في فيلم "أثينا" (2022) للمخرج رومان غافراس، استولى عدد من أبناء الضاحية الباريسية على سيارة شرطة وعلى ذخائر وأسلحة من مركز أمني، وفروا هاربين وهم يحملون علم فرنسا خفّاقا ولم يحملوا معها أعلام دول أخرى. وهم يهمّون بدخول حي أثينا، يصرخ أحدهم: "سنفوز بهذه الحرب.. سننال منهم"، أما آخر فيطمئن قائد "ثورتهم" بالقول: "نحن فريق حقيقي، كأننا جيش!". القائد اسمه كريم، وهو شقيق إيدير، ذي الثلاثة عشر ربيعا، الذي انتشر تسجيل مصور يوثق لواقعة ضربه حتى الموت على أيدي أشخاص مجهولين يلبسون سترات الشرطة الجمهورية. كريم أعلن منذ البداية "إنها حرب حتى نعرف أسماء الضباط الذين قتلوا أخي الصغير".
في جريمة قتل نائل، وهو شاب من شحم ودم في السابعة عشر من عمره؛ صار القاصي والداني يعرف بقصة مقتله بحي نانتير في الضاحية الباريسية، وتم تحديد الهويات وتم التعرف على الحيثيات بعد أن سعت الشرطة لتزويرها لولا تسجيل مصور وثّق للجريمة وظهر للعلن لينسف الرواية البوليسية، وينقذ نائل من أن يتحول في الخطاب الرسمي لإرهابي سعى لدهس شرطيين، قبل أن يرديه أحدهما قتيلا، لينال بعدها شرف بطولة زائفة. كل ذلك لم يوقف شرارة اندلاع "الحرب" المستمرة حتى إشعار آخر لا يبدو قريبا.
نائل، كما إيدير الشخصية المتخيلة في الفيلم، شابان فرنسيان، لكنه يقدمان في إعلام بلدهما على أنهما من جذور جزائرية، تأكيدا للعنصرية المتجذرة في البلاد رغم كل مساحيق المساواة التي تتغنى بها فرنسا. وإن كان نائل وحيد والدته، فللطفل إيدير ثلاثة إخوة ذكور وأخت أنثى. عبدل، واحد من الإخوة الذكور، وهو الجندي الفرنسي العائد لتوه من القتال في مالي.
عبدل: أين كريم؟ أين والدتي؟ أنا أتحدث إليك!
الأخت: إنها في القافلة (في الفيلم يتم إجلاء العوائل من الحي استعدادا للقتال).
عبدل: اذهبي إذن وساعديها!
الأخت: لماذا أنت خائف؟ ألست أنت الجندي؟
عبدل: ليس هذا وقت النقاش.
الأخت: سأبقى هنا. ماذا دهاك؟ ألا تزال متقبلا لطاعة الأوامر؟ بعد كل ما فعلوه، لِمَ ترفض أن يحترق كل شيء؟
عبدل: هذا هراء.
الأخت: لنجعلها تحترق!
عبدل: أصمتي. أنت لا تعرفين عمّ تتحدثين. صدقيني أنت لا تريدينها أن تحترق ولا ترغبين في إشعال فتيل حرب. ليس هنا.
الأخت: ألا ترى أن الحرب قد بدأت بالفعل!
الإعلام والساسة الفرنسيون في جزء كبير منهم يعتبرون أبناء الضواحي كتلة واحدة ويُجهدون حناجرهم وأقلامهم وكاميراتهم لترسيخ نموذج الشاب المتهور، قليل التعليم، وتاجر الممنوعات المنعزل عن المجتمع الفرنسي؛ كيف لا وقانون "الانفصالية" يصِمهم، منذ إقراره من طرف البرلمان، كفئة ساعية للثورة على المبادئ الجمهورية وتعويضها إما بقانون الغاب أو الشريعة، وهما معاً نقيض "حضاري" للجمهورية وقوانينها.
منذ اليوم الأول للهجرة المغاربية إلى فرنسا حوصر المهاجرون الأوائل في غيتوهات بعيدة عن المدن الرئيسية، مخافة أن يؤثر القادمون الجدد من "الأهالي" الهمج على حضارة وثقافة وصورة باريس ونظيراتها. وبالرغم من إقرار الدولة الفرنسية، في فترة توهج أحزاب اليسار، تشريعات تجيز استقدام العمال لعائلاتهم، فقد ظلت الضواحي الوعاء الأوحد لاستيعاب القادمين جيلا بعد جيل. الحكومات المتعاقبة رأت في صرف بعض الأموال على جمعيات أهلية نظير "تأطير" الضواحي وشبابها حلا لميز عنصري كان حجر الزاوية في إنشائها، ثم انقلب السحر على الساحر، وصارت ضواحي المدن، الآهلة بالسكان، فضاء لانطلاق شرارات ثورات وانتفاضات شعبية، لعل آخرها كان سنة 2005 على عهد وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، الذي صار بعدها رئيسا، قبل أن ينتهي به الأمر طريدا للعدالة على وقع عمليات فساد انتخابي.
شباب الضواحي، كما حال أخت إيدير، لا يرون سبيلا للتراجع في مواجهة الظلم والقهر بعد كل ما اقترفته أيادي الدولة، من خلال شرطتها، من جرائم وتجاوزات. في السنة الماضية، أودت مسدسات الشرطة بحياة ثلاثة عشر ضحية دون أن يرف لها جفن بزعم عدم الامتثال لأوامرها. فمنذ إقرار الحكومة قانونا يجيز استخدام السلاح الناري بداعي الدفاع عن النفس، صار اللجوء إليه مسألة تقدير شخصي للشرطة وأعوانها. وبعد أن كان الاستنكار مرتبطا باستخدام الرصاص المطاطي وما يخلفه من عاهات مستديمة وتشوهات، طوال التحركات الاجتماعية التي أعقبت حركة السترات الصفراء ثم معارضي الإجراءات المتخذة خلال جائحة كورونا وبعدها التظاهرات الاحتجاجية على إقرار قانون التقاعد، صار الرصاص الحي يلعلع في مواجهة أبناء الضواحي دون غيرهم من الفرنسيين. ولأن الضواحي ظلت هي الهدف منذ عقود لتجريب الوصفات الأمنية، تحول الإحساس الجماعي بالغبن والظلم إلى محفز لا ينضب للوحدة في مواجهة "الأعداء".
مجموعة من الشباب: نحن أبناء حي سارسيل أتينا للمساعدة! وحي تارتيريه، وحي ليبيراميد وحي ترامبلاي وبوسكيت وبوبيني..
كريم: هذا ليس انتصارا. سيعودون للتنكيل بنا. نريد قَتَلة إيدير. لسنا مجرد مجرمين يحرقون الأخضر واليابس.
شاب: يقولون إن القتلة ربما ليسوا ضباط شرطة.
كريم: منذ متى نصدق وسائل التواصل، ومنذ متى نصدق قناة بي اف ام (القناة الإخبارية الفرنسية). نحن هنا لنقول للعالم كفى من اعتبارنا ضحايا. كلما ضربوا، سنرد الهجوم. وكلما قتلوا، سنقتل! يتحدثون عن القلائل وسنريهم معنى القلائل.
لقد شكل انتشار شرارة الاحتجاجات ومظاهر العنف على طول جغرافيا فرنسا وامتدادها لأراضي ما وراء البحار بل للعاصمة البلجيكية بروكسل؛ صدمة حقيقية للمتابعين ولأصحاب القرار. لأجل ذلك، توالت اجتماعات خلية الأزمة، وخرجت عنها قرارات أشبه ما تكون بقرارات حرب بدأت بنشر عشرات الآلاف من رجال الأمن، ومنع التنقل الليلي، واستخدام مدرعات الدرك، والاستعانة بالمشاهير في محاولة للتأثير في الشباب لعلهم يوقفون حركتهم الاحتجاجية ويتراجعون.
لقد بلغ الأمر بالحكومة الفرنسية مبلغ استجداء مسؤولية الأولياء بل تهديدهم ومعهم أطفالهم بالعقوبات القاسية نظير استمرارهم في المشاركة في الاحتجاجات. فرنسا، التي دمرت بقوانينها وتوجهاتها مفهوم السلطة الأبوية، صارت اليوم تستجدي تدخل الأولياء بعد فشل أجهزتها الأمنية في احتواء الأزمة وتداعياتها. الدولة التي فشلت في "تربية" أفراد شرطتها وتأهيلهم لتفادي الضغط على الزناد، تطلب من آباء وأمهات كبّلتهم بالقوانين الرادعة، التدخل لثني الأبناء عن التعبير عن الغضب الكامن في الصدور.
وإن كان هناك من إفلاس أظهرته الأحداث الأخيرة فهو فشل فرنسا في ردم الهوة الاقتصادية التي خلقتها بين مختلف مكونات نسيجها المجتمعي، وفي تكريس نموذجها في التنشئة وتحمل النتائج والتبعات. فهذا ماكرون يدعو للمسؤولية الأبوية، وذاك دارمنان يناشد الآباء، في وقت لم يجد فيه وزير العدل غير تهديد الآباء بالسجن والأطفال بالوصول إليهم عبر ما ينشرونه على مواقع التواصل الاجتماعي كمحرضين على الشغب وأعمال السرقة والنهب.
في نشرة الأخبار في فيلم "أثينا" نسمع التقرير التالي: "خرج الوضع عن السيطرة. أربع وعشرون ساعة فقط بعد تسريب الاعتداء المميت على الشاب إيدير، الفوضى تجتاح فرنسا كلها. ثلاثون مدينة، على الأقل، تشهد عنفا غير مسبوق، تتعرض أقسام الشرطة إلى النهب، في بالمقابل تعرضت مساجد أحياء روبي وكولمار للحرق، وعلمنا للتو أن مجموعة كبيرة من اليمين المتطرف اقتحمت بلدية ديجون. لقد تجاوز الموقف قدرات قوات الشرطة في جميع أنحاء فرنسا، وتقول مصادر قريبة من وزارة الداخلية إن الجيش قد يتدخل في الساعات القادمة". وعلى نفس شاشة التلفاز نقرأ بعدها بدقائق عنوانا بالبنط العريض "حرب أهلية في فرنسا".
بوادر الحرب الأهلية وأسبابها قائمة بالفعل، وما استعادة الحديث عن خطط تحويل الضواحي إلى مناطق عسكرية حيث يعيش الـ"هم" مقابل الـ"نحن" الفرنسيين الخالصين إلا وقود مستدام لإطلاق شرارة الحرب المنتظرة تلك، أما جنودها من الطرفين فحاضرون ومستعدون إن دفعتهم الظروف إلى أتون معركة الدفاع عن النفس وعن الوجود.
في الفيلم تحذير من تنامي جماعات اليمين المتطرف المسلح وسعي نشطائها لحرق البلاد بإحداث الوقيعة بين الشرطة وشباب الضواحي، لكن واقع الحال أثبت أن اليمين المتطرف بأفكاره قد تغلغل في الشرطة ولم يعد الوضع بحاجة إلى جماعات تتخفى في زيّ الأخيرة لإشعال الحريق.
في العام 2005، هرب شابان من الضواحي من كمين شرطة في تفتيش روتيني للهوية، وانتهى المطاف بهما مقتولين بصعقة كهرباء حيث تخفيا خوفا من شرطة تلاحقهما. وفي العام 2023، أي 18 سنة بعدها، أطلقت الشرطة النار على شاب من نفس الضواحي، على مسافة صفر، لأنه لم ينصع لتفتيش روتيني للهوية.
هكذا تقدمت فرنسا خطوة إلى الجحيم بدل أن تتراجع وتحفظ وحدتها ودماء أبنائها. العنصرية المتفشية في الأجهزة الأمنية لم تعد خافية على المراقبين، لدرجة أن المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أعلنت صراحة أنه قد "حان الوقت ليعالج هذا البلد بجدية مشكلات العنصرية والتمييز المتجذرة في صفوف قوات الأمن"، وهو ما استنكرته الخارجية الفرنسية المتعودة على إصدار مثل تلك التصريحات والتقارير في مواجهة دول العالم الثالث وابتزازها.
يمكن للمقاربة الأمنية وزيادة أعداد القوات الشرطية وإنزال المدرعات إلى الشوارع بل إعلان حالة الطوارئ؛ أن توقف الاحتجاجات أو تحجم من زخمها، لكنها أبدا لن تتمكن من إخماد فتيل الحقد الاجتماعي المتنامي تجاه الدولة وأجهزتها. شباب الضواحي لهم أجداد وجدّات يمثلون التاريخ، وآباء وأمهات يمثلون حاضرا قريبا، وذوات وأقران يجسدون الحاضر الآني، وإخوان وأخوات أصغر سنّا يمثلون مستقبلا يبدو مظلما، ما لم تبادر الدولة الفرنسية إلى اعتبار هؤلاء مواطنين لهم الحق في العيش وفق ما تقتضيه خصوصياتهم ومعتقداتهم ما لم تتعارض وقوانين الجمهورية التي تأسست على الحرية والمساواة والأخوة.
جرّبت فرنسا كثيرا من الوصفات لتحقيق ما تسميه الاندماج، لكنها تناست دوما أن هؤلاء الشباب أبناء شرعيون لفرنسا وليسوا طارئين عليها أو مجرد ضيوف مؤقتين. والضغط المتواصل، كما أثبتت التجارب، لا يولّد إلا الانفجار. عبايات الفتيات لا تتعارض مع الرغبة في التعليم، وحجاب اللاعبات أو صيام اللاعبين لا يتعارض والرغبة في ممارسة الرياضة والتفوق فيها، أما صلاة الأطفال في استراحة المدارس فلا تشكل تهديدا للجمهورية وقيّمها.
ما سبق كله ليس إلا معارك وهمية تخفي شبح حرب حقيقية يراها كثيرون أقرب مما يتصوره الحالمون بالسلم الأهلي. ولم يكن غريبا أن يصرح وزير الداخلية الفرنسي قبل أسابيع بنيويورك بأن التهديد الأبرز لبلاده هو "الإرهاب الإسلامي السني"، كما لا يُستغرب أن يتراجع إيمانويل ماكرون عن استنكاره لعملية اغتيال نائل متوددا للأجهزة الأمنية ونقاباتها، فهو أحوج ما يكون إليها في مواجهة احتجاجات منتظرة ضد مشروع قانون الهجرة الذي يعتزم عرضه على البرلمان في الأسابيع القليلة القادمة. أما نائل فسيصير مجرد اسم أو رقم في قائمة ضحايا استخدام السلاح الوظيفي "دفاعا عن النفس" ولن يكون الأخير. الدولة الفرنسية وجهازها القضائي فتحت تحقيقين أحدهما ضد الشرطي بتهمة "القتل العمد"، والآخر ضد نائل بتهمة "عدم الامتثال لأوامر الشرطة"، في حالة سوريالية تتابع فيها الدولة طفلا ميتا دفنته العائلة أمام مرأى العالمين..
وزير الداخلية جيرالد موسى دارمانان لا يكف عن التصريح بأن "الجمهورية ستفوز" وكأنه في حرب مع عدو خارجي، لكن الحقيقة التي لا مراء فيها، فتكمن في ما قاله كريم في فيلم "أثينا" وهو يشحذ عزائم أبناء حيّه: "نحن هنا لنقول للعالم كفى من اعتبارنا ضحايا. كلما ضربوا، سنرد الهجوم، وكلما قتلوا، سنقتل! يتحدثون عن القلائل وسنريهم معنى القلائل".
محاولات حصر أسباب ما تشهده فرنسا هذه الأيام في الغضب من مشاهد جريمة قتل الشاب نائل دون رغبة في فتح الملفات الحقيقية، التي تجعل الضواحي ومعها كثيرا من مراكز المدن بارودا اجتماعيا قابلا للانفجار، تجعل من الوصول إلى هذا السيناريو المرعب مسألة وقت ليس إلا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: