تتفق دعوة السيسي إلى تجديد الخطاب الديني من أجل القضاء على الإسلاموية السياسية كثيرًا مع ما تسعى إليه دولة الإمارات، من مجابهة تيارات الإسلام السياسي من خلال العديد من المراكز البحثية، وفتح أبوابها من مراكز وقنوات تلفزيونية للمفكرين التنويريين، مثل قناة “الحرة” التي أشارت عدة تقارير إلى أن الإمارات اشترتها، وهي المنصة الأشهر التي يخرج فيها إبراهيم عيسى ببرنامجه.
لذلك، وفي ظل عدم صدور إجابة واضحة من أعضاء منتدى “تكوين” عن مصدر تمويلهم، ذهبت أصابع الشك إلى دولة الإمارات، كما أشار تقرير نُشر في موقع مُعارض إماراتي. لكننا سنتجاهل التفصيل في الشك الموجّه لتمويل المنتدى، فهو في النهاية ليس النقطة الأهم، لنتطرق إلى نقطة سماح القاهرة إلى أن يقيم “تكوين” منتداه الأول فيها، دون أي ضغوط مثل تلك التي تمارَس على أي فعالية تنظَّم بمعزل عن السلطة الحالية. ما الذي تستفيده السلطة حقًا من معركة “تكوين” مع “تحصين”؟
“تنوير” بدعوات سلطوية
دعا الرئيس السيسي إلى تجديد الخطاب الديني في أعقاب صعوده إلى سدّة الرئاسة، في خطابات عديدة ومناسبات مختلفة. أي خطاب؟ وكيف يمكن تجديده؟ ومن هي المؤسسات غير الحكومية المسموح لها بذلك؟ كل ذلك لم يجب عنه الرئيس ولم يوضحه في خطاباته، وكان نتاج ذاك الكثير من التضاربات والتناقضات.
لذلك في عصر الرئيس السيسي سُجن المستشار أحمد عبده ماهر، والباحث إسلام البحيري، والباحثة فاطمة ناعوت، العضوان في منتدى “تكوين” واللذان يشيدان بدور الدولة في تجديد الخطاب الديني، سُجنا بتهمة ازدراء الأديان.
وفي مقابل ذلك، لم يكن دور الأزهر مرضيًا لدعوة الرئيس، وما أشهر تلك الدعابة التي انتقد بها السيسي شيخ الأزهر أحمد الطيب: “تعبتني يا فضيلة الإمام!”، أثناء حديثه عن عدم تحرك الوضع فيما يخص منظومة الطلاق.
ونحن نرى أن مؤسسات الدولة التي من المفترض أنها تمثل دعوة الرئيس لتجديد الخطاب الديني هي بحدّ ذاتها مؤسسات متناطحة، وأبرز تلك الأحداث كانت المناظرة على الملأ التي كادت أن تكون مشادة، بين شيخ الأزهر وعميد جامعة القاهرة عام 2020 في مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي.
إن ذلك الاضطراب هو ما يميز “ثورة” الرئيس التي دعا إليها في تجديد الخطاب، مثلًا تعدّ وزارة الأوقاف الذراع الأفعل للحكومة عن مؤسسة الأزهر التي تملك استقلالًا محددًا، لذلك تجد أنه في خطب الجمعة الموحدة كثيرًا ما ينتقد ابن تيمية في آرائه وإبرازها على أنها المسبّب الرئيسي للتطرف، بل الهجوم عليه من بعض مشايخ الأوقاف.
في المقابل، تجد في مسلسل المخابرات “الاختيار” عام 2020 الشيخ رمضان عبد المعز، أحد نجوم الإعلام الديني في عهد السيسي، يتحدث في أحد المشاهد عن ابن تيمية وكيف أنه مظلوم بسبب التقوُّل عليه وتأويل كلامه من قبل المتطرفين.
تكمن المشكلة الحقيقية أن مفكري منتدى “تكوين” العلماني، ورجال دين منتدى “تحصين” المقابل له في الأيديولوجيا، يعاملون المصري كأنه كائن حي غير متطور حتى اللحظة، ومن تلك النظرة ينتج خطاب استعلائي، من جانبه العلماني يفترض على المواطن أنه لا يعلم أن مشاكله الحياتية ليس مردّها إلى الساسة وإدارتهم الفاشلة للبلاد ومواردها، بل السبب كله يكمن في تراث فقهي متكلّس ومنغلق يحتاج إلى فلترة وتجديد.
وفي المقابل، ينظر رجال الدين إلى المجتمع على أساس أنه مجموعة من العوام الدهماء ذوي عقيدة هشّة يهددها أقل جدل حول ثابتة من ثوابت الدين، وهنا ينبروا للدفاع عن ثبات تلك العقيدة وتقويتها، في ظل صمت عن الاعتداء الجسدي والسلطوي الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة على جسد المواطن وحياته اليومية.
تستفيد الحكومة أيما استفادة من تلك المعركة التي تدور يوميًّا على سفاسف الأمور التي تخصّ الدين والتي أنتجها ذلك الخطاب المضطرب، وأقرب شيء كان برنامج الشيخ علي جمعة في رمضان الماضي، أو تغريدات الشيخ عبد الله رشدي الذي يظهر بآرائه المثيرة للجدل في بعض القضايا ويختفي في قضايا حيوية أخرى، ثم يعود ليظهر من العدم بعد ترند “تكوين” ويتحدث عن مناظرة ستقام بينه وبين إسلام البحيري، والتي لن تعدو سوى كونها هزلية أكثر من تلك المناظرة بينهما منذ 9 سنوات.
التنوير ضرورة.. ولكن
يحتاج أي مجتمع إلى تنوير من أجل عدم الوقوع في أزمة أخلاقية ودينية مع الحداثة، وعلى مدار أحداث القرن العشرين الطويل، ولا نريد أن يكون حديثنا هنا عن ماضوية أو حنين إلى زمن كان أفضل وهو لم يكن، لكن في الماضي حملت كلمة التنوير في المجتمع المصري الكثير من الأفكار التي اشتبكت مع المنظومة التقليدية للسياسة والدين على حدّ سواء، وليس الدين فقط.
فقد أُثيرت العديد من القضايا مثل الحق في تعليم البنات، وتجديد مناهج الأزهر العلمية، وإدخال المواد العلمية الإمبريقية وألا يكون الأمر متوقفًا على العلم الشرعي، وزواج القاصرات، وختان الإناث، وحق المرأة في العمل السياسي والانتخاب، وكانت ثمار كل تلك المعارك على مدار قرن أننا نراها الآن كشيء بديهي كان دومًا موجودًا.
ولكن لدى كلمة “التنوير” في العهد الحالي حمولة ثقافية مختلفة، دائمًا ما تحمل إلى العقل صورة عن شيطنة البخاري وابن تيمية وصلاح الدين وخالد بن الوليد والحجاب سبب البلوى والتخلف، والكثير من الشخصيات والمواضيع التي لن تفيد المجتمع في شيء، والحجّة دائمًا أنه يجب تحرير العقل من التراث أولًا.
في الواقع، يمكن لهؤلاء المفكرين أن يطالبوا بحرّية مناقشة البخاري لكونه ليس كتابًا مقدسًا، والتجريح في شخصيات فاعلة في التاريخ الإسلامي لأنها ليست معصومة، لكنهم لا يجرأون على أن يطالبوا الدولة مثلًا أن تطالب مقارعة الفكر بالفكر، ومواجهة الكتاب بالكتاب، بأن يقولوا لوزارة الأوقاف ووزارة الثقافة أن تسمحا بطرح الكتب الممنوعة لسيد قطب أو المودودي من جديد في المكتبات.
ولا شك أن القضايا التي يطرحونها أكثر حيوية واشتباكًا مع ما يمسّ وضعنا اليوم، والأجدر بالنقاش مع تلك الأفكار، وليس مصادرتها وحجبها. لكنهم لن يجرأوا على الوصول بمطالبهم إلى هذا الحد.
هنا يحضر نموذج الدكتور الراحل نصر حامد أبو زيد دائمًا، والذي انتقد في الكثير من المقالات ما أسماه بـ”التنوير الحكومي” على أساس أنه تنوير لا يعوَّل عليه في شيء، وأنه يجب للمثقف المنوَّر أن يكون مستقلًّا عن السلطة، وليس بوقًا لها مثل إبراهيم عيسى في مصر، أو فراس السواح الأعمى عن بشار الأسد في سوريا وجرائمه.
يقول أبو زيد في مقاله: “وليس الاستقلال دعوة متعالية ضد العمل بقدر ما هو دعوة لتأكيد أهمية الرقابة النقدية في المجتمع، حتى في حالة تماثل مشروع النظام السياسي مع مشروع المثقف أو المفكر. وبعبارة أخرى يجب التمييز بين قيام المثقف بدوره من خلال فعاليته كمثقف ومفكر وبين أن يتحول إلي موظف في سلك السلطة السياسية. هناك فارق لا شك بين دور المثقف كحارس للقيم وناقد وبين دور كلب الحراسة”.
كذلك يؤكد المفكر برهان غليون في كتابه “نقد السياسة” على مدى فراغ تلك المعارك الجوفاء باسم التنوير والعلمنة: “إن الاستمرار في النظر إلى معركة العلمانية على أنها معركة تحرير العقل من الخرافة الدينية وأن هذا التحرير هو شرط التقدم الاجتماعي والحضاري، ينحو إلى طمس حقيقة أن معركة العلمانية هي بالأساس معركة سياسية، خدمت الممارسة العقلانية، لكنها ليست مطابقة لها وإن كانت من أدواتها”.
وضيف غليون: “والحال أن الدين في العالم العربي لم يعد مركز أو مقر السلطة، ولا مصدر قيمها وأفكارها الموجهة، لقد أصبحت الدولة، ومن ثم السياسة المدنية، هي هذا المركز والمقر، ولا يمكن اليوم محاسبة الدين على أنه سبب التأخر أو الفشل في مجتمع إلا بقدر ما يمكن محاسبة العلوم والآداب والفنون عليهما”.
“فبقدر ما أصبحت جميع المجتمعات خاضعة شاءت أو أبت، لقوانين العصر السياسي الذي نعيشه، تظل السلطة العمومية في جميع الأحوال هي المسؤولة سواء كانت دينية كنسية أو مدنية دولوية، وهي مسؤولة لأنها هي التي تحدد السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك السياسة الدينية ذاتها، وبنية الدين ودوره ووظيفته”.
دائمًا ما يحاول الحكّام تمويه الصراع الطبقي بأن يجعلوا ثقافة معيّنة في مواجهة ثقافة أخرى، أو عنصرًا عرقيًّا في مواجهة عنصر عرقي آخر، وهذا تفعله الحكومة أيضًا في تعزيز الهوية القومية وملف اللاجئين ولذلك شأن آخر.
فكما يرى المفكر والمؤرخ بيتر غران، فإن الحكم الفعّال هو الذي يقسم الكتلة الجماهيرية في بلد ما ضد نفسها، عن طريق التلاعب بالعواطف الغريزية لدى الجماهير، وخلال هذه العملية يخفي على الجماهير ما هو مشترك بينها جميعًا، وهو القهر الواقع عليها من قبل القوى الحاكمة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: