يكون لكل واحد منهم عقارات تبلغ فردتها ألف فرنك كل سنة"[12]
تأمل! هذا الوصف المسهب لهذه المادة! فالطهطاوي يتحدث عن ديوان البير وهو بمثابة مجلس شورى للسلطة الحاكمة، ويشبه هذا الديوان مجلس اللوردات في انجلترا.
ثم يتحدث عن ديوان رسل العمالات وهو ما يسمى بمجلس التشريع وهو يشبه مجلس العموم البريطاني، ومايسمى بمجالس الشعب أو الأمة في بلادنا هذه الأيام..
ونلاحظ أن الطهطاوي تكلم عن وظيفة الديوان وشروط وكيفية عضوية هذه المجالس بالتفصيل!! وكأنه يقول لمجتمعاتنا الإسلامية هذه صورة مثلى لحكم العلمانية الغربية فحري بكم أن تطبقوها في مجتمعاتكم!! وفعلاً نزلت كتابات الطهطاوي على أرض الواقع وصرنا ندور في فلك المنظومة التي كان ينشدها الشيخ رفاعة الأزهري النشأة، الصوفي النزعة، الأشعري العقيدة!!
ولن نطيل في التعليق على مواد الدستور الفرنسي ولكن سنتعرض لبعض القضايا المنبثقة من قضية ترجمة الدستور الفرنسي التي أثارها الطهطاوي في كتبه وتغنى بها العلمانيون الجدد وهي كثيرة منها: الحقوق المدنية ومايتعلق بها مثل (المساواة ـ الحرية).

قضية الحقوق المدنية:
لم يستخدم الطهطاوي مصطلح الحقوق المدنية في كتابه تخليص الإبريز أي في بداية حياته وهو في ريعان شبابه، لكنه استخدم المصطلح المذكور بعد أربعين سنة وكان ذلك في كتابه مناهج الألباب الذي ألفه سنة 1870لقد تحدث الطهطاوي عن الحقوق المدنية أو مايسمى بإعلان حقوق الإنسان والمواطنة حيث ذكر ذلك في خاتمة كتابه مناهج الألباب في الفصل الأول تحت عنوان (حقوق الرعية).
ويعرف الطهطاوي الحقوق المدنية قائلاً:
"هي حقوق أهل العمران بعضهم على بعض لحفظ أملاكهم ومالهم وما عليهم، محافظة ومدافعة، ويتفرع من حقوق المملكة العمومية أي الساسة والإدارة الملكية، ومن الحقوق المدنية الشخصية فرع آخر من الحقوق مايسمى بحقوق الدوائر البلدية، يعني حقوق النواحي والمشيخة البلدية، فهذه الحقوق تتعلق بالامتيازات الخصوصية لكل ناحية"[13]
أقول: نلاحظ أن الطهطاوي لم يأت بجديد فهذه الحقوق مدونة في كتب الفقه الإسلامي تحت مقاصد الشريعة الإسلامية نجدها في أبواب المعاملات والأنكحة، والفرائض، والوصايا، والحدود، والجنايات، والأقضية، والبينات والدعاوى..إلخ
فالطهطاوي يتكلم عن القانون الإداري والقانون الدستوري بالمفهوم الغربي الحديث لذلك بسط الكلام عن الدوائر البلدية وطريقة انتخاب أعضاء المجالس التشريعية والبلدية.. فالطهطاوي ينقل الأنموذج ويرسم السياسة من خلال ترجمته ومؤلفاته.
لذلك لاغرو أن يشيد العلمانيون الجدد بعبقرية الطهطاوي ومنهجيته؛ حيث امتدحه لفيف من الكتاب والأدباء؛ فهذا سمير أبوحمدان يقول عن الطهطاوي بعد تعليقه على قضية الحقوق المدنية: "لعله من نافل القول بأن رفاعة الطهطاوي يأتي في طليعة من تصدى، في مصر لمسألة الحريات والحقوق المدنية. وتأسيساً على ذلك نستطيع أن نعتبره عن حق أب الديمقراطية المصرية. ولعل رفاعة في تركيزه على هذه النقطة أي الحريات والحقوق المدنية. كان ينطلق من فهم عميق لبنية الدولة الحديثة. فلن تكون الدولة الحديثة في متناول اليد، وفي متناول المصريين تحديداً، مالم يطالبوا بدستور يحفظ حقوقهم المدنية وحرياتهم. فلاحداثة بغير حريات، ولادولة على نمط ما هو سائد في أوربا بغير حقوق مدنية تحفظ كرامة الإنسان وتنظر إليه كقيمة قائمة بذاتها"[14]
تأمل! هذه الأوصاف التي يرددونها (لاحداثة بغير حريات) (ولا دولة على نمط ماهو سائد في أوروبا بغير حقوق مدنية تحفظ كرامة الإنسان) أي بمفهوم المخالفة: لا حداثة طالما الإسلام يحكم!! لا دولة على النمط الأوروبي طالماً الإسلام يحكم!! لا كرامة للإنسان في ظل حكم إسلامي!! هذا ما يريده الطهطاوي ومريدوه وتلاميذه.. إسلام الموالد والدراويش!! إسلام كنسي لاغير!!
نتكلم الآن عن قضيتين متعلقتين بموضوع الحقوق المدنية ذكرهما الطهطاوي بصدد شرحه للدستور الفرنسي:
(أ): المساواة
ذكر الشيخ رفاعة نص المادة الأولي من الدستور الفرنسي:
"سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة"[15]
ويعلق الطهطاوي على نص هذه المادة قائلاً:
"(الفرنساوية مستوون).. معناه سائر من يوجد في بلاد فرانسا من رفيع ووضيع لايختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون حتى إن الدعوة الشرعية التي تقام على الملك، وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر إلى هذه المادة الأولى فإن لها سلطاناً عظيماً على إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم نظراً إلى إجراء الأحكام، ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحاضرة"[16]
هكذا يستمر الطهطاوي في الإطراء بعلمانية فرنسا ويمتدح قوانينهم لدرجة الهيام! فنص المادة الأولى أخذ بلبه وطفق يردد (لافرق بين حاكم ومحكوم.. الكل أمام القانون سواء.. كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية).. لو كان غير الشيخ رفاعة قالها لقلنا ربما لم يقرأ الرجل عن العدل والمساواة والحرية في شريعة الإسلام!! فهل يجهل الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري مقاصد ومحاسن الشريعة الإسلامية؟!
هل يجهل الطهطاوي مبادئ شريعننا الغراء التي سطرت للبشرية صحائف من ضياء حيث العدل والمساواة والحرية ورفع الظلم..إلخ تلكم الشريعة التي طبقها الإئمة الإعلام عدة قرون؟!
أكاد أجزم أن الطهطاوي يعلم يقينا أن تاريخ الإسلام حافل بمثل هذه المبادئ والشعارات التي عرفها في باريس.. فالطهطاوي ربيب الأزهر يعلم أحكام الشريعة الإسلامية جيداً ومن ثم نستطيع أن نؤكد أنه لا يشفع للطهطاوي جور حكام زمانه وبعدهم عن شريعة الإسلام أن يستورد للمسلمين قوانين الفرنجة ويتغنى بها لتحل محل شريعة الرحمن!!
وقد وقع الطهطاوي في تناقض عجيب!! ففي الوقت الذي يشيد فيه بنص المادة الأولى من الدستور الفرنسي (سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة) .. (فلا فرق بين حاكم ومحكوم ولابين رفيع ووضيع).. نجد هذه المادة التي هي من جوامع الكلم عند الفرنساوية على حد قوله! تصطدم بنص المادة الرابعة والثلاثين في باب كيفية تدبير المملكة الفرنساوية. وهذا نصها:
المادة الرابعة والثلاثون: لايمكن أن يقبض أحد على واحد من أهل ديوان البير إلا بأمر ذلك الديوان، ولايمكن أن يحكم عليه غيرهم في مواد الجنايات"[17]

أقول: تأمل! هذه المادة تتكلم عن الحصانة البرلمانية لعضو مجلس النواب (شورى/شعب/أمة) بمعنى أن أي عضو يرتكب أية جريمة سواء (جناية/جنحة/مخالفة) فإنه لايستطيع أحد أن يحرك ضده الدعوى العمومية إلا بعد موافقة مجلس الشعب أو الشورى ولايستطيع مأمورة الضبط القضائي أن يقبض عليه بموجب هذه الحصانة!! فأين المساوة وأين (لافرق بين حاكم ومحكوم)!! وأين (جوامع الكلم)!!
هذه المادة التي صدرتها الثورة الفرنسية وهي مادة استغلال النفوذ؛ تعطي امتيازات لطبقة من أبناء المجتمع على حساب الآخرين، فلا يستطيع أحد أن يقاضي عضو مجلس النواب إلا بعد موافقة المجلس وهي عملية معقدة، وقد لايوافق المجلس على سحب الحصانة من العضو!!
فأي مساواة هذه التي يبشرنا بها الطهطاوي؟!! وأين هذه المساواة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" أين هذا من التطبيقات الواقعية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامته حد القذف على حسان بن ثابت رضي الله عنه؛ رجل الإعلام الأول الذي كان ينافح عن دعوة الإسلام؟! وأين هذه المساواة من قول عمر رضي الله عنه لأحد أقباط مصر وهو يشكو ابن الحاكم "اضرب ابن الأكرمين".. أين حصانة عمرو بن العاص الذي جيئ به من مصر وهو واليها، ليحاكم أمام أحد رعيته، ويقتص من ابنه وأمام جمع من عامة المسلمين!! وهل نسي الطهطاوي أو تناسى عدل الرشيد وآل زنكي وصلاح الدين الأيوبي؟!! التاريخ الإسلامي ذاخر بهذه الوقائع النورانية ولكن ماذا عسانا أن نقول إزاء هؤلاء المهزومين الذين يستضيئون بنار العلمانية!!

(ب): الحرية
ذكر الطهطاوي في ترجمته للدستور الفرنسي:
"المادة الرابعة: ذات كل واحد منهم يستقل بها، ويضمن له حريتها، فلايتعرض له إنسان إلا ببعض حقوق مذكورة في الشريعة، وبالصورة التي يطلبه بها الحاكم"[18]
وذكر أيضاً: "المادة الثامنة: لايمنع إنسان في فرنسا أن يظهر رأيه، وأن يكتبه، ويطبعه، بشرط أن لايضر مافي القانون، فإذا ضر أزيل"[19]
ويعلق الطهطاوي علي هاتين المادتين قائلاً: "أما المادة الرابعة: فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء، فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء.
أما المادة الثامنة: فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لايضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه"[20]
ثم يتكلم الطهطاوي تحت بند (خلاصة الحقوق الفرنساوية الآن بعد سنة 1830):
"ومن الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن لكل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة. ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته، ولايجوز وقف شئ على الكنائس أو إهداء شئ لها إلا بإذن صريح من الدولة، وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات أو في مادة الأديان، بشرط أن لايخل بالإنتظام المذكور في كتب الأحكام"[21]

وفي كتابه مناهج الألباب ينقل الطهطاوي وصية القس الفرنسي (فنلون) لولي عهد بريطانيا (جرجس جاكس) وكان بروتستاني المذهب: "إذا آل الملك إليك أيها الأمير لاتجبر رعيتك القاثوليقية (الكاثوليكية) على تغيير مذهبهم ولاتبديل عقائدهم الدينية، فإنه لاسلطان يستطيع أن يتسلطن على القلب وينزع منه صفة الحرية"[22]

هكذا يستمر الطهطاوي في تحسين صورة الثورة الفرنسية وشعاراتها وينقل لنا وصية القلس الفرنسي فنلون باعتبره غير متعصب وإظهار صورة ولي عهد بريطانيا على أنه حاكم يتقبل النصيحة، وفي الجملة تحين لدين الغرب الجديد باعتبارهم أهل المعارف والعلوم والتقدم ودعاة الحرية التي يجب على العالم الإسلامي أن يسير على نفس الصراط الغربي!! رغم أن الواقع يكذب مثل هذه الوصايا فيما يسمى بحرية العقائد؛ ذلك الشعار المزيف لدى الغرب!
فالحرب بين أهل الملة المسيحية لم تزل مستعرة بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا أم الحريات! وبين الكاثوليك والأرثوذكس!! أما العداء العقدي المستمر والمستعر ضد الإسلام فلايخفى على أحد!! فكان أولى بالطهطاوي أن يذكر المسلمين بمحنة إخوانهم في الجزائر الذين يكتوون بنير الآلة العسكرية الفرنسية! نعم فرنسا أم الحريات التي اعتبر الطهطاوي حربها مع فرنسا من أجل مشاكل تجارية!!
كان الأولى أن يتكلم عن الحرية التي نالها المسلمون في محاكم التفتيش في الأندلس!!
أما قضية الحرية العقدية؛ فالإسلام هو الدين الوحيد الذي رسخ هذا المبدأ الذي يتشدق به العلمانيون أمس واليوم! (لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)..
لولا سماحة الإسلام وعدل ولاته وسلاطينه لما قامت لأوروبا قائمة! لو عامل طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبد الرحمن الناصر وابن أبي عامر وابن تاشفين وغيرهم من ملوك الإسلام لو عاملوا نصارى الأندلس والبرتغال بنفس معاملة إليزابيث وفردريك وغيرهم من ملوك ورؤساء أوروبا لما قامت للمسيحية قائمة إلى وقتنا الحاضر!! ولكن قدر الله كان مقدورا!!
فهل أفلس التاريخ الإسلامي ليأتي الطهطاوي بوصية القس (فنلون) كعنوان لحرية العقائد وعدم التعصب! ويترك آيات الله ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت وهو يوصي بأهل الذمة خيراً!
وهذه شهادة رجل من أهل أوروبا تصداقاً لما نرى؛ إذ يقول (ستنلي لينبول) منددا بوحشية بني جلدته ومشمئزاً من سوء أخلاقهم وقسوتهم مع مسلمي الأندلس: "وكانت أخلاقهم على اتساق مع رعيتهم، وماكان يتوقع من هؤلاء الجفاة المتوحشين إلا التعصب والقسوة، فإنهم لم يؤمنوا مستجيراً، ولم يتركوا فاراً، ولم يبقوا على جريح، وهذا يذكرنا والحزن ملء صدورنا، بما كان للعرب من بطولة ورفق وسماحة خلق، فكثيراً ما عفوا عن أعدائهم نبلاء متكرمين، بينما نرى اليوم أن رجال ليون وقشتالة العتاة، يذبحون جميع الحاميات، ويستأصلون مدناً مليئة بالقطان، حتى إذا نجا من سيفهم لم ينج من استعبادهم"[23]
وهل انتهى عداء الغرب للإسلام وأهله؟! لم ينته بعد وما محنة المسلمين في قلب أوروبا عنا ببعيد؛ البونسة والهرسك وكوسوفو، وتزايد العداء ضد الأقليات المسلمة التي تعيش في دول الحريات والتحضر والمدنية وحرية العقائد كفرنسا أول دولة غربية تتخذ العلمانية ديناً قامت قيامتهم يوم أن وضعت طالبة مسلمة على رأسها خماراً!! وبريطانيا وألمانيا وغيرهم من دول الغرب بالإضافة إلى الدولة الأولى في العالم أمريكا التي جعلت الإسلام عدوها الأول وهي التي تتبنى سياسة التخويف من الإسلام وضربه وحصاره وتجويع شعوب المسلمين!!

تكلم الطهطاوي عن سلطات الدولة الحديثة في كتابه (مناهج الألباب):
"فالقوة الحاكمة العمومية وما يتفرع عليها تسمى أيضاً بالحكومة وبالملكية، هي أمر مركزي تنبعث منه ثلاثة أشعة قوية تسمى أركان الحكومة وقواها؛ فالقوة الأولى: قوة تقنين القوانين، تنظيمها وترجيح ما يجري عليه العمل من أحكام الشريعة أو السياسة الشرعية، الثانية: قوة القضاء وفصل الحكم. الثالثة: قوة التنفيذ للأحكام بعد حكم القضاة بها"[24]

هكذا نرى أول غيث للعلمانية (سلطة تشريعية/قضائية/تنفيذية) ثم ينهمر علينا الطهطاوي بسيل من ترجمات للقوانين والمؤلفات الفرنسية لإصباغ حياتنا بسربال من العلمنة الغربية المستوردة.

ثمرات الفكر الطهطاوي
أما عن أثر هذه الأفكار الطهطاوية على أرض الواقع فنوجزها في النقاط التالية:
ترجمة وتعريب القوانين:
"عندما أراد الخديو إسماعيل إصلاح القضاء، أنشأ لترجمة القوانين الحديثة (قلم) الترجمة الجديد سنة 1863م، وعيّن رفاعة ناظراً له فاستدعى تلاميذه القدامى الذين تخرجوا من مدرسة الألسن، وعاونوه في ترجمة القوانين، ومن هؤلاء التلاميذ القدامى: عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري، ومحمد لاظ، وعبدالله أبوالسعود، وكان مقر هذا القلم في غرفة واحدة بديوان المدارس. ومع ذلك أنجزوا ترجمة مجلدات القانون الفرنسي (كود نابليون) الذي طبع في بولاق مابين عامي سنة 1866 وسنة 1868م"[25]
ونزولاً على رغبة الخديو إسماعيل انكبّ الطهطاوي وآخرون على ترجمة القوانين الفرنسية وفي طليعتها القانون المدني وقانون الإجراءات الجنائية، وقانون العقوبات وهي كلها قوانين فرنسية، ولعل هذه الموسوعة القانونية كانت الأساس الذي بني عليه القانون المصري الحديث"[26]
هكذا تم ترجمة عدة قوانين في فترة زمنية وجيزة منها:
تعريب الدستور الفرنسي الذي نشره الطهطاوي في (تخليص الإبريز).
تعريب قانون العقوبات الفرنسي .
تعريب قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي.
تعريب قانون التجارة الفرنسي الذي طبع سنة 1868م.
تعريب القانون المدني الفرنسي الذي ترجمه االطهطاوي في مجلدين سنة 1868م.
افتتاح أول مجلس نيابي في تاريخ مصر والعالم العربي والإسلامي:
افتتح الخديو إسماعيل مجلس شورى النواب بخطبة العرش في 25 نوفمبر 1866م بالقلعة بمدينة القاهرة، وكان هذا أول مجلس نيابي في تاريخ الحياة البرلمانية للمصريين ذلك الأنموذج الغربي الذي تكلم عنه الطهطاوي في مؤلفاته.

المحاكم المختلطة:
كانت أول خطوة في سبيل إنشاء المحاكم المختلطة عندما فتح الخديو إسماعيل الوزارة الفرنسية في عام 1867 أي في حياة الطهطاوي فقد شهد ثمرة أفكاره وهو على قيد الحياة.
وفي أوائل شهر يولية 1870م تم طبع القوانين المصرية المختلطة فوزعها نوبار باشا على الدول المختلفة، فمرر اللورد (جرانفل) وزير الخارجية الإنجليزي إلى المركيز (دي لافاليت) سفير فرنسا في لندن في 22 يولية 1870 أنه بعد اطلاعه عليها يوافق تمام الموافقة على إنشاء الهيئة القضائية الجديدة المرغوب فيها بمصر، وعلى شكلها المبين في المشروع الفرنساوي"[27]
"تم تشكيل هذه المحاكم في ذي القعدة 1291هـ (أول يناير 1875م)، إلا أنها لم تفتح إبوابها إلا في شهر المحرم 1293هـ (فبراير 1876م)"
أقول: وكانت هذه أول نطفة لاستبدال الشريعة الإسلامية وتنحيتها بشكل رسمي من قبل الخديو وعلى يد الطهطاوي وتلامذته من أمثال محمد قدري باشا أحد أعلام القانون الذي قام بعبء ترجمة القوانين الأوروبية وتقنينها وشرحها بعد الطهطاوي، وساهم في تخريب بنية المسلمين الشرعية، وقد تخرج على يديه زمرة من رواد القانون حتى جاء عبد الرزاق السنهوري باشا الذي استكمل مسيرة التخريب وقدم للحكام خدمات ومسوغات لإضفاء الشرعية على سلطانهم!!
وبناء على ما سبق اخترت عينة من كتابات بعض المفكرين والأدباء الذين أشادوا بالطهطاوي وبآثاره الفكرية لتعضيد ما وصلنا إليه من نتيجة:
يقول الدكتور حسين فوزي النجار:
"ولعل أعظم ماقدمه محمد علي لمصر أنه وضع البذرة الأولى لتعليم عصري أخذت تؤتي أكلها في عصر إسماعيل، روى تربتها رفاعة الطهطاوي في كثير من الوصب والجهد ثم جاء علي مبارك فنماها وأوصل جذورها فأينعت وأثمرت، وشهد تباشير الطهطاوي في أخريات أيامه عندما تهيأت العقول لتقبل حركة الإصلاح وأخذت البلاد تسلك سبيلها إلى الثورة السياسية والفكرية والإجتماعية"[28]

وتحت عنوان (أبو الديمقراطية المصرية) كتب عنه لويس عوض:
"إن كفاح الشعب المصري في سبيل الديمقراطية قديم، وقد كان لمصر برلمان اسمه (البولا) قبل الفتح الروماني وكان مقره مدينة الإسكندرية، فعصف به الرومان. وقد حاول المصريون استخلاصه من أباطرة الرومان ولكنهم عجزوا لأنهم تمسكوا بمبادئ الحرية والمساواة غير أنهم فقدوا القدرة على التنظيم السياسي، أو على الأصح أفقدهم إياها غزاتهم. وبعد ألفي عام أو نحوهما من الحكم الأوتوقراطي، ظهر فيهم رفاعة رافع الطهطاوي لينادي بسيادة الشعب على الملوك وليفتح أعينهم على تجارب الأمم الأخرى في ممارسة الحرية والمساواة من خلال الدساتير والنظم النيابية"[29]

ويقول سميرأبو حمدان عن الطهطاوي:
"ومن هنا فإن الفضل يعود للطهطاوي في غرس فكرة الحياة البرلمانية الممثلة بالسلطة التشريعية في تربة البلاد الإسلامية وقد أنبت هذا الغرس الطيب (على حد زعم الكاتب) بعد سنوان من وفاة الطهطاوي، وذلك عندما قامت في مصر أول جمعية تشريعية على أساس انتخابي. والجدير بالذكر هنا أن الطهطاوي مهّد لفكرته هذه بترجمة لبنود الدستور الفرنسي وشرحها بحيث أصبحت في متناول الجميع من ساسة ورجال فكر وأناس عاديين. وكان رفاعة يرمي من وراء التفسيرات والشروح المسهبة لبنود الدستور الفرنسي إلى خلق وعي برلماني في مصر التي لم تكن قد عرفت حتى ذلك الوقت سوى المجالس الإدارية المعينة من قبل العثمانيين"[30]
ويثني عليه محقق الأعمال الكاملة الدكتور محمد عمارة: "ولقد كان الطهطاوي هو المبشر بهذا الفكر الديمقراطي الليبرالي في ربوع الشرق التي ألفت طويلاً نمط الحكم الفردي (يقصد الحكم الإسلامي) بل لقد استطاع أن يضع كل أسس هذا النمط من أنماط التفكير والسلوك والممارسة السياسية بين يدي قومه"[31]
أقول: نستطيع أن نقرر أن الشيخ رفاعة الطهطاوي أول من غرس النبتة الأولى للعلمانية الغربية، وأول من وضع النطفة الأولى لتنحية الشريعة الإسلامية، وأول من بشر بالفكر الديمقراطي على غرار المنظومة الغربية الذي يتعارض والشريعة الإسلامية.

--------------------------
الإحالات:

[1] تاريخ الفكر المصري العربي الحديث/الخلفية التاريخية/د.لويس عوض/ص250.
[2] تخليص الإبريز/ص183.
[3] المرجع السابق/ص184.
[4] علماء الإجتماع وموقفهم من الإسلام/أحمد خضير/ص73 بتصرف.
[5] تخليص الإبريز/ص95.
[6] دور العمائم في تاريخ مصر الحديث/فتحي رضوان/ص41.
[7] الأعمال الكاملة/ج1/ص111
[8] مناهج الألباب/الخاتمة/الفصل الثاني/ص544.
[9] تخليص الإبريز/ص96.
[10] المرجع السابق/ص94.
[11] المرجع السابق /ص94.
[12] المرجع السابق/ص94.
[13] مناهج الألباب/ ص524.
[14] رفاعة رافع الطهطاوي رائد التحديث الأوروبي في مصر/سمير أبوحمدان/بتصرف/ص78.
[15] تخليص الإبريز/ص96. يقصد بالشريعة هنا القانون الفرنسي.
[16] المرجع السابق/ص102.
[17] المرجع السابق/ص99.
[18] المرجع السابق/ص96
[19] المرجع السابق/ص96.
[20] المرجع السابق/ص103 و 104 بتصرف.
[21] المرجع السابق/ص105.
[22] مناهج الألباب/ص556.
[23] تاريخ الإسلام السياسي/د.حسن إبراهيم/ج3/ص181.
[24] مناهج الألباب/ص516.
[25] الأعمال الكاملة/ج1/ص66.
[26] رفاعة رافع الطهطاوي رائد التحديث الأوروبي في مصر/ص42.
[27] تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل/إلياس الأيوبي/ص496.
[28] لطفي السيد وآراؤه التربوية/ مقالة بقلم الدكتور حسين فوزي النجار ضمن كتاب تذكاري عن أحمد لطفي السيد/ المجلس الأعلى للثقافة بمصر/ ص26.
[29] تاريخ الفكر المصري الحديث/د. لويس عوض/ ص239.
[30] رفاعة الطهطاوي رائد التحديث الأوروبي في مصر/ص76.
[31] الأعمال الكاملة/ج1/ص152.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

رفاعة الطهطاوي، تغريب، علمانية، فرنسا، غزو فكري، خونة، تنويريون، تنصير، مصر،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 30-10-2008  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
الردود على المقال أعلاه مرتبة نزولا حسب ظهورها  articles d'actualités en tunisie et au monde
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
 

  30-10-2008 / 07:30:02   ابو سمية
دراسة هامة حول جذور التغريب

دراسة قيمة بحق هذه التي يقوم بها الدكتور السباعي حول جذور التغريب بالبلدان الاسلامية، ويا ليت البعض يتابعها كلها، وخاصة من اولئك البعض الذين يوصفون بالاسلاميين الوسطيين من المنهزمين امام سطوة الواقع
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد الطرابلسي، د - عادل رضا، بيلسان قيصر، حسن الطرابلسي، رضا الدبّابي، د. مصطفى يوسف اللداوي، د. طارق عبد الحليم، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، تونسي، نادية سعد، فتحـي قاره بيبـان، د. أحمد محمد سليمان، د - صالح المازقي، عمار غيلوفي، ياسين أحمد، فهمي شراب، إيمى الأشقر، المولدي الفرجاني، سليمان أحمد أبو ستة، رمضان حينوني، سفيان عبد الكافي، منجي باكير، إسراء أبو رمان، فتحي الزغل، د.محمد فتحي عبد العال، حاتم الصولي، طلال قسومي، سلوى المغربي، عواطف منصور، د - مصطفى فهمي، فوزي مسعود ، محمد أحمد عزوز، صباح الموسوي ، سيد السباعي، سامر أبو رمان ، محمود طرشوبي، علي عبد العال، محمد الياسين، عبد الغني مزوز، رشيد السيد أحمد، محمد اسعد بيوض التميمي، وائل بنجدو، الهيثم زعفان، د. صلاح عودة الله ، أحمد بوادي، علي الكاش، المولدي اليوسفي، سعود السبعاني، أنس الشابي، د- هاني ابوالفتوح، محمد العيادي، يحيي البوليني، مصطفي زهران، صفاء العربي، صفاء العراقي، محمود فاروق سيد شعبان، رافد العزاوي، فتحي العابد، محمود سلطان، رافع القارصي، حسني إبراهيم عبد العظيم، أشرف إبراهيم حجاج، مراد قميزة، العادل السمعلي، أحمد ملحم، سامح لطف الله، كريم فارق، ضحى عبد الرحمن، محمد علي العقربي، طارق خفاجي، عبد الرزاق قيراط ، عبد الله الفقير، د. عادل محمد عايش الأسطل، د. ضرغام عبد الله الدباغ، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د - محمد بنيعيش، حسن عثمان، إياد محمود حسين ، جاسم الرصيف، عمر غازي، د- محمد رحال، مصطفى منيغ، أ.د. مصطفى رجب، عبد العزيز كحيل، عبد الله زيدان، محرر "بوابتي"، سلام الشماع، أحمد النعيمي، د. عبد الآله المالكي، حميدة الطيلوش، د - شاكر الحوكي ، د. أحمد بشير، ماهر عدنان قنديل، عراق المطيري، خبَّاب بن مروان الحمد، خالد الجاف ، يزيد بن الحسين، د. خالد الطراولي ، د - الضاوي خوالدية، الناصر الرقيق، أبو سمية، د- جابر قميحة، محمد يحي، عزيز العرباوي، د - محمد بن موسى الشريف ، رحاب اسعد بيوض التميمي، كريم السليتي، صلاح المختار، محمد شمام ، الهادي المثلوثي، مجدى داود، د - المنجي الكعبي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د- محمود علي عريقات، صالح النعامي ، أحمد الحباسي، صلاح الحريري، محمد عمر غرس الله،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة