سؤال ممض ومزعج: لماذا لم يحرر الحداثيون العرب فلسطين قبل أن يعاود الإسلاميون الظهور في الساحة؟ لقد أخذوا فرصة زمنية كفيلة بإعادة تكوير الكرة الأرضية، لكنهم انتهوا في أوسلو إما منخرطين بمجاميعهم أو متعاطفين أو مبررين لكل الفعل الانهزامي، ولا تزال صورهم قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم مع الانقلابات العربية المعادية للديمقراطية؛ تقتحم بيوتنا عبر تلفازاتهم. لقد حدث أكثر من انقلاب عسكري في تاريخ العرب الحديث بعنوان معلن تحرير فلسطين من العراق إلى مصر عروجا على ليبيا والجزائر، ولكن لم يتم التحرير إلا بالأغاني الثورية التي تستحضر فقط في مناسبات محددة ثم يعود عدوية "بالسح ادح انبو".
لقد بدأ الإسلاميون حرب التحرير منذ ما قبل قيام الكيان، ثم بقدرة قادر طمس جهادهم باسم توحيد الأمة من أجل التحرير الشامل (كأن التحرير يمر أولا بقطع العلاقة مع الجهاد المؤسس)، ثم كانت مرحلة من النضال العجيب في نُزل فخمة انتهت في أوسلو، حتى كانت حماس. هذه أسئلة حول الفشل الحداثي في معارك التحرير.
قوالب الحداثة المضروبة
ما زلنا مضطرين إلى خوض نقاشات عقيمة مع قوم يروجون بعدُ أن الإخوان المسلمين ومن تناسل من فكرتهم هم صناعة المخابرات الإنجليزية؛ التي زرعتهم لتخريب أمة العرب العظيمة ذات الرسالة الخالدة، وتحت هذه اليافطة تم تدمير تنظيمات شعبية وقُتل الآلاف في السجون والمعتقلات حتى لا يكون هناك مخذّل خلف الجيوش الشجاعة التي ستحرر الأرض المحتلة وتبني الأمة الماجدة. صدر هذا الخطاب من عراق ومن سوريا البعث(يين) ومن مصر الناصرية ومن ورثها وإن أنكر الناصرية، ومن جزائر الجنرالات ومن ليبيا التي لا نجد وصفا لائقا لنظامها العبثي.
في طريق الحرب على التيارات الإسلامية وتنظيماتها تم نسيان فلسطين والادعاء ببناء الحداثة العربية، وروجت الأفكار أن التحرير لا يكون إلا بخطة تحديث تتجاوز الفكر الديني المتخلف والرجعي والظلامي، إلى آخر المعزوفة التي نسمعها لأكثر من سبعين سنة. ومن العجيب أن مشاريع التحديث أخذت بمجامع التحديث الغربي إلا تحديث السياسة عبر إطلاق الحريات وبناء الديمقراطية، حتى صار كل من يحمل علامة دينية يُقصى من الحق في الحياة وصار الذهاب إلى المساجد جريمة في زمن بن علي التونسي.
كان كل خطاب الحداثة يقرن جملة التحديث الاجتماعي بجملة تحرير الأرض ورمي العدو في البحر، وفي الأثناء أرّخت الحداثة لحرب التحرير بنشأة حركة فتح مغفلة ما قبلها، ولا تزال تعتبر أن كل نضال خارج منظمة التحرير هو خيانة للقضية. وقد وصلت الوقاحة بهذا التيار وكثير من رموزه المتحكمة في الإعلام والثقافة والجامعات أن حركة حماس في هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تدعم المشروع الصهيوني؛ إذ ناوشت اليمين الصهيوني ليفتح معركة تمهد لحكم اليمين الديني في إسرائيل من أجل تقاسم السلطة معه في فلسطين، ليستقر الأمر لليمين الديني على حكم العرب؛ أي والله لقد قرأنا هذا في مقالات الحداثيين التونسيين وفيهم من يكتب من مقاهي باريس مطمئنا إلى سلامة منطقه.
لكن الحقائق على الأرض مختلفة، ولا يمكن للحداثة وتياراتها من اليسار والليبراليين والقوميين أن يغيروها بعد حرب الطوفان. معركة التحرير تجري الآن وهنا، وتقودها تيارات إسلامية وترفع شعارات دينية وتتحدث عن الشهادة والجنة بينما يقف تيار الحداثة وراء شلة أوسلو.
الطوفان يجرف الحداثيين المزيفين
من بركات الغزوة الطوفانية أن جرفت مفكري الحداثة ومشروعهم في التحرير، وجعلت أفكارهم ومواقفهم محل تندر وسخرية. يُظهر الكثير منهم مواقف جديدة تبدأ غالبا بنعم؛ نعم للتحرير ولكن ليس بخطاب ديني ومرجعيات ظلامية. وهذه التوبة المشروطة هي التي تحول هؤلاء إلى مسخرة.
سؤال كبير يعود إلى سطح النقاشات: ماذا في إسلام التحرير يتناقض مع الأفكار التحديثية التي زعم الحداثيون أنها مدخل المستقبل؟ هل الدين الذي يحتمي به المقاوم في لحظة انتصاره يدخل تحت باب أفيون الشعوب؟ هل التحرير أفيون؟ هل يكون المرء رجعيا مظلم العقل وهو يتسلح ويقاوم وينتصر؟
لقد صحح الطوفان للكثيرين موقفهم، وستمتد المراجعات إلى أبعد من حرب غزة 2023، لذلك نراها تحرر عقولا كثيرة غُم عليها بخطاب حداثة ركب السلطة بالدبابة. حرب الطوفان أسقطت الحداثيين العرب وأطروحاتهم وصارت هي بوابة التحديث، فلا تحديث خارج المرجعيات الأصيلة للشعوب حيث تسقط كل الأطروحات الزائفة التي قادت إلى أوسلو بعد أن أسست لكل الديكتاتوريات العربية؛ من قدم منها على دبابة أو من زيف الصندوق الانتخابي منذ النكبة الكبرى.
إننا نرى اليسار بكل مسمياته والقوميين بكل عناوينهم والأنظمة الحاكمة بكل صيغها؛ مجتمعين وراء عباس/ أوسلو وإن تظاهروا بإنكاره هذه الأيام، ونسمعهم ينتظرون اندحار حماس والجهاد ليقولوا "انظروا ماذا فعل الخوانجية بالقضية"، ولكنهم يقفون مبهوتين أمام صمود المقاومة وحاضنتها الشعبية التي كان صمودها بحجم قوة مقاومتها.
أفق الطوفان
طوفان غزة حرر عقولا وحرر إرادات وأعاد وضع القضية في موضعها الذي هي به جديرة، ومنه تكمل مسارها نحو التحرير الشامل ناقضة بذلك نضالات مزيفة كان أغلبها يتم في صالونات مخملية ولم تحمل سلاحا.
هل سيكون الإسلاميون وحدهم في الساحة حتى التحرير الشامل؟ أجيب بلا واضحة، فهناك من يقف معهم بعد، ولكنه لا ينكر عليهم وجودهم ولا دورهم وهو يشاركهم فيما يفعلون دون ادعاءات حداثية كاذبة. هؤلاء جزء من معركة التحرير ورفقاء طريق النصر حتى خطوته الأخيرة، لذلك فإن ما كتبناه أعلاه ليس إنكارا لصدق الصادقين ولا لشهادة من استشهد في معارك حقيقية، بل هو تأكيد على معنى واضح معركة التحرير لا تتناقض مع الحداثة بل هي الحداثة نفسها، فلم نعرف شعبا عاش حداثته تحت الاحتلال أو بالتنسيق الأمني المقدس معه. ولأنها كذلك فإن الإسلامي جزء مكين منها وقد يكون الأقدر عليها بحسب مجريات المعارك الحقيقية لا معارك المؤتمرات الخمس نجوم.. الطوفان ينظف ويفرز ويفتح الطريق نحو حداثة مستقلة ستكتب نصوصها في قادم الأيام.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: