أين عنتريات سعيّد.. تونس أصبحت حارسًا رسميًا لأوروبا
محرر نون بوست المشاهدات: 593
خلال شهر يونيو/ حزيران الماضي، وأثناء زيارة أدّاها إلى مدينة صفاقس الساحلية، قال الرئيس التونسي قيس سعيّد إن بلاده لن تقبل أن تكون حارس حدود لدول أخرى، وأضاف: "الحل لن يكون على حساب تونس، لا يمكن أن نقوم بالدور الذي يفصح عنه بعضهم ويخفيه البعض الآخر، لا يمكن أن نكون حرسًا لدولهم".
وفي تصريح آخر، قال سعيّد خلال لقائه بمسؤولين أوروبيين إن تونس ترفض أن تكون ممرًّا للعبور أو مكانًا للتوطين، وقد تكررت هذه التصريحات من قبل الرئيس التونسي في أكثر مرة، ذلك أن ملف الهجرة أصبح الملف الأبرز لقصر قرطاج.
عنتريات سعيّد
لم تكن هذه التصريحات سوى كلام موجّه للتونسيين، فالواقع والفعل شيء آخر مغاير تمامًا لما سمعنا، وهو ما يتنزل في سياق عنتريات قيس سعيّد التي ما فتئ التونسيون يسمعونها منذ تقلّده كرسي قرطاج في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
قال سعيّد إنه لن يكون حارسًا للحدود الأوروبية، لكنه أمضى أمس الأحد اتفاقية مع المفوضية الأوروبية، تقضي بحراسة تونس للحدود مقابل الحصول على بعض المساعدات المشروطة، والتي سبق أن أكّد سعيّد أنه لن يقبل بها.
وشدد في مناسبة أخرى، على أن بلاده تحتضن المهاجرين الأفارقة وترحّب بهم أكثر من الأوروبيين، لكنه الآن وقّع اتفاقية تنصّ على التضييق عليهم، ومنع وصولهم إلى السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، أي أنه باع المهاجرين مقابل بعض المساعدات البسيطة.
أحسن الأوروبيون الضغط على قيس سعيّد واستغلال الضائقة المالية التي تمرّ بها الدولة التونسية، لتمرير البنود والشروط التي تخدم مصالحهم، دون أن يكون لهم أي اهتمام بمصلحة المهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء.
قال الرئيس التونسي في أكثر من مرة إن السيادة الوطنية فوق كلّ اعتبار، وأنه يرفض التدخل في القرار السيادي للبلاد، لكن يبدو أن مفهوم السيادة يختلف عند سعيّد عن تعريفه عند عموم الناس، إذ أمضى اتفاقية مع الأوروبيين تسمح لهم بالتدخل في الشأن الداخلي للبلاد.
انتقد سعيّد تواصُل بعض السياسيين في بلاده مع سفراء أجانب، واتهمهم بالتآمر على أمن الدولة وسجنهم، لكن في الوقت ذاته يفتح بلاده أمام الدول الأوروبية لتسطير برامجها، ومراقبة ما يصفونه بالإصلاح المطلوب من تونس حتى تحصل على المساعدات.
ليس هذا فحسب، فسعيّد الذي دائمًا ما ينتقد صندوق النقد الدولي وباقي الصناديق المالية العالمية، أمضى أمس على اتفاقية مع الأوروبيين للحصول على مساعدات، لكنها مشروطة بالوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، أي أن ميزانية الدولة لن تحصل على شيء قبل الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد.
تفاصيل الاتفاق
أذعن الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي سبق أن قال في أكثر من مرة: "علينا التعويل على الذات، وعدم انتظار أيّ مساعدات خارجية"، للشروط الأوروبية، وأمضى اتفاقية ترفضها غالبية المنظمات الحقوقية في البلاد.
وأمس الأحد، أعلن رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، أن الاتحاد الأوروبي توصّل إلى اتفاق مع تونس لوقف الهجرة غير النظامية مقابل مساعدات اقتصادية، وجاء الإعلان بعد محادثات أجراها أمس وفد أوروبي رفيع يضمّ رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الهولندي، مع الرئيس التونسي قيس سعيّد حول الهجرة غير النظامية.
تضمّ الاتفاقية المبرمة حزمة شراكة شاملة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجانبَين، وتدابير لمكافحة الهجرة غير النظامية، ووفق الأوروبيين فإن الهدف من الاتفاقية "مكافحة عصابات تهريب البشر، والحدّ من التدفق الكبير للمهاجرين من سواحل تونس، والتعاون في مجال تسريع عمليات الترحيل".
ونصّت مذكرة التفاهم على المستوى المالي على تخصيص 105 ملايين يورو خلال عام 2023 لمساعدة تونس على إدارة تدفقات الهجرة، لا سيما من أجل "التصدّي للمهربين، وتسهيل عمليات الإعادة إلى الوطن ومساعدة التونسيين على إدارة الحدود".
كما تنص الاتفاقية على أنه سيتم تخصيص 150 مليون يورو لدعم المالية العامة التونسية في عام 2023، فضلًا عن تقديم الأوروبيين موارد إضافية لتونس تشتمل على 900 مليون يورو أخرى من المساعدات المالية في شكل قرض يقدَّم خلال الأعوام المقبلة، لكنّ هذه المساعدة مشروطة بتوصُّل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول منه على قرض جديد، علمًا أن المحادثات بين الطرفَين تراوح مكانها منذ شهور.
ترحيل وتوطين
سيسرّع الاتفاق الجديد عمليات الترحيل نحو تونس، سواء للتونسيين أو الأفارقة القادمين من سواحلها، فالاتفاق ينصّ على إعادة طالبي اللجوء الذين رُفضت طلباتهم إلى بلدانهم الأصلية، أو إلى بلد العبور القادمين منه ويعدّ آمنًا.
ويتنزل هذا الاتفاق ضمن الاتفاق الأوروبي الأخير الذي توصل إليه القادة الأوروبيون بخصوص الهجرة، والذي ينصّ على تسريع عمليات الترحيل وتسهيل إعادة المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم، أو إلى بلد ثالث تختاره الدولة الأوروبية وفق ما تراه صالحًا، في مسعى من الأوروبيين للتعامل بسرعة مع طلبات اللجوء.
ويتم ذلك عبر معالجة مطالب اللجوء فورًا على الحدود وتسهيل إعادة أولئك الذين رُفضت طلباتهم، ويعطي الاتفاق للسلطات صلاحيات منع اللاجئين من دخول الأراضي الأوروبية في حال رُفضت طلبات لجوئهم وترحيلهم مباشرة.
ونصَّ الاتفاق على ضرورة وجود "صلة" بين طالب اللجوء المرفوض و"الدولة الثالثة الآمنة"، فمن الناحية العملية يجب أن يكون المهاجر "أقام" أو "استقرَّ" في ذلك البلد، أو أن يكون لديه أفراد من العائلة يعيشون هناك.
فضلًا عن الترحيل والتوطين، تنص الاتفاقية الجديدة على تكثيف تونس عمليات منع الهجرة من سواحلها، وأيضًا السماح للمهاجرين غير النظاميين بالاستقرار هناك، والعمل لمن أراد البقاء دون التضييق عليه.
دعم الأنظمة الاستبدادية
يذكر أن الأوروبيين حاولوا في أكثر من مرة فرض هذه البنود على تونس في السنوات الأخيرة، لكن الحكومات المنتخَبة جميعها رفضتها، ذلك أنها تمسّ بحقوق الانسان والسيادة الوطنية وترهنها للأوروبيين، لكن سعيّد قبلَ بها.
لم يجد قادة أوروبا أي صعوبات في إقناع سعيّد بقبول هذه الاتفاقية، فهو يبحث عن بعض المساعدات لإنقاذ نظامه من الانهيار والدفع بالاقتصاد الذي تسبّب في تأزُّمه، ويبحث أيضًا عن اعتراف دولي به يخرجه من العزلة التي يعيشها منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية صيف 2021.
دائمًا ما يردّد الأوروبيون دعمهم لحقوق الانسان وسعيهم للتصدي لأي انتهاكات تمسّ هذه الحقوق، لكنهم الآن أثبتوا بالكاشف زيف ادّعاءاتهم، فهم يدفعون لنظام استبدادي مقابل التصدّي للهجرة وحماية حدودهم البحرية.
يعلم الأوروبيون حجم الانتهاكات التي أقدم عليها نظام سعيد بحقّ التونسيين -سياسيين وإعلاميين ومحامين ونشطاء-، إذ اعتقل العشرات وزجّ بهم في السجون دون تهم واضحة، وحكم على عدد منهم أمام المحاكم العسكرية، وعزل عشرات القضاة وشدّد قبضته على الإعلام، ومع ذلك يدعمونه.
يعلم الأوروبيون أيضًا حجم الانتهاكات بحقّ المهاجرين الأفارقة في تونس، إذ أقدمت السلطات التونسية على التضييق عليهم ورمي المئات منهم في الصحراء في درجة حرارة تفوق الـ 50، ما أدّى إلى مقتل عدد منهم، لكنها خيّرت دعم نظام سعيّد على إيجاد حلّ لهؤلاء المهاجرين.
لا يهم الأوروبيين سوى مصالحهم، فهي أهم من حقوق الإنسان، وما الشعارات التي تطلَق في هذا الصدد سوى وسيلة للابتزاز، يخرجونها متى أرادوا الضغط على نظام ما والحصول على بعض الامتيازات وتحقيق مصالحهم.
أمضى سعيّد، دون استشارة أحد، على تحويل تونس إلى محتشد للأفارقة القادمين من دول جنوب الصحراء، مقابل حفنة من الدولارات التي لن تصله إلا بعد التوصُّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ما يؤكد حجم المأزق الذي يعيشه سعيّد منذ انقلابه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: