توظيفات "طوفان الأقصى" في تونس وتناقضاتها الداخلية
عادل بن عبد الله - تونس المشاهدات: 674
تصدير: "سنسترجع فلسطين، كل فلسطين وسننتصر إن شاء الله.. المجد والخلود للشهداء.. إما أن نعيش أحرارا أو أن نموت شهداء.. لا مكان للخونة بيننا ولا مكان للعملاء" (من أقوال الرئيس قيس سعيد بمناسبة زيارته إلى منطقة المنيهلة بالعاصمة التونسية).
لفهم عبثية الوضع التونسي بعد "طوفان الأقصى"، لن نجد أفضل من المشهد التالي: في برنامج على إذاعة وطنية (صاحبها ذو العلاقات الملتبسة بفرنسا وبالمنظومة القديمة)، وهو برنامج يديره الإعلامي برهان بسيّس (أحد رموز المنظومة القديمة من اليسار المشرف على "تجفيف المنابع"، وأحد المتحولين إلى مناصرة "المقاومة"، بعد أن كان بوقا للنظام المطبّع مع الصهاينة)، طلب الصحفيُ مراد الزغيدي (أحد المناصرين للانقلاب المصري والمشيطنين لحركة الإخوان والمناصرين لفرنسا المتصهينة)، من زميله نجيب الدزيري (وهو يساري معاد للحركات الإسلامية ومتحول من مناصرة نبيل القروي إلى مناصرة الرئيس و"تصحيح المسار")، الطلب التالي: "قل كلمة واحدة ضد الإمارات العربية"، فأجابه بكل وضوح: "لا، فأنا أمتلك عقلا". ليوقفنا على أكبر تناقض في العقل السياسي المهيمن على المشهد الإعلامي: اللسان مع المقاومة، والمصلحة مع أعدائها في محور التطبيع.
رغم أننا لا ندعي أن كل المنابر الإعلامية التونسية هي نسخ من هذا المنبر، فإننا لن نجانب الصواب إذا قلنا؛ إن المشهد المذكور أعلاه يكاد يكون هو المهيمن على أغلب المنابر الإعلامية العمومية والخاصة. فليس أدلّ على فشل الانتقال الديمقراطي أو على عدم وجود "نخب بديلة"، من تلك الوجوه التي تهيمن على المشهد الإعلامي. فغالبيتهم من ميراث المنظومة القديمة، أو من الصحفيين و"الخبراء" والضيوف الذين كانوا معاول هدم للانتقال الديمقراطي وبناء المشترك الوطني، الذين لا تتجاوز علاقتهم بالمقاومة "الإسلامية" علاقة فرنسا الاستعمارية بالقيم الكونية لثورتها، وعلاقة النخب "الحداثية" بالديمقراطية وتمثيل الإرادة الشعبية. وبحكم غياب أية مراجعات أو نقد ذاتي، فإن خلفياتهم الأيديولوجية المعادية بالجوهر للحركات الإسلامية، تجعل من الصعب الإيمان بمبدئيتهم في الدفاع عن "حماس"، أو التبري من أعداء "المقاومة" في محور التطبيع والثورات المضادة، بل تجعل من الصعب تصديق انحيازهم "القلبي" (أي الانحياز الذي يتجاوز المزايدات الخطابية) للموقف الرسمي التونسي.
بعيدا عن المناكفات السياسية لأنصار الرئيس وخصومه، فإن الموقف الرسمي التونسي من الكيان الصهيوني ومن المقاومة هو ضرب من "الطفرة" في موقف الدولة التونسية منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، بل هو ضرب من "كسر أفق الانتظار"، حتى إن قورن بمواقف الرئيس قبل "طوفان الأقصى"، فكل ما قاله الرئيس منذ حملته الانتخابية من كون "التطبيع خيانة عظمى"، سنجد ما ينسفه واقعيا في الكثير من المواقف اللاحقة. أليس الرئيس هو من رفض استعمال الأولوية في تقديم مشاريع القوانين وتراجع عن مشروع "تجريم التطبيع" الذي وعد به؟ أليس الرئيس هو الذي لم يكرّم الشهيد الزواري بمنح الجنسية التونسية لأرملته؟ أليس الرئيس هو الحليف الاستراتيجي لدول "محور التطبيع" وصفقة القرن، وللمشروع الفرنكفوني الذي يحاول إنقاذ فرنسا ومصالحها في أفريقيا؟ أليس الرئيس هو من "كرّم" رئيس سلطة التنسيق الأمني واعتذر عن مقابلة موفد حماس إلى تونس؟ أليس الرئيس هو من ثمّن الانقلاب العسكري المصري الذي حاكم "الإخوان" بتهمة التخابر مع حماس؟
إن الانطلاق من المقدمات المذكورة أعلاه، سيجعل من الموقف الرئاسي الحالي نتيجة غير منطقية، أو على الأقل نتيجة غير مرجّحة أو غير منتظرة؛ فالمنطق البراغماتي الذي حكم المواقف الرئاسية منذ وصوله إلى قصر قرطاج، لا يجد حاضنته السياسية داخليا وخارجيا إلا في محور التطبيع، أو على الأقل في "المنطقة الرمادية" التي هي منطقة الأمان لأغلب المواقف الرسمية العربية، وهو ما دفعنا إلى القول بأن الموقف الرسمي التونسي هو ضرب من "الطفرة"، وليس انتقالا نوعيا؛ وذلك لأن التراكمات الكمية للمواقف السابقة لا يمكن أن تؤديَ إليه.
ولا شك عندنا في أن الخصوم والأنصار لن يتعاطوا مع الرئيس بهذا المنطق؛ فأنصار "تصحيح المسار" سيرون في ارتفاع سقف الموقف انتقالا نوعيا له، ما يفسره في موقف الرئيس الرافض للتطبيع، أما الخصوم، فسيرون فيه مجرد موقف انتهازي هدفه استمالة الرأي العام، كما سيرون في حديثه عن تحرير فلسطين (كل فلسطين) مجرد مزايدات شعبوية، تتعارض حتى مع دستور 2022 ذاته (وهو دستور يعترف بالشرعية الدولية وبحل الدولتين مثل باقي الدول العربية الممضية على بيان قمة بيروت سنة 2002).
مهما تباينت المواقف من الرئيس في الملفات الداخلية، فإننا نستطيع أن نجزم بوجود إجماع وطني على تثمين الموقف الرسمي التونسي من المقاومة ومن الكيان الصهيوني. فرغم أبواق التطبيع ومداخله "الخفية"، ظل المواطن التونسي-مثل أغلب المواطنين العرب- منحازا للحق الفلسطيني، ورافضا لقرارات الجامعة العربية، ومتندّرا بمواقفها. وقد جاء موقف الرئيس متجاوزا لكل مواقف من سبقوه، بمن فيهم الرئيس الأسبق منصف المرزوقي، فلا أحد من سابقيه تحرك خارج "الشرعية الدولية"، ولا أحد طعن في حق "إسرائيل" في الوجود، أو تكلم عن ضرورة استرداد "فلسطين، كل فلسطين".
ولا شك عندنا في أن ارتفاع سقف المطلب الرئاسي لا معنى له، إلا حين تصاحبه قرارات سيادية تبعده عن المزايدات التي لا محصول تحتها. فأي معنى للموقف التونسي إذا ما بقيت تونس في الجامعة العربية التي تعترف بحل الدولتين؟ وكيف يمكن فهم الموقف التونسي في تعارضه مع الدستور الذي يعترف بالشرعية الدولية أي بحل الدولتين؟ وما هي قيمة الموقف دون اتخاذ ما يستوجبه من قرارات ديبلوماسية واقتصادية ضد "الحلف السداسي" وضد محور التطبيع العربي؟ وكيف يمكن المضي في هذه القرارات دون وجود جبهة داخلية صلبة، تؤسس لمشروع التحرير الوطني وتبني مقوّمات السيادة، بعيدا عن منطق التخوين وعن مشاريع الاستئصال الصلب والناعم؟
إن "متناقضات" المشهد التونسي لا يمكن أن تُختزل في مواقف السلطة ولا في "الخطوط التحريرية" للإعلام المرتبط باستراتيجياتها للهيمنة، فللمعارضة أيضا متناقضاتها التي تجعل من الصعب عليها توظيف القضية الفلسطينية لتغيير المشهد الداخلي في تونس. إن التونسيين لا يمكن أن ينسوا أن من حكم قبل 25 تموز/ يوليو 2021 لم يتخذ أي موقف مناصر لفلسطين في مستوى موقف الرئيس، كما لا ينسى التونسيون أن "التوافق" قد قام على التطبيع ثقافيا واقتصاديا وتشريعيا مع الصهاينة ورعاتهم في الغرب اليهو-مسيحي. ولا ينسى التونسيون كذلك أن أغلب رموز المعارضة قد شيطنوا "حماس"، بل لا ينسون أن بعضهم قد دعا إلى تصنيفها "حركة إرهابية"، بعد أن احتفل مع الانقلاب العسكري المصري بـ"الثورة التصحيحية"، وشرب نخب ضحاياها في رابعة وغيرها.
ولا يمكن إخراج حركة النهضة من هذا الحكم العام، فهي قد عجزت عن تكريم الشهيد الزواري وعن إظهار دعمها الصريح للمقاومة الإسلامية، بل كادت تتبرأ من حماس ومن خلفيتها "الإخوانية"؛ بحكم الابتزاز الذي خضعت له في ملف "التنظيم العالمي للإخوان"، وفي مسألة "التَّونسة". ومهما كان قرب الرئيس من محور التطبيع ومن فرنسا، فإن موقفه بعد طوفان الأقصى يجعله في موضع أخلاقي وسياسي لا يقبل المقارنة بخصومه على الأقل في السياق الحالي.
ختاما، فإن توظيف السلطة التونسية لطوفان الأقصى سيُقوي موقفها داخليا تجاه خصومها، ولكنه سيضعف علاقتها الاستراتيجية بحلفائها الإقليميين والدوليين (ما عدا الجزائر)، وهو ما سيجعلها مضطرة إلى تغيير تحالفاتها الخارجية أو التراجع عن مواقفها وإفراغها من أي معنى قد يهدد علاقتها بمحور التطبيع والثورات المضادة، وبالجهات الدولية المانحة/ الناهبة الخاضعة للوبي الصهيوني.
أما المعارضة، فإن القضية الفلسطينية لم تستطع إخراجها من مربعاتها الأيديولوجية التقليدية. فأن يعلن زعيم حزب العمال السيد حمة الهمامي (وهو الشخصية اليسارية المعروفة) أن حماس "الإخوانية" أقرب إليه الآن من سلطة التنسيق الأمني؛ لا يعني أن موقفه من حركة النهضة "الإخوانية" قد تغير أو أنه ينوى التحالف -ولو مؤقتا- معها، كما أن انتصار قواعد النهضة وما تبقى من قياداتها خارج السجون لحركة حماس، لا يعني أنهم قد راجعوا موقفهم من منطق "التوافق" مع وكلاء منظومة الاستعمار الداخلي المرتبطة بنيويا بالصهيونية العالمية، أو تصالحوا مع هويتهم "الإسلامية" التي تعاملوا معها منذ الثورة وكأنها "كعب أخيل" في علاقتهم بنخب حداثية وظيفية؛ هي بالجوهر والقصد أداة المتصهينين الفرنسيين والمطبعين العرب في تونس.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: