يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أعود إلى الكتابة في موضوع مطروق مرتبكا وخجلا من قارئ قد يمر على مقالين متشابهين؛ وقرفا في الآن نفسه من توضيح الواضحات الذي صار من الفاضحات. أكتب في عقدة النخبة التونسية (والتعميم عربيا جائز بقوة) أمام الإسلام السياسي؛ أسميها عقدة ولا أفسرها بغير الكسل الفكري أمام مقترحات مختلفة عن النموذج التحديثي المستزرع في عقول النخبة بفعل مدرسة وضع مناهجها وقادها فرنسيون من وراء البحر رغم حديث الاستقلال والسيادة.
الانقلاب فاشل في تونس وهذا محل إجماع كل الطيف السياسي والفكري وزواله قريب، وهذا أيضا مُجمع عليه لكن من يحل مكانه إذا سقط؟ هنا تتضح العقدة وهنا يكمن الحل، ولكن من يصيد دبا في ألاسكا ليبيع جلده؟ يقول الجميع في مجالسهم هذا الانقلاب فشل وهو بصدد تخريب البلد، لكن إذا سقط الآن فإن القوة الوحيدة التي يمكن أن تأخذ مكانه أو مكانة كبيرة من بعده هي حزب النهضة الإسلامي، ثم تكمل بقية الجمل لعنات (نسمعها ولا نكتبها). نطوف حول جوانب الفكرة لعلها تتضح فتريحنا من ترديدها.
نخبة كسولة ومعقدة
المدرسة التونسية البورقيبية بامتياز الممولة فرنسيا منذ الاستقلال بنت في أذهان التونسيين صورة للعالم (والمفهوم للوسيان قولدمان) ليس فيها الدين، بل علمانية يعقوبية طبقا لمبادئ الثورة الفرنسية التي قيل إنها شنقت آخر قسيس بأمعاء آخر إقطاعي أو أمير قروسطي.
زرعت الفكرة في الجيل الأول فنقلها إلى الأجيال عبر الجامعة والإعلام وكل مفاصل التعليم، فلما ظهر الإسلاميون في الصورة أُغلقت دونهم الأبواب وقيل الرجعية العربية والظلامية الدينية، وشُنت الحرب عليهم مند خمسين سنة ولم تضع أوزارها لكنهم ظلوا هنا يقترحون فكرة مختلفة (أكرر التعميم عربيا جائز، ففرنسا ونموذجها مرّا من مصر والشام وشمال أفريقيا وقدما نفس الأفكار والمنهج).
هذا الميراث منع إعادة النظر في مسائل حيوية متعلقة بنموذج التحديث في الوطن العربي (وتونس جزء منه)، لذلك تم إغلاق باب النقاش في علاقة التحديث بالتراث وعلاقة الديمقراطية بالمسألة الدينية، وخُتم على قلوب النخبة التي استمرأت كسلها في مسلّماتها وواصلت نسخ دروس الجامعة الفرنسية لطلبتها، ومن الجامعة إلى الإعلام إلى الإدارة ظل الأمر على ما هو عليه؛ الخطاب الإسلامي ومن يمثله هم ردة وجب تجاوزها.
وقد بُني نظام المنافع والمواقع على هذا الأساس فظهر الإسلاميون وخاصة بعد الثورة كمن يسرق خبزة من يد آكلها (ولا حق له فيها)، فهو تهديد وجب محوه. وكان هذا سببا مباشرا في الوصول إلى الانقلاب وكسر مسار بناء الديمقراطية التي يجد فيها إسلاميون خبزة مع الآخرين؛ تلك الخبزة محرمة على كل إسلامي، والانقلاب في مجمله وفي خطواته هو عملية قطع يد سارق لم يسرق شيئا من أحد، ولكن نخبة كسولة فكريا اتفقت معه حتى اللحظة فهو ضمانة مكاسبها وليتها كانت مكاسب حقيقية.
إنهاء الانقلاب محال دون الإسلاميين
هذه حقيقة يقف عليها كل الطيف التونسي السياسي والفكري بعد سنتين ونيف من الانقلاب، وعلى عتبة انتخابات مضروبة ينظمها المنقلب ليحكم على هواه. لكن هذا الطيف يرتد إلى إسناد الانقلاب لما يراه في وضوحه، وفي أفضل الأحوال ينزوي ويقول الانقلاب أقل سوءا من "الخوانجية"؛ لأن فكرة التعايش مع الإسلاميين تزعج كسله الفكري ويشعر بأنه مضطر إلى إعادة قراءة التاريخ الذي تعايش فيه ضمن نموذج حكَم وضعي المتدين والعلماني وبنوا تجارب ديمقراطية. هذا جهد مضنٍ؛ أسهل منه تحمّل فقدان الحرية والعيش تحت حكم الغباء المطلق.
فئة أخرى تسند الانقلاب بغير سند فكري وإنما بناء على نظام المصالح، فقدوم الإسلاميين إلى مواقع القرار والمشاركة يعني تقاسم منافع الحكم التي احتكرها هذا الطيف منذ الاستقلال. والإسلاميون يمثلون في العمق موجة شعبية محرومة تبحث عن حصتها من غنيمة الحكم؛ فهم منافس وجب قطع يدهم قبل أن تمتد إلى المائدة العامرة، وهم من الكثرة بحيث لا يمكن رشوتهم بالقليل كما تم إخضاع اليسار بالرشوة.
إذا كانت النخبة المثقفة والأكاديمية لا تفضل الحرية على المراجعات الفكرية المضنية (التي ينفذ منها إسلاميون)، وإذا كانت نخبة المنافع/ المواقع/ الامتيازات تفضل الاستحواذ على القسمة مع إسلاميين فقراء (متسلقين)، فمن سينهي الانقلاب؟ العقدة تتضح.. كم ثمن جلد دب في ألاسكا؟
نسمعهم ولا نصدقهم
لا نصدق من نسمع هذه الأيام، خاصة إذا بالغ في لعن الانقلاب وسمى المنقلب بالاسم. نعرفهم أفرادا واتجاهات وحديثهم لا يمر من "زُورنا"، لقد اعتقل المنقلب أعداءه الفعّالين، ولكنه سمح للمزيفين بالمطالبة بتحريك الجيش ضده وفي التلفزيون المفتوح. لعبة مكشوفة لكنها لا تخفي حقيقة جليّة: الشارع لن يتحرك ضد الانقلاب لأن من يحركه مسجون والبقية مزايدون، والقلة القليلة التي وعت المشهد لم تؤلف بعد قوة في الشارع وقد لا تفعل.
لا نبيع جلد دب حي.. الانقلاب ماض في طريقه وأبعد من الانقلاب تتأجل الديمقراطية ولو تدخل ملك الموت في إنهاء الانقلاب؛ لأن معركة أخرى واجبة هي مراجعة مسلّمات النخبة التي صنعت بهوى فرنسي، وقبول الإسلاميين في عملية ديمقراطية طويلة النفس تدرب الجميع على التعايش وتخضعهم لأحكام الصندوق الانتخابي (لقد هربوا من الصندوق نصف قرن لكن الصندوق ما زال فارغا ينادي الديمقراطيين).
هذه هي شروط إنهاء الانقلاب وشروط بناء ديمقراطية من بعده، ففي النهاية الانقلاب مرحلة ضمن سياق غير ديمقراطي ولا يرتبط بشخص المنقلب فما هو إلا واجهة، وإذا توفرت شروط الديمقراطية فلن يكون هناك انقلاب ثان، وحتى ذلك الحين نتابع ساخرين (الحقيقة نخفي الإحباط في ضحكات بائسة) نخبا تونسية تروج لبيع جلد دب في ألاسكا وتوهم الشعب بغنيمة الانقلاب. ما ذنب الدب في ألاسكا؟ لا ذنب له سوى أنه بعيد جدا عن تونس ويمكن الإيهام بصيده، وكلما بعُد في الجغرافيا بعُد في التاريخ، ثم توزيع حقن الصبر على الانقلاب على الشعب الذي عبر البحر إلى غير رجعة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: