قلنا منذ بداية طوفان الأقصى: إن ما يجري في أرض غزة، سواء على أيدي رجالها الذين يسعون لتحريرها من نير الاحتلال الصهيوني، أو من أهلها بثباتهم وصبرهم البطولي، يذكرنا بما كنا نقرؤه في الكتب عن جيل الصحابة والسلف الصالح في عصور الإيمان الذهبي للأمة، ولم نكن مبالغين في ذلك، ولا مجاملين لأحد، وهو ما شد انتباه الجميع مسلمين وغير مسلمين، العرب والغرب على حد سواء.
وما نراه من إعلان استشهاد أشخاص أطلقوا كلمات وصارت ما يعرف بالتريند، ثم معرفة أسمائهم، بعد أن كانت أسماء مجهولة، خير دليل على ما ذكرنا من قبل مجملا، وجاءت الأحداث والشخصيات تفصله وتؤكده، فعلى مدار أيام قلائل مضت تم الإعلان عن وفاة صاحب عبارة: ولعت، وصاحب عبارة: حلل يا دويري، ثم بعدهما مباشرة، يخرج مجهول آخر أطلق عليه عبارة: صاحب المعطف الأنيق.
وهذه العبارات وأصحابها، لها دلالات مختلفة، منها ما هو إيماني يرسخ في الأمة معنى الإخلاص لله في العمل، والتجرد لله تبارك وتعالى، ليس طلبا لجاه أو منصب، فمعظم أصحاب هذه العبارات قالوها وانتشرت، ولم يعلم أحد من هو؟ ولم يسع أحد لاختطاف العبارة ونسبتها لنفسه، مما دل على صدق القائل، وصدق من حوله، فعبارة كتبت لها القبول والانتشار بهذا الشكل، في مجال آخر غير مجال النضال، نجد عراكا وخلافا حول قائلها، فهذا ينسبها لنفسه، وذاك ينسب نحتها له، أو فضل قولها.
لكنا لم نجد ذلك، لم يختلف أحد على أن قائل هذه العبارة أو تلك هو فلان، ودلالة إخلاصهم، أنهم لم يسعوا لذلك وهم أحياء، بل نشر ذلك عنهم أقاربهم بعد لقائهم بربهم، وتلك من عاجل بشرى المؤمن، أن يجد أثر عمله حيا، ثم بعد أن يموت يبقى أثره وأثر كلمته.
وهو ما يذكرنا بتاريخنا المزهر، حين حاصر مسلمة بن عبد الملك، حصنا، واستعصى فتحه عليه، حتى يسر الله للمسلمين رجلا قام بنقب في جدار الحصن فدخل منه، وفتح لهم الحصن، فطلب مسلمة أن يلقى صانع هذا النقب، فلم يخرج من الجيش كله أحد، ثم أقسم على صاحب النقب أن يأتيه في خيمته وحده.
فوجئ مسلمة بشخص ملثم، يدخل عليه، فسأله: أأنت صاحب النقب؟ قال: أنا من سأدلكم عليه، لكن له شروطا ثلاثة: ألا تأمروا له بعطاء، وألا ترسلوا اسمه للخليفة في كتاب، وألا تخبر أحدا به عندما أخبرك، فوعده مسلمة بذلك، فأشاح الرجل اللثام عن وجهه، وقال: أنا صاحب النقب. فكان مسلمة إذا قام الليل، أو صلى دعا في سجوده: اللهم احشرني مع صاحب النقب.
ومن الدلالات المهمة التي لا تفوتنا في مشهد هؤلاء المجهولين، أنهم ضربوا مثالا للتنوع لدى من يقاومون الاحتلال، فتارة ترى ثياب معظمهم بسيطة، وأحيانا حفاة لا يلبسون شيئا في أقدامهم، وأخيرا من يرتدي ثيابا مهندمة وأنيقة، فيدل بذلك على أن طوائف الشعب منخرطة في النضال، وليس فئة واحدة، وعلى أن النضال موضع إجماع بينهم لا يخرمه أحد.
المفاجئ في مشهد أحد المجهولين، وهو صاحب تريند: ولعت، أن بعض المواقع المصرية كتبت أنه يحمل الجنسية المصرية مع جنسيته الفلسطينية، وأنه كان مقيما في مصر آخر عامين من حياته، ولكنه ذهب لغزة في الصيف، ثم حدثت الحرب، فبقي بها، إلى أن لقي ربه شهيدا، وهو ما يعيد للأذهان هذا التضامن الذي كان موجودا بين العرب والمسلمين، في مقاومة أعدائهم.
بداية بسليمان الحلبي الذي قتل قائد الحملة الفرنسية في مصر (كليبر)، وعاونه على ذلك أربعة من غزة، من قراء القرآن الكريم، ومن طلبة الأزهر، مر عليهم في غزة، عند عودته من حلب إلى مصر، وأخبرهم بما ينوي، فقرروا معاونته، فلنا أن نتصور كيف كانت تحكم الناس آنذاك التصورات الدينية، فهم يخلصون مصر من احتلال لا يشكون منه في بلدانهم آنذاك، ولكنه الإيمان بأن الأمة كلها جسد واحد.
عبارات كثيرة قيلت في هذه الحرب، وهذه الملحمة التي يعيشها أهل غزة، وكثير منهم مجهول، وقليل منهم معلوم، ربما يعرف قائل العبارة بعد وفاته، وربما وهو حي يرزق، كما في عبارة وائل الدحدوح: معلش، وغيرها من العبارات، وهو ما يدل على أن المجهولين في غزة كثر، وهم مجهولون عند الإعلام والناس، ولكنهم معلومون في السماء، عند ربهم الذي لا يغفل عنه شيء، سبحانه وتعالى.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: