لم يكن ابن تيمية – رحمه الله- مجرد فقيه انبعث في لحظة تاريخية معينة؛ ليؤدي دوره في الفتيا والإرشاد، ثم تبقى آثاره بعد موته لا تتعدى كتابًا هنا أو كتابًا هناك .....
بل كان ابن تيمية ظاهرة فذة في تاريخ الفكر الإسلامي والإنساني بما أحدثه من نهضة فكرية ... وبعث عقلي في مضمار الفقه والفكر الإسلامي.
جاء ابن تيمية في فترة زمنية شهدت تراجعًا على جميع المستويات .. السياسية والفكرية والفقهية والعقائدية ...
يستطيع الواصف للحالة السياسية لعصر ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن يحدد معالمها بثلاثة أمور رئيسة:
(أ) غزو التتار للعالم الإسلامي.
(ب) هجوم الفرنجة على العالم الإسلامي.
(جـ) الفتن الداخلية، وخاصة بين المماليك والتتار والمسلمين.
وقد ذكر ابن الأثير ـ رحمه الله ـ وصفًا دقيقًا لذلك العصر، وهو من أهله:
فقال: (لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم: منها هؤلاء التتر: فمنهم من أقبلوا من الشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها.
ومنها: خروج الفرنج - لعنهم الله - من الغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر وامتلاكهم ثغرها - أي دمياط -، وأشرفت ديار مصر وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله ـ تعالى ـ ونصره عليهم.
ومنها: أن السيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة) .
فأما التتار: فقد كانوا فاجعة الإسلام والمسلمين في القرن السابع الهجري، في سقوط بغداد - وبها سقطت الخلافة العباسية - سنة (656هـ) وما قبل سقوط بغداد بسنوات، وما بعد سقوط بغداد حيث كانت هذه الأحداث قريبة من ولادة شيخ الإسلام ابن تيمية (ولا بد أن يكون قد شاهد آثار هذا الخراب والدمار بأم عينيه، وسمع تفاصيله المؤلمة عمن رأوا مناظره وشهدوها وشاهدوها، فمن الطبيعي أن يتأثر قلبه الغيور المرهف بنكبة المسلمين هذه وذلتهم، وتمتلئ نفسه غيظًا وكراهية لأولئك الوحوش الضواري) .
وأما ظهور الفرنجة أو (الحروب الصليبية): فقد كانت ولادة ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في بداية الدور الرابع لهذه الحروب الذي يمثل دور الضعف الفرنجي وتجدد قوة المسلمين، باسترداد كثير من المدن الشامية الكبرى، وإكمال مسيرة طرد الفرنج من بلاد المسلمين.
وأما الفتن الداخلية: فما كان يحصل بين المماليك وتنازعهم على السلطة وما كان يحصل بينهم وبين التتر المسلمين، وقد كان لابن تيمية ـ رحمه الله ـ مشاركة في إصلاح بعض هذا .
أما على المستوى الفقهي والفكري والعقائدي ـ وهو ما يهمنا هنا ـ فقد قلَّ الإنتاج العلمي، وركدت الأذهان، وأقفل باب الاجتهاد وسيطرت نزعة التقليد والجمود، وأصبح قصارى جهد كثير من العلماء هو جمع وفهم الأقوال من غير بحث ولا مناقشة، فألفت الكتب المطولة والمختصرة، ولكن لا أثر فيها للابتكار والتجديد، وهكذا عصور الضعف تمتاز بكثرة الجمع وغزارة المادة مع نضوب في البحث والاستنتاج.
ويحيل بعض الباحثين ذلك الضعف إلى: سيادة الأتراك والمماليك، ما سبب استعجام الأنفس والعقول والألسن، إضافة إلى اجتماع المصائب على المسلمين، فلم يكن لديهم من الاستقرار ما يمكنهم من الاشتغال بالبحث والتفكير .
ولا ينكر وجود أفراد من العلماء النابهين أهل النبوغ، ولكن أولئك قلة لا تنخرم بهم القاعدة. وثمة أمر آخر في عصر ابن تيمية أثر في علمه ألا وهو: اكتمال المكتبة الإسلامية بكثير من الموسوعات الكبرى في العلوم الشرعية: من التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها.
فالسنَّة مبسوطة، والمذاهب مدونة، ولم يعد من السهل تحديد الكتب التي قرأها وتأثر بها، ولا معرفة تأثير شيوخه عليه بدقة.
فقد استطاع ابن تيمية أن يُلقي حجرًا في الماء الراكد، وأن يغرد خارج السرب بمفرده .. فقد خلع ربقة التقليد من عنقه، وأعلن احترامه لآراء الأئمة السابقين عليه دون تقديس .. ولكن المقدم عنده هو الكتاب والسنة ... فحيثما وجد النص فهو الدليل. ولم يكن ابن تيمية من أولئك الذين يردون نصوص الكتاب والسنة بتأويلات باردة، أو مماحكات ساذجة، إضافة إلى ما تمتع به ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من قدرة ذهنية خارقة قادرة على تفجير المعاني والاستنباطات المفيدة.
فقد كان – كما يقول الشيخ عائض القرني - صاحب نص؛ مهتم بقول الله ـ عز وجل ـ وقول رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وليس مجرد حافظ وناقل للنص، بل يورد الآية والحديث، ثم يشرحهما مستفيدًا من كلام الأئمة الذين سبقوه، ثم يأتي هو – بفهمه المتدبر المتعقل لكلام الله عز وجل وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم - بكنوز وبدور وبجواهر ما سمع بمثلها، فميزته الكبرى الفقه كل الفقه، والفهم كل الفهم، حتى إنه يرد على الأكابر من المفسرين ممن تظن أن الواحد منهم فرد في بابه، ومع ذلك يلاحظ وينتقد ويعترض ويقول: إن القول الصحيح في تفسير هذه الآية وفي شرح هذا الحديث وفي هذا المعنى هو كذا وكذا، كلام رجل مدرك لمقاصد الشريعة ملم بها، عارف بمدلولات النصوص، متبحر في اللغة متعمق في النحو، صاحب عقلية مستنيرة ربانية مباركة .
يقول عنه الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ في ذيل تاريخ الإسلام: "ثم أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف ثم يستدل ويرجح ويجتهد، وحق له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة وإفحام للمخالف .. وكان آية من آيات الله ـ تعالى ـ في التفسير والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين .. وأما أصول الديانة ومعرفتها ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة، فكان لا يشق فيه غباره، ولا يلحق شأوه .." اهـ.
ولعل المعرفة الواسعة بأحوال الفرق والملل الأخرى هي التي مكنت ابن تيمية من تشييد مشروعه النقدي لهم على أسس مينة وراسخة ... لم يكتفِ فيها بعبارات التحريم وألفاظ الهجوم وفقط، بل عمل على التغلغل داخل أفكارهم وتشرب آرائهم ثم الكر عليها مفندًا وموضحًا ومبينًا.
فاليهود كشف ابن تيمية زيفهم وبيَّن مخازيهم في كثير من كتبه وفي غصون كلامه، شارحًا للآيات التي وردت بصددهم، عارفًا ـ رحمه الله ـ ضررهم على الأمة، وما فعلوه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ملمًا بكتبهم وفرقهم وطوائفهم، كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
أما النصارى فقد عايشهم ابن تيمية في الشام وعرف طوائفهم وفرقهم معرفة تامة، وألف كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) يبين فيه زيفهم وخطورتهم على الإسلام وما خالفوا فيه شرع الله ـ عز وجل ـ وما ضلوا فيه، فإن النصارى علموا بلا علم، واليهود عندهم علم بلا عمل، فبين ـ رحمه الله ـ ما على النصارى من مؤاخذات تقدح في أصول الشرائع وتخالف ما جاء به الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وما نزلت به الكتب، كل ذلك بالإنصاف والحجة والرهان والعدل، ليس بالتشهي ولا بالهوى .
وكذلك الملاحدة .. فالإلحاد جريمة كبرى في الدنيا ولعنة ساحقة ماحقة في العالم، وهو قديم قدم الضلالة في الأرض؛ ولذلك كان ابن تيمية – رحمه الله - يتصدى لهذه النفس سواء من أهل النظم أو أهل النثر، ممن انتسب للإسلام أو من المنتسبين لغيرة من الفلاسفة وأهل المنطق، ومن سار على منهجهم، فيبين انحرافهم المشين، وغوايتهم الظاهرة، وسبب كل غواية، بل يأتي إلى الملحد فيبين أصل إلحاده، ومنشأ هذا الإلحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقولاته، سواء كان من الصوفية الاتحادية أو الحلولية، وسواء كان من أهل الفلسفة أو من أهل المنطق، أو من أهل الهوى والزيف، وقد يجمع له رسالة في ذلك، أو كتابًا مستقلاً في غضون كلامه في مؤلفاته. كما فعل في رسالته القيمة "نقض المنطق" والتي كانت سبقًا علميًا على مستوى الفكر الإنساني عامة وليس الإسلامي فحسب؛ إذ كان ابن تيمية – رحمه الله – من أوائل الذين نبهوا إلى عُقم المنطق الصوري وعدم جدواه كآلة للتفكير السليم الصحيح .. وهو الأمر الذي فطنت إليه أوروبا، بعد ذلك بسنوات طويلة على يد بيكون عندما اتجهت إلى نقض المنطق الصوري والالتفات إلى المنهج التجريبي كبداية حقيقية للنهضة والتقدم ..... فابن تيمية لم يقف أمام المنطق الصورة مشدوهًا مشدودًا غارقًا في تفريعاته وقضاياه الباردة كما فعل معاصروه وسابقوه، بل عكف عليه بالدرس والتحليل ثم الكر عليه بالنقد كأروع ما يكون النقد.
ونقض ابن تيمية الروافض. ومِن أحسن ما كتب شيخ الإسلام في رده عليهم (منهاج السنة النبوية)، الذي يقول عنه الشيخ عائض القرني: "ولو ذهب ذاهب من مكة إلى الصين حافيًا ماشيًا لطلب هذا الكتاب لكان سفره قليلاً ! فإن الرجل بحق أتي بكتاب لم يسمع بمثله، وجادت قريحته بهذا المؤلف المبارك الخالد، فبيَّن كل البيان بالأدلة الشرعية القاطعة، والحجج العقلية، وبالتنزل، وبالحوار الصادق، وبالكلمة الجزئية الناصعة مخالفة الرافضة لأهل السنة، واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهم للشيخين، وكذبهم وافتراءهم وعدم معرفتهم بالنقل، وعدم صدقهم، وعدم وضوحهم في المنهج، والعجب في هذا الكتاب أنه يستدرج خصمه ويستنزله ثم يحفر له قليبًا – كما يقول بعض أهل العلم -، ثم يضعه فيه، ثم يطم عليه ويتركه مكانه . ومنهاج السنة ظهرت فيه أمور منها: الانتصار لأهل البيت، ولأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على الأمة من طريق الرافضة، ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل البيت، وفي أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي المعتقد، وهو الذي عليه أهل السنة واتباع السلف الصالح".
وردَّ ابن تيمية على المعتزلة ..... والمعتزلة قوم قدَّموا العقل على النقل، وقدموا الرأي على الدليل، وأثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، فتتبعهم ابن تيمية ورد عل أئمتهم ردودًا، وأورد من الأدلة القاطعة والجامعة المانعة ما يؤيد مذهب أهل السنة في الباب، وأن أهل السنة ليسوا معتزلة، وأن النقل مقدم على العقل، وبين أن العقل ـ أصلاً ـ لا يتعارض مع النقل، وأتى بكتابه الشهير الخطير الذي يقول عنه ابن القيم: ما طرق العالم مثل هذا الكتاب وهو (درء تعارض العقل والنقل) في عشر مجلدات كبار، بين فيه هذه الشبه وزيفها، ودحضها وأقام الحجة وأوضح المحجة لأهل السنة بجواب شافٍٍ كافٍ .
ورغم أن الأشاعرة هم أقرب الناس لأهل السنة، ومن أئمتهم أناس نفع الله بهم ودافع بهمم عن الملة، بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة، ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل، بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه وأوضح الحق في ذلك؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفي الباقي من الصفات، وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية، وأن من أثبت صفاته لله عز وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات، وأن القول في الصفات كالقول في الذات، وقد ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة (التدمرية)، فليس أهل السنة أشاعرة، بل يثبتون الأسماء والصفات على ما جاء به كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتقيدون في ذلك بالدليل، وهم على ما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله تابعوهم بإحسان، فليعلم ذلك .
وكتب ابن تيمية كتاب (الاستقامة) وجله عن مذهب التصوف، وله كلام في الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى، بين الحق فيها زيفهم، وبين منهم الغالي وصاحب البدعة المكفرة والمفسقة، ورد على الحلولية وعلى الاتحادية وكفرهم، وذكر أئمتهم وبين شبههم ومخالفتهم لكتاب الله عز وجل وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكشف خطورة منهج التصوف على الدين؛ لأن الصوفية أماتوا الدين وعطلوا النصوص، وأماتوا الجهاد، وشابهوا النصارى في قتل النفس، وفي منعها من المباح، وفي الصعاب، وابتداع طقوس ما أنزل الله بها من سلطان،وانتهاج نهج مخالف لأهل السنة في سكناتهم، في موالدهم وفي اجتماعاتهم، في هيئاتهم في خزعبلاتهم وترهاتهم، كل ذلك رائدة الدليل والحق وليس الهوى والتشهي .
كما رد ابن تيمية عل الخوارج والجهمية والقدرية والمعطلة ... وبالجملة كل الطوائف التى خالفت معتقد أهل السنة ردًا علميًا ينم عن عقلية موسوعية فذة قل أن تتكرر مرة أخرى في سماء الفكر الإسلامي، لهذا تداعت عليه العداوات من كل حدب وصوب، وصوبت إليه الأسنة والرماح .. وسعى الواشون بقتله إلى أبواب السلاطين والأمراء .. يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: "إن عالمًا يفتح الله عليه بميراث علم النبوة، وينظر في واقع الحياة فيرى من ظلمات الإعراض عن الوحي والتنزيل ما الله به عليم: حلولية، اتحادية، طرقية بدعية، جهمية، معتزلة، أشاعرة، مقلدة متعصبة، وكل يرى أن ما هو عليه هو الحق، ثم يأتي حامل الضياء فيكاسر هؤلاء وهؤلاء .. لا شك سيكون له خصوم وخصوم مما أدى إلى سجنه تارة والترسيم عليه تارة ومناظرته تارة، وإذايته بالمحن الأخرى تارة أخرى، وإغراء السفهاء وتسليط الدهماء، وهكذا من صنوف الأذى، ومن كل ذلك قد نال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى" اهـ.
ولكن ابن تيمية رحمه الله لم يكن لتوقفه هذه المحن والبلايا، بل زادته إصرارًا على مواصلة مشروعه الفكري والنهوض بالعقلية المسلمة وتخليصها من إسار التقليد .. فعلى الرغم من كون ابن تيمية قد نشأ في كنف المذهب الحنبلي، إلا أن ذلك لم يمنعه هضم المذاهب الأخرى ولم يلزم نفسه التقليد، بل اختار الاجتهاد وكسر قاعدة غلق باب الاجتهاد، وسار كما أسلفت القول خلف الدليل فهو قائده وهاديه .. بل كان ابن تيمية لا يهاب من مخالفة الأئمة الأربعة إذا قاده اجتهاده إلى خلاف ما ذهبوا إليه مع كامل حبه لهم وتوقيره لهم واعترافه بفضلهم وإمامتهم ما استجلب عليه عداوة أتباع المذاهب .. ومن أراد أن يرى قوة عارضته وحجته فلينظر – مثلاً – إلى فتواه بعدم وقوع طلاق الحائض مخالفًا في ذلك اتفاق الأئمة الأربعة فسيرى فيها – سواء اتفق معه أو اختلف - طول نفس وحدة ذهن وقدرة على الاستنباط عجيبة وغريبة .
إن إعمال العقل وكسر الجمود هو أشد ما تحتاجه الأمة اليوم، طالما أنه مرسوم بحدود الشرع .. مقيد بقواعده؛ حتى نخرج من حالة الجمود التي تسيطر على مناحي الفكر والإبداع .. يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: "من حياة هذا الإمام (أي ابن تيمية) التجديدية، ودعوته الإصلاحية تعرف معنى التجديد وأنه قفو الأثر، وإحياء السنن، والتوجه مع الدليل وإصلاح ما رث من حال الأمة بالعودة إلى الكتاب والسنة، ولهذا صارت دعوته ومؤلفاته منارًا لأهل الإسلام .. ومن هنا تعرف زيوف الدعوات التجديدية المعاصرة من بعض من شابهم لوثة في الفكر والاعتقاد ..".
لم يقْفُ ابن تيمية قفو معاصريه في العكوف على كتب السابقين تلخيصًا ثم الكر على الملخصات شرحًا وتوضيحًا في دائرة مغلقة .. بل عمل على تأسيس مشروع نهضوي فكرى يصلح به حال الأمة ويقيم عثرتها ..... ومن المفارقات العجيبة أن الدوائر العلمانية المعاصرة التي جعلت من النماذج القلقة والمنحرفة فكريًا من أمثال الحلاج والطوسي والجهم بن صفوان ... وغيرهم شهداء للفكر لم تنبس ببنت شفة عن الاضطهاد الذي تعرض له ابن تيمية بسبب آرائه الفكرية واجتهاداته الفقهية، لا لشيء إلا لأن النماذج الأولى وغيرها كانت خارجة عن مسار الإسلام الصحيح .. أما ابن تيمية فقد كان على جادة الصواب استطاع أن يجدد للناس أمر الدين بإزالة ما ران عليه من خرافات وجهالات .. فلهذا أهملوا اضطهاده.
رغم كل ما تعرض له ابن من وشايات وبلاءات إلا أنه كان ذا نفس كريمة متسامحة .. يقول القاضي ابن مخلوف المالكي: ـ وكان من ألد أعداء ابن تيمية وممن سعوا في إيذائه ـ: "ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا" ..
هذا هو ابن تيمية ـ الذي يصلح وبجدارة ـ لأن يكون نموذجًا للاحتذاء في زمن الجمود.
المصادر:
1- الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية .. تقديم فضيلة الشيخ / بكر بن عبد الله أبو زيد
2- على شاطئ ابن تيمية .. الشيخ / عائض القرني
13-08-2008
shareah.com
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 785