تهافت العلمانية بين "حجاب" تركيا و"عذرية" فرنسا
عصام زيدان
المشاهدات: 7726
في توقيت متزامن تقريبًا كشّرت العلمانية عن أنيابها, وتمعر وجهها غضبًا, وجيشت كل ما في جعبتها من أسلحتها لأمر رأته عظيمًا, وخطب خشيت منه على حالها ومستقبلها, في فرنسا معقل العلمانية الغربية, وتركيا الدولة الإسلامية التي ما برحت بعدُ عقدة التخلص من تراث الموتى والمقبورين.
ففي تركيا استشاط العلمانيون غضبًا من رؤية الفتاة وهي تدخل الجامعة وقد ارتدت على رأسها غطاء الرأس, وأيقنوا أن ذلك مقوضًا للجمهورية العلمانية التي غرسها كمال أتاتورك قبل ثمانين عامًا, فانتفضت الشوارب الضخمة معلنة غضبها من تعديل دستوري ينهي الحظر المفروض على الحجاب في الجامعة, والذي حظي بموافقة البرلمان المعبّر عن رغبة الشعب التركي، الذي انحاز لحزب العدالة والتنمية، معرضًا عن القوى والأحزاب العلمانية..وزجت هذه القوى العلمانية بالمحكمة الدستورية في الخلاف, والتي ركلت بدورها إرادة الشعب التركي، وأفصحت عن وجه مبغض للحرية ولإرادة الشعب التركي المسلم، وأعادت التعديل الدستوري لأصحابه معلنة مخالفة التعديل الدستوري للدستور!!
وفي الزاوية المقابلة, وفي فرنسا انزعجت الطبقة السياسية العلمانية بشدة من حكم قضائي بتطليق زوجة من زوجها في مدينة "ليل" باعتبارها كذبت على زوجها وادعت أنها عذراء, وجاء حكم المحكمة لصالح الزوج بمقتضى المادة 180 من القانون المدني الفرنسي، والتي تقول: "إنه من أسباب وجوب التطليق غياب المقومات الأساسية التي يبنى عليها الزواج", واعتبرت المحكمة أن "الزوجة تعمدت الكذب"؛ وبالتالي فقد "أبطلت أحد هذه المقومات الأساسية" وهي الصدق، أي أنها استندت على كون السبب الرئيس للطلاق هو الكذب وليس العذرية.ولم يرقْ هذا الحكم لعلماني البلاد ورأوه خطرًا محدقًا بفرنسًا, ومستقبل الحداثة والعلمانية في البلاد!!, وفي تعليق ساخر على الحكم قالت "فضيلة عمارة", وهي وزيرة سياسة المدينة أنها ظنت أن "الحكم صدر في مدينة قندهار الأفغانية وليس في فرنسا", واعتبر حزب "التجمع من أجل الحركة الشعبية" أن الحكم "يضع قضية المساواة بين المرأة والرجل محل تساؤل"، في حين اعتبر الحزب الاشتراكي الفرنسي "أن القرار مفزع"، أما الحزب الشيوعي الفرنسي فقد اعتبر أن الأمر يتعلق "بفضيحة".
وتحت هذه الضغوط التي جاءت من أقصى اليمين المتطرف، الذي رأى في هذا الحكم بداية لأسلمة فرنسا، حتى أقصى اليسار الذي أشار إلى انزلاق المجتمع الفرنسي نحو هاوية من وصفهم بالمحافظين الجدد، مرورًا بالوسط الذي رأى في هذا الحكم نتيجة للجو الضاغط الذي يقسم المجتمع الفرنسي ويمنع انصهار الجاليات، وخصوصًا المسلمة منها, أقدمت وزيرة العدل الفرنسية "رشيدة داتي" على نقض الحكم بتوجيه مباشر من الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي.
وهذه الصورة التركية ـ الفرنسية المركبة يمكن أن نقرأ من بين ملامحها حقيقة العلمانية واضحة سافرة بلا غطاء يواري سوءَتها..الحقيقة الأولى البارزة من وسط هذا الركام الذي صدّعت به العلمانية رأس العالم منذ سنين خلت, أنها لا تؤمن مطلقًا بالحرية التي هي كما تدعي ركيزتها الأولى ودستورها المقدس الذي تنتفض إذا انتهك أو لمحت النية في عيون أحد من البشر يريد أن ينتهكها, خاصة إذا ما بدا أنه ينتمي لمعسكر إسلامي..أليس من قبيل الحرية الشخصية التي هي قوام العلمانية وعمود فسطاطها المتهاوي أن ترتدي المرأة ما تشاء دون تدخل سافر من أحد من البشر, أم أن هذه الحرية صك من صكوك الغفران تمنح لمن رضي عنهم دعاة العلمانية وتحظر على غيرهم؟!وأليس من قبيل الحرية الشخصية أن ينفصم الرجل عن زوجته أو لا، بمحض إرادته وإرادتها دون تدخل سافر من أحد, فلِمَ إذن الضجة الفرنسية؟ وقد استعمل الرجل حقه الذي كفله القانون الفرنسي, ورضي هو وزوجته بالحكم؟!فهل بُسط الحرية لا تفرش إلا لتصب عليها موائد العلمانية, ويجري سحبها من تحت أقدام الآخرين, خاصة الإسلاميين؟ وهل هكذا يفهم العلمانيون الحرية ويريدونها؟
ومن وسط هذا الركام أيضًا نطرح الحقيقة الثانية ونتساءل, أين المساواة التي هل علكة في أبواق أرباب العلمانية, يقيمون عليها كل يوم مأتمًا وعويلاً, ثم يكونون هم أول من يغتالها بدم بارد, ودون أي إحساس بالذنب أو التناقض, أو الخجل من هذا الصنيع..أليست تلك الفتاة الجامعية التي أردت أن تضع على رأسها الحجاب تقف على قدم المساواة مع من أردت أن تبدو حاسرة الرأس؟ فهل يقبل دعاة العلمانية ويباركون دولة تمنع حاسرات الرأس من دخول المدارس والجامعات, وتسن قانونًا ودستورًا بذلك, أم أنهم سيقيمون الدنيا ولا يقعدونها على المساواة التي ذهب دمها هدرًا باسم الدين؟!ألم تلجأ فرنسا إلى المحكمة لتفرض قانونًا بحظر الحجاب في البلاد؛ بدعوى الحفاظ على وجه فرنسا العلماني, وأخضعت الجميع لسلطان القانون, فلماذا الآن تغضب فرنسا من القانون؟ هل فقط لأن الأمزجة العلمانية لم تستمزج القانون، ورأت فيه عيبًا بالذات العلمانية؟!
الحقيقة الثالثة التي تبدو بارزة الأنياب كذلك من طيات هذه الصورة, أن أول من ينتهك إرادة الأفراد والشعوب التي هي الركن الرئيس للديموقراطيات قديمًا وحديثًا, هم حماة العلمانية أنفسهم, الذين يرفعون بأيديهم راية الإرادة الشعبية، ويركلون بأرجلهم الشعب ونوابه وإرادته..أليست هي إرادة الشعب, وبغالبية تعدت الثلثين, وبمشاركة الإسلاميين والقوميين وغيرهم، هي التي فرضت نفسها على مجلس النواب التركي، وأخرجت إلى النور هذا التعديل الدستوري, الذي يسمح لا يفرض للطالبات بدخول الجامعة بالحجاب.أليس هذا حكم الأغلبية المعبّر عن إرادة الشعب، والذي يجب أن يُجل ويُحترم كما تقول أدبيات الديموقراطية والعلمانية؟! الم تنتهك فرنسا العلمانية خصوصية الرجل بزوجته, ورضاهما عن الحكم, وراحت تنقضه؛ كي تجبر الرجل أن يعيش مع امرأة لا يريدها, ولا تريده, أهكذا يكون احترام إرادة الأفراد, والوقوف أمام رغباتهم المشروعة باحترام وتقدير.
والحقيقة الرابعة التي تبدو جلية من توجهات العلمانيين في فرنسا أو تركيا, أنهم يسعون حين الضرورة لفك عرى الدولة الحديثة، التي يفتخرون بها، والتي تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات. فقرار المحكمة الدستورية في تركيا يؤكد بلا ريب أنها تجاوزت ما تدعو إليه الدولة الجمهورية من مبدأ الفصل بين السلطات, وعدم تعدي أية سلطة من السلطات الثلاث (القضائية, والتشريعية, والتنفيذية) على الأخرى؛ لأن ذلك يعني ببساطة شديدة تقويض أركان الدولة الحديثة القائمة على التوازن بين السلطات, ووقوعها تحت غائلة وديكتاتورية السلطة الواحدة.
فما فائدة المجلس النيابي والهيئة التشريعية التي تعبّر عن رغبات الشعب، إذا كان من حق السلطة القضائية أن تلغي قراراتها بكلمة, نعم من حق المحكمة أن تتدخل إذا ما كانت هناك مخالفات إجرائية وشكلية, أما أن تتدخل في القرار الذي يتخذه نواب الشعب وتقصيه؛ فتلك بدعة جديدة من بدع العلمانية التركية الحديثة. وتدخل السلطة التنفيذية في فرنسا بهذه الفجاجة في قرار المحكمة, ومحاولة إثنائها عن القرار تحت ضغطالقوى العلمانية, وتدخل السلطات التنفيذية, يعنى في النهاية أنها تريد أن تخضع السلطة القانونية والتشريعية لأهواء الرئاسة، وضغوط القوى المتطرفة في المجتمع. العلمانيون في تركيا, إذن, برهبتهم هذه من حجاب المرأة في الجامعة, واجترائهم على اقتحام منطقة المحرمات؛ من أجل عرقلة هذا القانون يؤكدون أن عروشها لا تعدو أن تكون زخرفًا من القول, وأن قوتها البادية إنما هي نمر من ورق, وأنهم ما عادوا يملكون إلا ورقة المحكمة الدستورية ليواجهوا بها عزلتهم المتزايدة عن مجتمعاتهم، التي أقبلت بوجهها على هويتها الدينية والإسلامية، التي غُيبت قهرًا في سجون القهر الفكري العلماني منذ أطل على الساحة صنم العلمانية "كمال أتاتورك".
والعلمانيون في تركيا, بهذه الخطوة المستفزة للمشاعر الدينية, أيضًا، إنما يجرون تركيا إلى عهود ظلامية وإرهاب فكري منظم، طالما رشقوا به مخالفيهم, واتهموهم به ظلمًا وزورًا, وكانوا هم أول المتلبسين به على مشهد من العالم. وأما فرنسا العلمانية, فأن ترتعد فرائصها, ويضطر الرئيس والقوى السياسية الأخرى للدخول بقوتهم في القضية، ومحاولة لَي ذراع المحكمة من أجل عذرية امرأة يوضح الدركات التي وصلت إليها العلمانية في هذه البلاد. هذه هي صورة العلمانية, بوجهها الخالي من الرتوش وعمليات "شد الوجه" التجميلية.. تنتفض فزعًا من غطاء للرأس تضعه المرأة على رأسها, وتستشعر الخطر من حكم يتعلق بعذرية سيدة كذبت على زوجها, أوهمته بخلاف الحقيقة.. فهل بعد هذا التهافت من تهافت؟!!
19-06-2008
shareah.com
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 785
|