في ندوة صحفية عادية وبلا بهرج، أعلنت قيادات التيار الإسلامي في تونس في 6 يونيو/ حزيران 1981 عن وجودها السياسي، طالبة بذلك العمل القانوني في فجوة حريات أصغر من كوة سجن، اضطرت لها السلطة السياسية لتنفيس حالة احتقان نتيجة الأزمة النقابية عام 1987، ونتيجة عملية قفصة العسكرية التي نظمتها مخابرات دول الجوار ضد نظام بورقيبة.
حسن النية السياسي لحركة الاتجاه الإسلامي لم يلقَ قبولًا لدى السلطة، بل كان الردّ حملة اعتقالات غير مسبوقة، انتهت بتقييد حركة القيادة بسنوات طويلة من السجن ومطاردة نشطاء الحزب في الجهات.
ومن يومها قامت علاقة متوترة بين الحزب (أو الاتجاه) وكل السلط التي حكمت البلد، كانت أعنف مراحلها مذبحة نظام بن علي التي ابتدأت عام 1990 واستمرت ربع قرن، حتى أحدثت الثورة انفراجًا كبيرًا وفتحت باب الحريات، فحصل الحزب في غمرة الثورة على ترخيص بالعمل القانوني، وتحول إلى رقم سياسي يعسر تجاوزه، وشارك في الحكم عبر صناديق الاقتراع الشرعية.
لكن انقلاب 25 يوليو/ تموز أعاد فتح أبواب السجون لقيادات النهضة، بعد أن أقصاها من كل مواقع القرار، ونتوقع المزيد، فالسلطة لا تستقر بوجود الحزب في أي موقع إلا في السجون، لكن الحزب باقٍ ونتوقع أن يسقط الانقلاب ولا يسقط حزب النهضة.
وجود سياسي بكلفة الدم
للحزب قائمة طويلة من الشهداء منذ التأسيس، آخرهم سقط في مظاهرة ضد الانقلاب، وأحدهم دُفن في عرصات جسر ولم يحظَ بقبر.
جمعُ سنوات السجون لكل السجناء يعطي رقمًا يفوق 10 قرون من السجن، وهي معاناة لم تكتب كل فصولها، فطيلة هذا الفترة لم يردّ الحزب على عدوانية السلطة بالعنف، ولم ينجر إلى المواجهة المسلحة، وهو ما أربك السلطة (بما في ذلك سلطة الانقلاب)، إذ لم تجد الحجة الكافية لمحق الحزب فكانت سياسة التعطيل والإرباك، وقابلها الحزب برفع شعور المظلومية واستحضار خطاب المثوبة، كأنهم في ربع الساعة الأول من فيلم "الرسالة".
الثمن المدفوع لم يعادل المكسب، لكن خطاب الحزب يجعل من البقاء على قيد الحياة مكسبًا في ذاته، وقد شهدنا ناشطات الحزب يحتفلن بتحصيل حقّ بسيط هو الحصول على بطاقة هوية بالحجاب، ونرى أن الشعور بالدونية كان هو الثمن الذي لم يقدّره أحد.
لقد استبطن الحزب وضع الضحية، ورضيَ بحصة الخادم على مائدة السيد، وكان هذا هو سبب فشله لمّا مُنح السلطة بطرق شرعية. لقد كانت طموحاته محدودة، حتى أن المرء ليسأل لماذا طلب المشاركة السياسية إذا لم تكن له يد من حديد؟
الحرب على النهضة ليست حربًا على الإسلام
أعداء النهضة أكثر من أصدقائها، وقد وضّحت مرحلة مشاركة النهضة في الحكم مواقع الأعداء وغاياتهم، ويمكن إجمال قواعد العداء في جملة هناك مصالح استقرت لأصحابها منذ تأسيس الدولة الحديثة، ونظام المصالح هذا لم يقُم على قواعد الديمقراطية والقانون، بل هو أقرب إلى تنظيم مافيوزي استحوذ على الحكم بالقوة والحيلة منذ التأسيس، وبنى شبكات المصالح والغنيمة.
الشبكات هذه هي الحاكم الفعلي للبلد، ومن قوتها أنها جاءت بنظام بن علي ووظفته في خدمتها، ثم أحاطت بالثورة (والنهضة في الحكم)، فأفرغت الثورة من مطالبها التي رأت فيها تقويضًا كليًّا لنظام المصالح المكتسب والمستقر.
اجتنب خطاب النهضة نظام المصالح وحاول مهادنته، وواصل النظر من زاوية أن رفض حكم النهضة ومطاردتها هو حرب على الإسلام، وهي معنية في وجودها بالدفاع عن الإسلام. لقد طوّرت بعض القيادات خطابها ولم تعد تطلق صيحات الفزع أن الإسلام في خطر، لكن خطاب المقهورين المكلفين بحماية الإسلام ظلَّ رائجًا في أوساط وسطى ودنيا في الحزب.
كان في هذا الخطاب هروب واضح من النظر في استحقاقات الحكم في الدنيا قبل الآخرة، وفي نقاشات مطوّلة مع شخصيات يعتبرها الحزب مفكرة كان الجواب الغالب هو "أن الثورة فاجأتنا، وأننا لم نكن نعرف من الدولة سوى قشرتها الظاهرة، وأن المعاناة عطّلتنا عن التفكير.. إلخ"، لكن بعد 12 عامًا من الثورة، وبعد مشاركة في السلطة، لم يكتَب خطاب جديد.
لم ينتج الحزب برامج سياسية مختلفة عن السائد المتّبع، ولم يكتب مفكروه في نقد تجربتهم واختياراتهم، ولم يقترحوا على أنفسهم ولا على جمهور يراقبهم (وليس بالضرورة معاديًا لهم) ما يفيد أنهم غيّروا نمط التفكير القائم على المظلومية وأن الإسلام في خطر.
الآخرون المعادون كما الأصدقاء لم يكتبوا ولم يقترحوا أيضًا، لكن عجز الآخرين ليس مبررًا لعدم التجاوز والسبق، خاصة في مرحلة حكم الانقلاب الذي يعجز على كل الجبهات، ويحوّل عجزه إلى عدوان على حزب النهضة، فيقدم لها ذريعة جديدة لمظلومية تجدَّد فتعيش منها وتشكو ولا تفكر.
ما هو النص المطلوب من النهضة في ذكرى التأسيس؟
لست واقفًا في طابور المختصين في تعداد أخطاء وخطايا وآثام حزب النهضة، وهو طابور طويل من جلّاس المقاهي وسميعة إعلام بن علي الرافض لكل تحديث، وقد كتبت دومًا أن أخطاء النهضة في مرحلة مشاركتها في الحكم كانت أخطاء تسيير وضعف في تقدير المواقف، مثل خضوعها للابتزاز النقابي.
وكتابتي بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب ليست في اتجاه تعداد هذه الأخطاء، إنما أقصد إلى فكرة أوسع وهي أن الحزب في جملة حركته عاجز عن الخروج من جبّة الحركية الدينية الإصلاحية بعد، وبالتالي عاجز عن التحول إلى حزب حكم صريح.
الحزب ينتج برامج ورؤى للحكم، ويقترح للأزمات الهيكلية قبل العابرة حلولًا مبنية على معطيات كمّية ونوعية. نرى الحزب في ذكرى تأسيسه يفتقدها أو يعجز دونها، ولقد اطّلعنا على برامج الحزب الانتخابية (أيام كان ثمة انتخابات)، وقد وجدناه يردد الرؤى نفسها التي تطورت في لوائح النقابة من السبعينيات، ولم ينجُ منها فأعاد إنتاج منظومة الحكم القديمة فاستهلكته.
وقد منح الانقلاب حزب النهضة فرصة تخفيف عبء السلطة على كاهله، بعد أن حشرته النقابة في زاوية ضيقة، وقد يكون من المفيد له أن ينكبَّ بنَفَس طويل وصبر وأناة على نقد تجربته في السلطة وخارجها، وينظر إلى ما بعد الانقلاب بيقين، فيستعدّ لمرحلة حكم برؤى وبرامج واضحة، وأن يفكر كحزب لا كحركة دعوية اقترحت الإسلام الديمقراطي ولم تضع في مقترحها سطرًا قابلًا للقراءة.
ونظن أن نقطة البداية هي أن ليس الإسلام في خطر، بل المسلمون على هذه الرقعة يذهبون إلى المساجد بحرية، لكنهم يقضون في البحث عن الخبز أكثر ممّا يقضون في قيام الليل.
لقد تجاوز عمر الحزب عمر النبوة، وهي (بتعداد السنوات) مرحلة نضج، بقيَ الآن وضع نصّ بشري يجعل حياة الناس قابلة للاحتمال هنا والآن، ويعطي للحزب حياة لنصف قرن آخر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: