أ.د. علي عثمان شحاته - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 756
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
آية كريمة في كتاب الله لخصت حال الإنسان بين الحياة والموت إلى البعث والجزاء: وهي قوله تعالى: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» طه: 55. تأمل الأفعال: (خلق- أعاد- أخرج) ستجد بينها مشتركا هو الأرض التي هي موطن الابتلاء والاختبار، والتي منها الخلق وإليها الإعادة ثم البعث والنشور للحساب والجزاء، قال تعالى: " "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ" سورة يس:51.
ثم إن قضية البعث بعد الموت محسومة لا مجال لمعارضتها، فالعقل والمنطق لا يترك مجالا لإنكارها؛ ولذلك حسمها الله تعالى في الآية السابقة من سورة طه؛ فمن خلق وأحيا وأمات، لا يعجزه البعث بعد الموت للحساب والجزاء، وفي سورة يس إلجام آخر للمنكرين، لا تجد عقولهم له ردا ولا جوابا، يقول الله تعالى: "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ" يس: 78-81
وآية سورة طه: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» تبين أن الذي خلق وأعاد وأخرج هو الخالق المبدئ المعيد سبحانه وتعالى، وكل مرحلة يقطع الإنسان فيها زمنا لا يحيط بعلمه وما فيه إلا الله تعالى: فالمرحلة الأولى: ما بين الخلق من الأرض والإعادة إليها. والثانية: ما بين الموت إلى النفخ في الصور النفخة الأولى للبعث من القبور (حياة البرزخ). والثالثة: ما بعد الخروج من القبور يوم القيامة للحساب والجزاء، يوم يوفي الخلق بما عملته أيديهم في الدنيا.
** والمرحلة الأولى (حياتنا على ظهر الأرض) وهي التي يترتب عليها السعادة والفلاح والفوز في المرحلة الثانية والثالثة، على الرغم من أنها بالنسبة لكل إنسان قد تكون أقصر المراحل عمرا، لا سيما أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو القائل عن أعمار أمته: "أعمارُ أمتي ما بينَ الستِّينَ إلى السبعينَ وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ" أخرجه ابن ماجة والترمذي بإسناد حسن.
** والمرحلة الثانية (الحياة البرزخية) لها نهاية ومدة تنتهي عندها بنفخة البعث التي سبقتها نفخة الموت، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ، قالَ: أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيَنْبُتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ، ليسَ مِنَ الإنْسانِ شَيءٌ إلّا يَبْلى، إلّا عَظْمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ" أخرجه البخاري.
واليقين الذي لا يقبل الشك أن المرحلة الأولى التي هي الخلق من الأرض ومدة بقاء كل إنسان فيها تعتبر - بيقين- قصيرة جدا، إذا ما قورنت بالمرحلة الثالثة والأخيرة التي هي مرحلة ما بعد البعث والحساب والجزاء، والتي هي الخلود الدائم الذي لا موت بعده، ومن هنا يمكن أن نتأمل قول الله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ» آل عمران: 185.
تأمل: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) لماذا هي متاع الغرور؟ لأنها قصيرة ومتاعها قليل زائل يغر كثيرا من الناس؛ فبفعل الأهواء والرغبات ودوافع النفس الأمارة بالسوء ومكائد الشيطان، كل ذلك قد يدفع البعض إلى الاغترار بالدنيا فيفرط في الخالد الباقي، ويتمسك بالزائل القصير الفاني. وتزداد الحسرة أكثر حين ينظر المغرور إلى قيمة ما فقد؛ لقد فقد النعيم الدائم والسعادة الأبدية، حين ينادي المَلَك يوم القيامة بأمر ربه فيقول: "يا أهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} ..."
إن آية: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» مع ما أنزل الله في كتابه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، تعتبر نذيرا للأحياء (لمن شاء منكم أن يستقيم) فلننتهز فرصة الحياة، في أن نمر - بفضل الله ورحمته- من هذا الاختبار؛ لنحقق سعادتنا الحقيقية "فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ".
وحتى لا يكون حال البعض منا كحال من إذا جاءه الموت طلب من الله الرجوع، لعله يتوب ويعمل صالحا، ولكن هيهات هيهات، قال تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" سورة المؤمنون:99، 100.
يقول الشيخ السعدي: "يخبر تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك يقول: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ من العمل، وفرطت في جنب الله.
﴿كَلَّا﴾ أي: لا رجعة له ولا إمهال، إنها ﴿كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ أي: مجرد قول باللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون".
وفي الختام تبرز الحقيقة التي لا مفر منها، ولا نفع من وراء إنكارها، لأن الخالق سبحانه وتعالى هو من أخبرنا بها؛ إنه حقيقة الخلق من الأرض ثم العودة إليها بالموت ثم الخروج منها للبعث والنشور، ثم الحساب والجزاء، ثم إلى جنة عرضها السموات والأرض، أو إلى جهنم وبئس المصير.
جعلنا الله وإياكم من الفائزين بعفوه ورضوانه وجنته ونعيمه، وأن يختم لنا بخاتمة القبول والسعادة أجمعين.
------------------
أ.د. علي عثمان شحاته
القاهر- جمهورية مصر العربية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: