إن مجتمعنا أورثنا أن نتهم أنفسنا حتى في اليقينيات، ولذلك عجزنا عن تصحيح ما اشتهر على الألسنة، أو تقويم المشهورين من السلف والخلف. والشهرة بالصلاح عندنا تمرر مفاهيم كثيرة حتى تصبح أحكاماً قاطعة، وأعرافاً مفروضة ... نحن نأخذ الدين والدنيا ممن عرف صلاحه ولو كان على حسـاب فسـاد العقل وهلاك الدين. فالصالح فينا ولي، والولي معصوم، والصوفية يجعلون الولي فوق النبي.
وعالمنا الإسلامي - ويا لهول المصيبة- يرزخ تحت نير التصوف من قرون جعل فيها بعضهم التصوف روحاً للإسلام، وبعبارة أخرى جعل الإسلام قالباً والتصوف روحاً ... ولست أعني بهذا المقال أولئك الذين يلتزمون بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً من الصوفية والشيعة.
فهؤلاء لا خلاف فيهم ولا اختلاف معهم، والكلام في الأصل غير موجه للأشخاص، وإنما المراد عرض الآراء لتبين الخطأ والصواب، والكشف عن الحق والباطل. اللهم اجعلني سليم القلب صدوق اللسان، قويم النهج قوي البيان، وأعني اللهم للدفـاع عن الإسلام فهو يهاجم.
الإســلام هوجم في وقت مبكر من الداخل في عقر داره، ومن قبل بعض المنتمين إليه، وتمثلت الهجمة في السبئية اليهودية التي استقرت على مذهب التشيع لعلي وآل البيت. والفرس قد ركبوا موجة الشيعة لمواجهة العرب ومن بعدهم من الأكراد والأتراك في الصراع الدائر على السلطة السياسية، وهم بعدما كسرت شوكتهم لجأوا إلى ما وصلت إليه أيديهم...
فصاغ مؤرخهم الأحداث بما يتفق مع مصالحهم ومخططاتهم؛ بل وجهوا العلوم- بما في ذلك علوم القرآن والحديث- .. فوضع علماؤهم من النصوص، وقرروا بموجبها قواعد فقهية وعقدية تتناسب مع آرائهم ومعتقداتهم...
فقالوا بالبَداء كاليهودية، ودانوا كالمنافقين بالتقية، ونسخوا أحكاماً في الأصول وفي الفروع معلومة من الدين بالضرورة الشرعية...
وحصيلة ذلك أن كثيراً مما لديهم لا يمتُّ إلى دين الإسلام بصلة. وما ذكرناه مجملاً هو مفصل في كتب القوم. ومن تدبر في ماضيهم وحاضرهم عرف أحوالهم وأهوالهم...
والهجمة التالية الباقية ذات الموجة الطاغية قد ركب موجتها الترك سياسياً، وهي متمثلة في التصوف، والصوفية وإن كانت سنية الظاهر، أو سنية في الظاهر إلا أنها تشترك مع الشيعة في الباطن.
والباطن عندهم هو الحقيقة التي يقصدونها، والغاية التي ينشدونها. أما الظاهر وهو الشريعة من الكتاب والسنة، وعمل الصحابة والأئمة، فهو مطية الارتحال إلى الباطن، أو مرحلة الانتقال من القشور إلى اللباب. وطريقهم المعهود هو الفناء بين المريد والشيخ، والرسول والرب سبحانه.
والنصرانية تذهب إلى شيء من هذا في مفهوم الأب الرب والإبن المسيح، والبوذية ومن تابعها يذهبون إلى شبه هذا وذاك.
والحقيقة الصوفية ليست عقلية ولا شرعية؛ بل هي ذوقية وشوقية تمثل حالات انحراف النفس البشرية. ومعلوم أن النفس معرضة للانحراف كما أخبر تعالى: {ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها}.
وقد فطر الله للنفس ضابطاً ينظم أفعالها هو (العقل). وعلى الرغم من دقة جهاز العقل وإحكام نظامه إلا أنه غير كاف ولا واف لصلاح الدنيا وفلاح الأخرى، وذلك لنقصانه في ذاته، ولعجزه في وظيفته بسبب اعتماده على الحواس القاصرة، مما يعرضه للوهم في التصور، والخطأ في الحكم.
ولقد أدرك الله الإنسان بنعمته فأكمل نقصه، وأتمَّ قصوره، فأنزل عليه شرعاً مكتوباً لا خيرة له فيه، ولا عدول منه عنه:
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}
{ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}
{هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون}
وبهذا وبالذي قبله أصبحت نفس الإنسان محاطةً بسورين محكمين، أو محمية بحصنين منيعين، هما:
- العقل الفطري.
- الكتاب الشرعي
والحماية في غاية الأهمية للإنسان، كي يتمكن هذا الإنسان من أداء ما يجب عليه من تكليف ومسئولية.
أما زوال الحماية بإلغاء العقل أو الشرع فيعني ترك الباب مفتوحاً ليدخل ألدّ الأعداء- إبليس وجنوده من الشياطين- الذين يقفون بالمرصاد لاختراق البرزخ الفاصل بين عالم الجن والإنس. ويقوم هؤلاء الأعداء الدخلاء باحتلال نفس الإنسان وتوجيهها واستعبادها.. وفي قضية الظاهر والباطن نجد المتصوفين يتدرجون في الانسلاخ من الظاهر حتى الانتقال الكامل إلى الباطن.
والعلائق عندهم عوائق، والوصــال لديهم بالانفصال. ولذلك فهم يتجردون ويتعرون، لتقع نفوسهم تحت تأثير مختلف القوى، فتكون نفوسهم أشبه بجهاز استقبال، يلتقط من مختلف العوالم كل بث وإرسال .. ومن ذا الذي يمنع إبليس وشياطينه في مثل هذه الحال أن يحتالوا ما شاؤوا، فلا دافع من عقل، ولا مانع من شرع، ولا حسيب ولا رقيب.
إن المتصوفين يمارسون عملية خطرة في إلغاء العقل، وأخطر من ذلك عملهم في إلغاء الشرع، وما يثبتونه منه يدخل أحد بابي الإفراط والتفريط، وما يتعلقون به في جانب غالباً ما يكون على حساب الحب والرجاء في البداية، ثم عكس الأمر في النهاية.
وهم خلال الرياضيات والخلوات يترقبون التلقين والإلهام في اليقظة والمنام، ورؤاهم ورموزهم محكومة بالذوق الشخصي، والتأويل الإشاري الباطني على نحو صنيع الكهان والسحرة والشعراء: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون، والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون}.
إن الاتصال بالقوى الخفية الغيبية - الذي يتم دونما إذن من الرب- هو مخالف للدين الذي يقرر عداوة الشياطين، ويحذر من وسوتهم ومسهم وهمزهم ونفثهم ونفخهم... أعاذنا الله منهم.
وإن استقبال هذه القوى أو الدخول في عالمها لخدمتها أو استخدامها هو العدوان والطغيان... فهو التعدي على سنن التكوين، والتجاوز للحدود الفاصلة بين عالم الإنس وعالم الجن، ولكل من العالَمَيْن حدوده ووظيفته -بينهما برزخ لا يبغيان-.
والخوارق الظاهرة في عالم الإنس مجهولة اليقين هوية وحكماً، فلا يعلم هل هي كرامة وولاية؟ أم هي سحر وكهانة واستدراج؟
ولا يصلح قياس الحال بمقياس التقوى، لأن الظاهر قد يختلف عن الباطن، والتقوى في القلوب غيب مستور في الصدور، علمها عند الله وحده، كما أخبر الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أشار إلى صدره وقال:
التقوى ههنا. التقوى ههنا. التقوى ههنا. ولذا فلا يعلم حال الخوارق وكونها كرامة على التحقيق إلا بالدليل الصحيح السند، القاطع الدلالة، كما في أمره تعالى لنار النمرود: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}.
وكذا تسخير الجن لخدمة سليمان عليه السلام كما ورد في "النحل" و"الأنبياء" و"ص" من سور القرآن. واشتراط اليقين في السند والدلالة سببه أن خرق السنن هو على خلاف الأصل الكوني والشرعي، فالأصل في السنن هو الثبات والدوام كما قضى تعالى وقدر:
{سنة الله في الذين خلوا من قبل}.
{فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}.
{فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
إن المقارنة بين المتصوفين وبين الأنبياء في الإيحاء -بطريق النفث في الرُّوع، أو من وراء حجاب، أو بواسطة الملائكة- هي مقارنة بين بعيدين، لأن وحي الأنبياء كان حقاً وصدقاً بالنص... ولأن الإيحاء إليهم بحراسة مشددة من السماء، ورصد أشداء في الأرض. قال تعالى في صدر سورة الجن: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً}.
وقال تعالى في خاتمة سورة الجن: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً}.
والحراسة والرصد من أجل صيانة الوحي، وحماية النبي، ودفع الشيطان: {وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق}.
{قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس}.
ثم إن المقارنة بين المتصوفين وبين الخضر عليه السلام للاحتجاج على "العلم اللدنِّي" الذي لا يحتاج فيه صاحبه إلى التعليم، هو قياس فاسد لأنه يؤدي إلى تعطيل الأسباب المشروعة والسنن الموضوعة. وفيه تجاوز في حق "الخضر" -العبد الصالح-.
ومن حيث الحكم عليه بالبشرية، وخروجه من دائرة الجن والملائكة، ووقوعه تحت دائرة التكليف والمسؤولية مع نسبة المخالفات الشرعية إليه كقتل الغلام قبل البلوغ، وخرق السفينة لغرقها، وهو إنما كان يؤدي مهمته، ويقوم بوظيفته كما أخبر هو عن نفسه: وما فعلته عن أمري. ومثله في ذلك مثل جبريل تمثل في صورة إنسان. قال فيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الحديث المشهور: ((هذا جبريل آتاكم يعلمكم دينكم)).
وما ذكرناه في باب المقارنة في الحالتين هو على سبيل المثال لا الحصر، ومن يرد المزيد يجده عندهم. فأقوال المتصوفين وكتاباتهم ملأى بالشواهد، والقوم همهم تصيد الشوارد، واقتناص الغرائب، والتعلق بالشبهات، وتأويل المشتبهات والإشارات. والاستدلال عندهم على حساب الدليل، وهم الذين يرون أنفسهم أنهم الملهمون الذين يقتلون الغلام قبل الاحتلام، ويخرقون السفينة ويغرقونها.
إن هجمة التصــوف مستمرة لا تنقطع؛ بل استمرت كما استمرت هجمة التشيع، والتصوف والتشيع شريكان باطنيان موغلان في الفلسفة الغربية، والروحانيات الشرقية. والاختلاف بينهما هو في انكشاف حقيقة الشيعة، وظهور أغراضها، فلم يعد باطنها خافياً.
أما باطنية الصوفية فلا تزال مستورة خفية، وسهل عليها هذا اختراق صفوف المسلمين، بعدما اقتنع العامة، وكثير من الخاصة بالدعوى العريضة لبعض الطرق من أنها (لا تزيد ولا تنقص شبراً واحداً عن الكتاب والسنة وعمل الصحابة) وأنها تطلب الكتاب والسنة شاهدين على كشوفها ورؤاها.
وانطلى الأمر على بعض الحركات الإسلامية المعاصرة التي يهمها الكم، ويشغلها كسب الأنصار عن النظر في الحقيقة والواقع.. فسعت إلى الجمع وكثرة العدد، ول على حساب الإسلام. وما ذلك إلا جهل وتجاهل، والعاقبة وخيمة بشهادة: التاريخ القديم. والواقع المعاصر.
فلقد تمكن التصوف من بلوغ أكبر منصب علمي ديني في العالم الإسلامي المعاصر، وهو منصب شيخ الأزهر في كنانة الإسلام.
وتمكن التصوف من احتلال أكبر منصب سياسي اجتماعي في العالم الإسلامي لقرون عديدة..
فالدولة العثمانية التي تربعت على رقعة واسعة من العالم الإسلامي، وحكمت عدداً كبيراً من شعوب المسلمين، كانت دولة صوفية تدين في الباطن للحقيقة الصوفية، وفي الظاهر للشريعة الإسلامية. فكانت في حكومتها وفي فتوحاتها مدينة لطرق التصوف، حيث كانت ترسل المشايخ والدراويش ليكونوا عيوناً وأعواناً، يمهدون الطريق، ثم يفتحون أبواب الحصون للجنود...
ومن الأمثلة التاريخية المعاينة القضية الكردية، فإن الطرق الصوفية التي كانت في كردستان أدخلت سلطان الأتراك، وحافظت عليه. وكانت أداة تمزيق للشعب الكردي، كما كانت وسيلة إضعاف له.
ومعلوم أن الشيخ أصل يرتبط به خلفاؤه حال حياته، فإذا مات الشيخ الأصيل تمزق خلفاؤه من بعده، وانقسموا على أنفسهم، حيث يستقل كل خلفية ليصبح أصلاً جديداً، وليكون شيخاً كاملاً له ابتاعه وخلفاؤه وعالمه الأوحد، وهذا ما أدى إلى تمزق المجتمع الكردي، وجعل الأكراد مجموعات تضرب بعضها بعضاً في الداخل، وسخرت المجموعات كلها في الحروب الخارجية.
وإلى يومنا هذا فإن بعض الطرق الصوفية الكردية لا زال يؤيد الحكم التركي!! على الرغم من تحول الحكم التركي من الصوفية العثمانية إلى الإلحاد والعلمانية. والغريب أن قادة الصوفية -وهم المشايخ- قد تحولوا من الهوية التركية إلى الهوية الكردية -وهو إرث ثقيل- حتى إنك لا تجد اليوم تركياً شيخاً "مضبوطاً" غير كردي -على حسب تعبير شيخ الإسلام في تركيا [المقصود رئيس الديانة السابق بتركيا]- ولكن عملية التحول لم تفد الشعب الكردي؛ بل على العكس من ذلك أضرت به.
فكثير من الطرق الصوفية الكردية بقصد وبغير قصد هي حجر عثرة في طريق أية حركة كردية تتصدى للكفر، أو تتحدى الباطل، أو تثور في وجه الظلم والطغيان..
إن الطريقة البكداشية أو البكتاشية كما يلفظها الترك هي التي أعطت العهد ومنحت الإذن وباركت العثمانيين في فتح بلاد المسلمين وغيرهم. والطريقة المذكورة هي نفسها التي اتفقت مع أتاتورك لتقويض الخلافة العثمانية فيما بعد... وهذا معنى كلمة مفادها: (إن التصوف هو الذي أوصل الدولة العثمانية إلى أبواب فينا، وهو الذي هدمها أخيراً).
ولم تنقطع بعد أصوات تنادي بعودة الخلافة المسلوبة إلى أصحابها الأتراك العثمانيين... ويا حسرة على البعاد الحنفاء كيف اجتالتهم الشياطين السفهاء..
02-08-2008
saaid.net
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 785