تمثل رحلة البابا بنديكت 16 إلى فرنسا ( 12 – 15/9/2008 ) حلقة جديدة فى الكشف عن مواقفه من اليهودية والمسيحية والإسلام . إلا أن اهم جزئية توضح حقيقة هذا الموقف المتعدد الوجوه ، فهى المسيرة التى خطاها من كاتدرائية نوتردام إلى ساحة الإنفاليد ، فى باريس ، خلف تمثال فضى للسيدة للعذراء ، وعدة عشرات من فرسان المعبد على صهوة جيادهم بعبائتهم البيضاء الموسومة بصليب احمر اللون ! لذلك علق العديد من الصحفيين بأنه يقود حملة صليبية جديدة لإعادة تنصير فرنسا ، الإبنة الكبرى للكنيسة ، التى حادت عن مسارها بالإنغماس فى الإلحاد والإبتعاد عن الدين ..
ومحاولاته المستميتة لإثبات الجذور المسيحية لأوروبا ليست بخافية، مع إصراره المفتقد للأمانة العلمية والتاريخية ، على إستبعاد ثمانية قرون من الإسهام الإسلامى المتواصل فى الحضارة الغربية بعامة والأوروبية بصفة خاصة . وهو الإسهام الذى لولاه لما انتقلت أوروبا من عصور الجهل وظلماته إلى نور العلم والإبداع ..
وأول ما أعلن عنه فى خطابه لليهود هو رغبة الكنيسة الكاثوليكية فى إحترام العهد الذى أقامه إله إبراهيم واسحاق ويعقوب ـ مستبعدا إسماعيل ، الإبن البكر لسيدنا إبراهيم ، موضحا كيف ان الكنيسة تقف صراحة ضد أى شكل من أشكال معاداة السامية ، ثم استشهد بعبارة اللاهوتى الكاردينال هنرى دى لوباك (H. de Lubac) قائلا : " إن معاداة السامية تعد أيضا معاداة للمسيحية " ! وأنهى خطابه مشيدا بالدور الهام الذى قام به اليهود فى فرنسا لإقامة الدولة بأسرها وبمساهمتهم الجليلة فى التراث الروحى ، موجها شكره إجمالا لكل فرد منهم ..
وقد علّق ريشار براسكييه (R. Prasquier)رئيس المجلس الممثل ليهود فرنسا قائلا : " لقد وضع البابا نفسه صراحة فى موقف المصالحة بلا مواربة ، فالإعتراف بدوام العهد القديم شرط أساسى للحوار مع الكاثوليك ، لأنه لو إعتبرنا أن العهد الجديد الذى أقامه يسوع قد ألغى القديم فذلك يعنى ان اليهود ليسوا سوى وثنيين " !
وبخلاف إصرار البابا على الجذور المسيحية لأوروبا وتكرارها عدة مرات فى أكثر من مناسبة ، وتأكيده للأساقفة بأن يواصلوا عملية التبشير مرفوعى الرأس ، و تحذيره للشباب من الإنفلات فى الفلسفات والديانات المزيفة والمنافية للعقل [ و يقصد بها الإسلام ، وفقا لما قاله فى راتيسبون ] وحثهم على الإندراج فى السلك الكهنوتى ، فإن أخطر ما أعلنه فى الخطاب الثقافى الذى القاه فى معهد القديس برنار ، بخلاف ما سبق وأعلنه لليهود قائلا بأن "العهد القديم بين الله واليهود ما زال ساريا"، فهو وصفه للكتاب المقدس بعهديه : انه وصف يعد بمثابة تنازلا صارخا لليهود خاصة فيما يتعلق بتصاعد الحملة اليهومسيحية التى يزعم محاربتها .. والغريب ان ما من احد قد تناول تلك الجزئية التى تمس أساس المسيحية بصورة لافتة للنظر ، إذ قال بوضوح :
" إن الكتاب المقدس ليس مجرد كتاب وإنما هو مجموعة من النصوص الأدبية التى امتدت صياغتها على أكثر من الف عام ، وان كتبه المختلفة لا تكوّن نصاً موحداً يمكن التوصل إليه . بل على العكس، إن التوترات Tensions)) الواضحة توجد بينها [ لكى لا يقول "التناقضات" ] . وذلك هو الحال مع الكتاب المقدس لإسرائيل الذى نطلق عليه ، نحن المسيحيون ، العهد القديم . وتزداد التوترات أكثر حينما نربط العهد الجديد ونصوصه بكتاب إسرائيل المقدس ونقوم بتفسيره كطريق نحو المسيح. وفى العهد الجديد ، إن الكتاب المقدس لإسرائيل لا يطلق عليه "الكتاب" وإنما "الكتب" ، التى سيتم إعتبارها بعد ذلك فى مجملها على أنها النص الوحيد الذى خصنا به الله. وهذه الصياغات المتعددة تشير بوضوح إلى أن كلام الله يصل إلينا عبر الكلام الإنسانى [وهى عبارة ملتوية لكى لا يقول انه من صياغة البشر] ، أى أن الله يتحدث إلينا عبر إنسانية البشر ومن خلال كلماتهم وتاريخهم. وذلك يعنى أيضا أن الجانب الإلهى للكلمة والنصوص لا يُفهم مباشرة. وبعبارة أكثر عصرية نقول : ان وحدة الكتاب الإنجيلية والطابع الإلهى لكلماته لا يمكن إدراكها من منظور تاريخى بحت. ذلك أن العنصر التاريخى يبدو فى التعددية وفى الإنسانى. الأمر الذى يفسر مقولة من القرون الوسطى : أن النص يُعلم الوقائع ، والمجاز يُعلّم ما يجب أن نؤمن به ، أقصد التفسير المسيحى الباطنى " !
وإذا ما لخصنا ما قاله لخرجنا بان : الكتاب المقدس بعهديه عبارة عن مجموعة من النصوص الأدبية؛ وأن صياغته إمتدت لأكثر من الف عام ـ أى انه ليس منزلا من عند الله ؛ وأن هذه النصوص لا تكوّن نصا موحدا بل ان التناقضات بين كتبه شديدة الوضوح ؛ وانه رغم هذه التناقضات قد تم إعتباره فيما بعد النص الوحيد الذى خصّهم به الله ! وللتعتيم على هذه التناقضات يصفها بالتعددية وبأن كلام الله لا يصل للبشر إلا عبر الكلام الإنسانى ! ثم يتمادى فى التحايل لفظا موضحا أن وحدة الكتاب والطابع الإلهى لكلماته لا يمكن إدراكها من منظور تاريخى بحت ـ أى إن ربط هذه النصوص المتناقضة، التى تمت صياغتها عبر أكثر من الف عام من التعديل والتبديل، بالأحداث التاريخية الحقيقية غير مجدى ، لأن المهم هو الإلتزام بالتفسير المجازى الذى تقدمه الكنيسة ! والمعروف لغةً ان المجاز لا علاقة له بالواقع ..
وأهم ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن العهد القديم الذى صاغته المؤسسة الكنسية عن الترجمة السبعينية لا ولم يعترف به اليهود فى أى وقت من الأوقات ضمن كتبهم الدينية ، فالمعروف يقينا أن السبعينية ليست كتاب اليهود المقدس ، ولا يشار إليها فى قائمة كتبهم المقدسة . إضافة إلى أن السبعينية تتضمن ما لا يقل عن ثلاثة آلاف تناقضا بينها وبين كتب اليهود المعترف بها ..
أما فيما يتعلق بالإسلام ، فنبدأ بما قاله ساندرو ماجيستر S. Magister))أحد كتبة الفاتيكان ورئيس تحرير موقعه المسمى "كييزا"Chiesa)) ونشره فى مجلة أسبينا Aspena)) الإيطالية ، العدد 42 لعام 2008 ، فى الصفحات من 164 الى 170 ، قائلا : " وفيما يتعلق بالبابا بنديكت 16 ، فإن أول خطوة فعالة فى مسيرته قد كانت خطابه فى راتيسبون ، يوم 12/9/2006 ، الذى هز العالم بالإعلان عن موقفه ومشاريعه المتعلقة بالكنيسة وبالغرب وخاصة بالإسلام " ـ وهو ما يكشف بوضوح عن إن رأيه فى الإسلام والإستشهاد الذى استند إليه كان مقصودا ، مثله مثل كافة الإستشهادات التى يستعين بها لتأكيد رأيه. ويواصل ساندرو ماجستير قائلا : " ولم يكف البابا عن مواقفه الإستفزازية ضد الإسلام والمسلمين ، فقد استقبل أوريانا فلاتشى المعروفة بسلاطة لسانها ضد الإسلام ، وفى عيد الفصح 2008 قام بتنصير مجدى علام المسلم الذى ينتقد الإسلام بشدة ، كما يطالب البابا العالم الإسلامى بالقيام بما قامت به الكنيسة فى نصوصها منذ عصر التنوير، لذلك يقترح على الإسلام أن يربط بين الإيمان والعقل " .. ويا لها من عملية إسقاط ، غريبة الجبروت ، ان يتم إعتبار عقيدة لا يقبلها عقل ولا منطق ، على أنها المعيار الذى يجب ان يُحتذى ، بينما تتم المحاولات المستميتة لتخريب الإسلام وإقتلاعه كعقيدة هى ، فى واقع الأمر ، قمة المنطق فى شدة وضوحها !
وفى نهاية هذا العرض الموجز لرحلة البابا بنديكت 16 إلى فرنسا ، لا يسعنا إلا ان نسأل "قداسته" : بدلا من الإستماتة فى إقتلاع الإسلام والإصرار على ربطه بالإرهاب ، تضامنا مع سياسة الإدارة الأمريكية ، أليس من الأكرم لكم وللمنصب الذى تتبوأونه ، أن تعترفوا بكل ما قمتم به ضد الإسلام والمسلمين وتصويب ذلك الموقف المتعنت والممتد منذ قرون ، بدءاً من الإعتراف بإسماعيل ، الإبن البكر لسيدنا إبراهيم ، الذى تم العهد بالختان فى ايامه وقبل ان يولد إسحاق ، وهو الأمر الثابت فى نصوصكم ، والإعتراف بحقيقة أن الإسلام قد أتى مصوبا ومكملا وخاتما لرسالة التوحيد التى حرفتموها بتأليه السيد المسيح عليه السلام، الذى لم يأت إلا من أجل خراف إسرائيل الضالة ، التى حادت عن التوحيد بالعودة إلى العجل وقتل الأنبياء ، وهو الثابت أيضا فى نصوصكم ؟!
أليس من الأكرم بدلا من ذلك الإستشهاد الذى لجأتم إليه فى راتيسبون وكل ما واكبه من عبارات تمثل فى الواقع برنامجا سياسيا من الدرجة الأولى ، إذ أنها ، من جهة ، عبارة تلغى بجرة قلم قرون ممتدة من العنف القاتل الذى تقوده مؤسستكم الكنسية ، من الحروب الصليبية إلى محاكم التفتيش ، مرورا بكل ما مارسته من قمع فى الحروب الدينية والسياسية المختلفة ، ومن جهة أخرى ، تبرر ظلما وخداعا ما تقومون به ضد الإسلام والمسلمين بوصمه بالإرهاب، وبالإصرار على تحريف القرآن بأيدى المسلمين، وعلى تنصير العالم ؟.. أليس من الأكرم أن تكفّوا عن التضامن مع سياسة إبادية النزعة ، والإعتراف، مثلما اعترفتم بحق اليهود فى العهد القديم ، وهو ما يخالف نصوصكم الدينية التى قامت عليها المسيحية ، ان تعترفوا بما ألغيتموه ظلما وعدوانا من حقوق تاريخية وإنسانية وحضارية للمسلمين ، كانت واردة بالنصوص وألغيتموها ، بدلا من مواصلة التمسك بكل ما قامت به مؤسستكم من تحريف عبر المجامع على مر العصور لإقتلاع الإسلام والمسلمين ؟
وبدلا من مواصلة تلك المواقف الإستفزازية ومحاولة شن حرب صليبية جديدة ، لماذا لا تضعون نفسكم صراحة فى موقف المصالحة بلا مواربة مع الإسلام والمسلمين ، مثلما فعلتم مع اليهود ، رغم مخالفة ذلك لتعاليم الدين الذى تمثلونه ، بدلا من الإصرار على إقتلاع الإسلام ، وتضربون مثلا حقيقيا لقبول الآخر ، الذى تتشدقون به ؟ ...
وكلمة أخيرة أوجهها للمسلمين المنساقون فى لعبة الحوار مع الفاتيكان : ليتكم تضعون عدم المساس بالقرآن الكريم شرطا اساسياً لمواصلة ذلك الحوار، الذى لا ترمى المؤسسة الكنسية من خلاله إلا إلى تحريف الإسلام والتلاعب بالنص القرآنى بأيدى المسلمين ـ كما تم الإعلان عن ذلك فى اكثر من مناسبة !
------------------------
د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
29-09-2008
almesryoon.com
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 785