في ذكرى 11 سبتمبر.. الولايات المتحدة أضعف وأعداؤها أكثر
حسن أبو هنية - الأردن المشاهدات: 1333
لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تحتفي بذكرى هجمات 11 أيلول/ سبتمبر بحماسة شديدة، فبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن تبدلت الاهتمامات والأولويات الأمريكية، وبرزت تحديات حقيقية أكثر خطورة وجدية في النظام العالمي؛ مع حلول الذكرى الـ22 للهجمات التي نفذها تنظيم القاعدة وأودت بحياة نحو 3 آلاف شخص وسوّت ما كان يعرف بمركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك بالأرض، وفي حقبة كانت الولايات المتحدة تعتبر نفسها بمنأى عن أي تحد جدي أو تهديد حقيقي عقب خروجها منتصرة من الحرب الباردة.
بددت كارثة 11 أيلول/ سبتمبر وهم الأمن والسلم الأمريكي، وسرعان ما سيتبدد معها حلم ديمومة التفرد والهيمنة، حيث دفعت غطرسة القوة الولايات المتحدة إلى شن حروب "العبرة" في أفغانستان والعراق التي أفضت إلى قتل أكثر من 800 ألف مدني، ومقتل نحو 6200 من الجنود الأمريكيين، وإنفاق نحو سبعة تريليونات دولار، وحوّلت الولايات المتحدة العالم إلى ساحة معركة وتدخلت في أكثر من 50 دولة تحت ستار الحرب على الإرهاب، التي طغت على بنية العلاقات الدولية على مدى عشرين عاما، وبذريعة الأمن والاستقرار أهملت حقوق الإنسان وأهدرت الحريات، وتراجعت الديمقراطية وشاع الاستبداد.
واليوم مع بروز تحديات جيوسياسية دولية بعودة روسيا كمنافس استراتيجي وفرض الصين نفسها قوة عالمية، واختلال موازين القوى في الشرق الأوسط، وصلت واشنطن إلى قناعة بضرورة وضع حد ونهاية لتلك الدورة الاستراتيجية وطي صفحة من التاريخ كان فيها الجهاد العالمي العدو المعلن الوحيد، وعادت المنافسة الاستراتيجية بين القوى العظمى كمحدد للنموذج العالمي مع بروز مواجهة مع الصين تبشّر بحرب باردة جديدة بين واشنطن وبكين.
لم تعد أخبار وأنشطة وعمليات الجهادية العالمية على سعتها وانتشارها تجذب اهتمام العالم، ذلك أن الولايات المتحدة هي من تتحكم في تحديد الأولويات والتحديات والمخاطر الجيوسياسية الكونية، فعقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية وجدت الولايات المتحدة ضالتها باختراع عدو غير مرئي أطلقت عليه "الإرهاب الإسلامي"، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر أصبح مفهوم الحرب الأبدية على "الإرهاب" استراتيجية راسخة وأداة ثابتة لشن حروب الهيمنة والسيطرة، ورغم أن معظم حالات ما يسمى "الإرهاب" هي مسألة عنف سياسي محلي، تجاهلت الولايات المتحدة الأسباب الجذرية للعنف والتي كانت هي أحد أكبر صنّاعة.
تبدّلت اليوم الأولويات الاستراتيجية الأمريكية وأعيد تعريف المصالح الحيوية، فعقب زيادة وتنوع المخاطر التي تهدد مكانة الولايات المتحدة المستقبلية تحوّل "الإرهاب" إلى مصاف التهديدات الثانوية، رغم أن ما يسمى "الإرهاب" أصبح أكثر انتشاراً وتنوعاً وتعقيداً. فقد برزت تحديات أخرى في وجه الولايات المتحدة إلى جانب الإرهاب، تشكل تهديداً لمكانة أمريكا العالمية، وتتكون هذه التهديدات من مجموعة متنوعة داخلية وخارجية، ومن أهمها تنامي قوة الدول المنافسة كالصين وروسيا، إلى تحدي الدول المارقة كإيران وكوريا الشمالية، ومن توسع الحروب التقليدية إلى مكافحة الانتشار النووي، ومخاطر التغير المناخي.
وقد شكل عام 2021 نقطة تحول في كل من الإرهاب المحلي والدولي، حيث شهد الهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي من جماعات يمينية وفاشية، والنهاية الفوضوية لأطول حرب أمريكية في أفغانستان، إذ تعرضت حملة مكافحة الإرهاب الأمريكية لضربة مزدوجة مدمرة في عام واحد، وكلا الحدثين يشيران إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى مستقبل أكثر قتامة وأكثر غموضا في مجال مكافحة الإرهاب.
في خطاب ألقاه الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال إحياء الذكرى رقم 22 لهجمات 11 أيلول/ سبتمبر، في حفل متواضع في قاعدة عسكرية بولاية ألاسكا، دعا الشعب الأمريكي للوحدة رغم الخلافات السياسية التي تشهدها الولايات المتحدة، وحثّ بايدن في خطابه الشعب على إحياء ذكرى الهجمات بتجديد إيمان مكوناته ببعضها، مضيفا: "يجب ألا نفقد حسّنا بالوحدة الوطنية، فلتكن هذه القضية المشتركة في زمننا هذا"، وقال: إن الإرهاب، بما في ذلك العنف السياسي والأيديولوجي، نقيض لكل ما تدافع عنه الولايات المتحدة.
وتأتي دعوة بايدن لنبذ الإرهاب والعنف السياسي والأيديولوجي، في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحدي تنامي الجماعات اليمينية المتطرفة التي تؤمن بنظرية تفوق العرق الأبيض، والتي باتت تشكل تحديا أمنيا في البلاد، وفي ظل استقطاب سياسي حاد تشهده الولايات المتحدة، وسط توقعات باتساع هوة الانقسام بين الأمريكيين مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة التي قد يتنافس فيها بايدن مع الرئيس السابق دونالد ترامب؛ الذي يُحاكم بعدة قضايا من بينها محاولة التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية.
تجنب بايدن إعطاء تقييم لحصيلة الحرب الكارثية على الإرهاب، فكل شيء هو منافسة انتخابية، وأشار إلى مخاطر الإرهاب الداخلي وصعود حركات التفوق العرقي البيضاء، في إشارة إلى ما شهدته الولايات المتحدة، في 6 كانون الثاني/ يناير 2021، من أعمال شغب لم تألفها من قبل، عندما اقتحم المئات من أنصار ترامب مبنى الكونغرس وعاثوا فيه فسادا.
فقد بايدن تجنب الحديث عن الكارثة الأخرى التي تسبب بها في نفس العام بقرار الانسحاب الكارثي من أفغانستان في آب/ أغسطس 2021 وعودة طالبان للحكم، مرة ثانية وتحول أفغانستان إلى ملجأ آمن للقاعدة، تماما مثلما كانت في 11 أيلول/
سبتمبر 2001، وهو ما يدحض ما طرحه الرئيس جو بايدن في آب/ أغسطس 2021 من مبررات الانسحاب، حين قال: "أي مصلحة لنا في أفغانستان بعد رحيل القاعدة؟"، في محاولة لتبرير قراره الانسحاب من ذلك البلد. وأضاف: "ذهبنا إلى أفغانستان لهدف واضح وهو التخلص من القاعدة هناك، وقد فعلنا"، وهو زعم غير صحيح، فقد ذكر تقييم للأمم المتحدة أنه "لا تزال طالبان والقاعدة متحالفتين، ولا إشارة على انهيار العلاقة"، وهو ما يتفق مع كافة التقييمات الاستخبارية والبحثية.
وتشير حصيلة حرب الإرهاب بعد أكثر من عشرين عاماً بصورة جلية؛ إلى أن الاستراتيجية العسكرية التي ما تزال الولايات المتحدة تنتهجها لخفض تهديد الإرهاب لم تفشل وحسب؛ بل إنها جعلت الأمور أسوأ على الأرجح، فالولايات المتحدة لم تحرز تقدماً يُذكر نحو ضمان سلامة أمريكا على المدى الطويل من الإرهاب العالمي، فقد وجدت أمريكا نفسها تعود مرة أخرى إلى نقطة البداية مع عودة سيطرة طالبان على أفغانستان وتوفير ملاذ آمن للقاعدة، وأدت حرب الإرهاب الأمريكية إلى بروز نهج جهادي عالمي أكثر خطورة مع تنظيم الدولة، وأصبحت الجهادية العالمية شبكة عالمية ممتدة وأكثر خطورة ليس من أولوياتها النكاية ومهاجمة أمريكا والغرب، وإنما باتت أولوياتها تتمثل بالسيطرة المكانية والتمكين وإقامة خلافة محلية.
برهنت السنوات العجاف للحرب على الإرهاب على أن إلحاق هزيمة نهائية بالحركة الجهادية غير واقعي ولا ممكن، فلا زالت الجهادية العالمية تتمتع بجاذبية كافية، إذ لا يتعلق الأمر بمقاربة عسكرية لمجموعات تعمل خارج سياقات الدولة والمجتمع، فتستند الجهادية إلى أسباب جذرية عميقة سياسية واقتصادية واجتماعية، وهي تأخذ أبعاداً متغيّرة ومرنة، وتتمتع بالقدرة على التكيّف مع التحولات.
وبعد أن كانت القاعدة تنظيماً نخبوياً طليعياً مركزياً في أفغانستان، أصبحت الآن أكثر انتشاراً، وباتت تتنافس فيما بينها على النفوذ والسيطرة، وأصبحت أشد خطورة بعد انقسامها إلى ثلاث مدارس جهادية، حيث شهدت الجهادية العالمية انشطاراً وانقساماً، عقب ثورات الربيع العربي، إلى ثلاث مدارس رئيسة:
الأولى: تتمسك بأجندة القاعدة التقليدية، والتي تنص أولويّاتها على قتال العدو البعيد ممثلاً بالغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية وراعية لحليفتها الاستراتيجية "إسرائيل"، وتبنت نهجاً قتالياً واستراتيجياً يقوم على تنفيذ عمليات قتالية انتقامية تستند إلى مفهوم جهاد "النكاية"، من خلال طليعة مهمتها الوصول إلى خلق حالة إسلامية تصل إلى جهاد الأمة.
والثانية يقودها الفرع العراقي المعروف بـ"الدولة الإسلامية" وترتكز أجندته على أولوية مواجهة العدو القريب، في إطار عقيدة شمولية تقوم على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والدولية، والجمع بين أنماط وأساليب الجهاد المختلفة، وفي مقدمتها جهاد "التمكين" من خلال فرض السيطرة المكانية على الأرض، وفرض حكمه وتطبيق الشريعة، وإعلان الخلافة.
والثالثة تتشكل من مجموعات جهادية تتبنى مواقف محلية أقرب إلى الفرع السوري المنشق عن القاعدة بقيادة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وهي قريبة من نهج حركة طالبان في أفغانستان، حيث سعت الهيئة للتخلص من إرث القاعدة والدولة باعتبارها تتوافر على أجندة متشددة على الصعيدين الأيديولوجي والاستراتيجي، وشرعت بتقديم نفسها كمجموعة جهادية محلية دون أي أجندة جهادية عالمية.
إن التجاهل الأمريكي لما أطلقت علية الحرب على الإرهاب، هو نتيجة بروز تحديات جيوسياسية أخرى، إذ لم يعد الشعب الأمريكي ينظر إلى الجهادية العالمية بتنظيميه "القاعدة" و"الدولة" كتهديد وخطر، وتراجعت التغطية الإعلامية، وحلت مكان الجهادية العالمية مخاطرُ وتهديدات أخرى. فقد اعتبرت إدارة بايدن الصين "التحدي الجيوسياسي الأكبر في القرن الحادي والعشرين" على حساب مكافحة الإرهاب، وذلك في انسجام مع الغالبية العظمى من المسؤولين والدبلوماسيين والمثقفين الأمريكيين. وأمريكا تنحرف باتجاه حرب باردة جديدة مع الصين، بهدف المحافظة على مكانتها أو استعادة التفوق الأمريكي، لكن ما هو متفق عليه أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر ضعفاً وتواجه مخاطر متنوعة ومعقدة داخلية وخارجية.
خلاصة القول أن الولايات المتحدة تجد نفسها في الذكرى 22 لهجمات أيلول/ سبتمبر في وضعية هشة وضعيفة، إذ لم تحقق الحرب على الإرهاب غاياتها وأهدافها، فلا تزال الجهادية العالمية تشكل تهديداً للأمن الأمريكي، وهي تتمدد في مناطق عدة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وقد أفضى الانشغال الأمريكي بحرب الإرهاب إلى بروز تحديات الإرهاب الداخلي مع تنامي حركات التفوق العرقي البيضاء، وبروز تحديات جيوسياسية دولية بعودة روسيا كمنافس استراتيجي وفرض الصين نفسها قوة عالمية، وباتت سردية الجهاد العالمي كعدو معلن وحيد من الماضي، حيث عادت المنافسة الاستراتيجية بين القوى العظمى كمحدد للنموذج العالمي مع بروز مواجهة مع الصين تؤذن بحرب باردة جديدة بين واشنطن وبكين.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: