انقلاب النيجر يحرضنا أن نقول إنه يمكن التمرد على فرنسا وطرد سفيرها وإنهاء دور شركاتها المحتلة لأفريقيا والناهبة لخيراتها. نراقب عن كثب ونرى الانقلاب لا يزال هشا ومهددا بتدخل بلدان الجوار التي نامت عسكرية وقامت ديمقراطية، كما نتابع آثار الحصار الاقتصادي الذي أمرت به دول الجوار، والنيجر لا تملك منفذا بحريا يسمح لها بتدبر أمرها، كما نراقب عدد النصحاء الخائفين فجأة على النيجر وشعبها من الحرب والذين يفرطون في نصحها بالديمقراطية وخاصة عدم الثقة في الدعم الروسي؛ كما لو أنهم ولدوا ديمقراطيين، وكثير منهم يصدر في نصحه للنيجر عن خوف غريزي ركبه من مجرد تخيل العالم الذي يعيش فيه بدون خضوع لفرنسا المحتلة. لكن رغم ذلك فإن احتمال النيجر (أثر الفراشة النيجرية) يعد بالتحرر وإنهاء دور فرنسا في أفريقيا إلى الأبد.
لا يجب تلقي نصائح من تونس
أربأ بنفسي أن أتحدث لشباب النيجر بلغة الينبغيات ولو كانوا يقرؤون لي (فرنسا قضت على العربية في النيجر المسلمة منذ احتلتها)، لكن إذا بلغهم قولي فإن عليهم ألّا يتلقوا نصائح من التونسيين بمن فيهم الإسلاميون. فالتونسيون بكل أطيافهم السياسية وكل نخبهم مصابون بلوثة فرنسية تخالط دمهم وتفسد خيالهم، وأزعم أنهم أكثر مجموعة بشرية ترهب فرنسا ولا تتخيل العالم دون الخضوع لها، لذلك فنصائحهم في هذا الباب هي مثل إدارتهم لثورتهم. لقد كانوا على أبواب التحرر من فرنسا ذات شتاء ساخن لكنهم سلموا أمر بلدهم وثورتهم إلى حكومة شكلتها لهم فرنسا وأرسلت إليهم وزراء "مفتاح في اليد"، وما حدث بعد ذلك كان بتخطيط فرنسي كامل هدف إلى الإبقاء على تونس مدجنة تربي فيها فرنسا كتاكيت.
المالكون للمعرفة الاقتصادية في تونس يعرفون أرقام الشركات الفرنسية العاملة في تونس في كل القطاعات، وقد كان دور كل الحكومات بعد الثورة (دعنا مما قبلها فذلك معروف ومكشوف) هو الحفاظ على حقوق هذه الشركات ورفع أرباحها. وكانت النقابة أكبر حام لهذه الشركات فلم تحرك فيها أي احتجاج، بل خربت الشركات العمومية وهيّأتها للتصفية، والجميع يعرف أن أول من يتقدم لشرائها هو الفرنسي المتربص والعارف بخفايا الاقتصاد التونسي.
لذلك فإن كل نصيحة تونسية أو تحليل يتظاهر بالحياد وينتهي إلى التشكيك في الدور الروسي أو الصيني في النيجر وفي أفريقيا عامة ويخوف من الانقلابات العسكرية؛ هو تحليل مرعوب من صورة العالم دون فرنسا. ونذكر أن كثيره يصدر عن نخب تقف مساندة لانقلابات في تونس وفي مصر ولا ترى غضاضة في ذلك، لكنها بكل وقاحة تتحدث عن أن الدبابة لا تجلب الديمقراطية في النيجر.
التحرر من فرنسا باب للتحرر من كل قوة
إذا كان قدر شعب من الشعوب أن يتحرر من فرنسا فإنه يصير قادرا على التحرر من كل قوة خارجية ولو تظاهرت بالمساعدة، يشبه الأمر أن نقول إن من صعد الإفريست لن تعجزه قمة أخرى أدنى منها. (ونذكر أن الحديث عن دور روسي في النيجر ليس مبنيا على موقف رسمي من قادة الانقلاب، وإنما هو استنتاج إعلامي من مشاهد المظاهرات الشعبية وكثير منها عفوي وهي تحمل العلم الروسي، وقد يكون ذلك طلب نجدة من شعب مقهور أكثر منه نتيجة دعم عسكري روسي على الأرض).
تاريخ الغزو الاستعماري الأوروبي ترك لنا فجوات مقارنة فوجدنا أن أشد أنواع الاحتلال هو الاحتلال الفرنسي. لقد كان الإنجليز ينهبون الهند لكنهم يتركون للهنود عشاءهم على طرف المائدة، أما الفرنسيون في أفريقيا فقد كانوا يأكلون كل الوجبة ويأمرون الأفارقة من تونس إلى الكاميرون بغسل الأواني. الفرنسيون يحتلون عقل البشر ويكيفونه بثقافتهم وشعارهم كان دوما "ثقافتنا تمهد الطريق لشركاتنا"، وهذا سر قصور خيال المحتلين عن تخيل العالم دون خضوع للثقافة الفرنسية ومن ورائها الشركات.
وهنا يكمن الأمل في انقلاب النيجر فحركة محاصرة السفارة وطرد السفير (ولنفترض أنها مسرحية موجهة من الانقلاب) تكشف أن طريق الخلاص يمر من هناك إسقاط صورة فرنسا المخيفة من نفوس الناس، وعلى هذا تبنى سياسات تحررية ولو بعد حين.
إن الحراسة المشددة على سفارة فرنسا في تونس تظهر على خرائط جوجل من فرط كثافتها، وقد جرّم القضاء التونسي عمليات حرق العلم الفرنسي التي تجرأ عليها بعض الشباب بينما وجهت حكومات الثورة كل المظاهرات بعيدا عن موقع السفارة، وهي بالمناسبة نفس مقر المقيم العام الفرنسي منذ بداية الاحتلال في القرن التاسع عشر.
وليس ذلك في تأويلنا إلا صورة للرعب الساكن في نفوس التونسيين وخيالهم (المكبل بثقافة فرنسا)، فيملي عليهم خوفهم وقصورهم الذهني ما يحفظ مصالح المحتل، حتى أنهم بكل ثورييهم وإسلاميين لم يجرؤوا على تغيير اسم شارع واحد من شوارع تونس العاصمة يحمل أسماء المحتلين.
نختصر: إذا تجرأ شعب ركب دبابة أو تجمهر في الشوارع على التخلص من الخوف من فرنسا فإن كل احتمالات التحرر تنفتح أمامه، بما فيها طرد قوة أخرى تتظاهر بالمساعدة وتخفي نواياها الاستعمارية كما نتوقعه الآن من فعل الروس والصين في أفريقيا.
الطريق طويلة لكن خطوة أولى قطعت
لن تصبح النيجر أو أي بلد أفريقي يشبهها اقتصاديا وثقافيا دولة مستقلة حرة غدا صباحا، بل إن الطريق لا تزال طويلة وشاقة وستعمل القوة الاستعمارية الفرنسية على تخريب كل الاحتمالات التحررية، فما تعجز عنه بالعسكر تسعى فيه بطابورها المزروع في كل بلد احتلته. وهو ما تفعله مجموعة الإيكواس حاليا إذ تشن حربا بالوكالة، وهو ما قامت به في جزائر التسعينات لكسر مسار انتخابي مستقل، وما فعلته في تونس بعد ثورتها التحررية. لقد قامت نخب هذه البلدان بالدور الذي رغبته فرنسا وكسرت كل مسار تحرر من الهيمنة الفرنسية، وهذا وارد جدا في النيجر، خاصة إذا أفلحت سياسة التجويع التي تُشن الآن على النيجر (لن ننتظر جسرا جويا روسيا يمول النيجر بالقمح لمواجهة الحصار الفرنسي).
لكن خطوة الجرأة على فرنسا أُعلنت وانطلقت وسيكون لها ثمن قاس، ولكن سيكون لها أيضا -وهذا يقين- مستقبل من الحرية، وللحرية ثمن تأجل دفعه في كل بلد احتله فرنسا. وقد تعلل قوم كثير بالشفقة على شعوبهم وتعلل آخرون بأن الخروج من الفقر يحتاج سندا، وكلها مبررات تبثها فرنسا وتتلقاها نخبها المرزوعة في الأجهزة والجامعات وتتحول إلى كوامن لا واعية تعيق التفكير.
أول خطوات الحرية هي تحرير الوعي وتحرير المخيال، وما نراه في النيجر نقرأه كبداية تحرر ولو كان الانقلاب كامنا يتربص من وراء الخطاب الشعبوي. إنها الخطوة الأولى التي تستحق الإشادة في انتظار تبلور وعي تحرري شامل يضع كل القوى الاستعمارية هدفا للطرد أو دفعها إلى التعامل باحترام وندية مع شعوب المنطقة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: