بأسلوب متأنٍ وعلى طريقة الفار إذ يأكل قطعة الجبن، يتقدم الانقلاب في قضم مساحات الحرية التي أتاحتها الثورة ومن ثمة تصفية الخصوم أو ما يسميه الأجسام الوسيطة، وقد حان -فيما نتوقع- دور حزب النهضة وهو الجسم غير القابل للترويض حتى الآن. لقد التقى الانقلاب مع الدولة العميقة ومع اليسار الاستئصالي المحيط بالمنقلب في هذا الأمر/ الرغبة، وتوافقت الغايات بينهم ضمنا أو صراحة.
المنقلب يرى في النهضة العقبة الأخيرة الباقية في طريق بناء نظام سياسي دون وسائط، وهي نفس العقبة الكأداء أمام منظومة حكم بن علي (وريثة البورقيبية) للعودة إلى نظام المنافع الذي أسسته وحمته وهددته الثورة، وقد آن أوان إنهاء التهديد بمنع الحامي الأخير للحريات والديمقراطية. كما يقف اليسار الاستئصالي بكل شقوقه على عتبة حلمه الأبدي بأن يستفيق على تونس بدون إسلاميين، فهل يجد هؤلاء مجتمعين فرصتهم أم يختلقونها بقوة الأجهزة ويمرون إلى التنفيذ؟
تلفيق القضايا خطوة على الطريق
كل أهل النظر القانوني ممن يؤمن فعلا بسلامة الإجراء يجد الملفات القضائية التي تحاكم فيها قيادات نهضوية ملفقة ولا تقوم على حجة أو دليل. لقد كان واضحا أنها تمهيد لأمر أكبر: تعطيل قدرة الحزب على التحرك الميداني ضد الانقلاب، وخاصة تعطيل الرأس المفكر الوحيد في الحزب وهو زعيمه المؤسس، وجرّ القيادات الفعّالة إلى طرقات المحاكم فلا يخرجون من ملف إلا لينشغلوا بغيره ويعودون إلى وضع "الإسلاميون قضية حقوقية وليست سياسية". وهي خطة بن علي ومن ناصره، غير أن الأسلوب اختلف بين الضربة الماحقة والضربات التفتيتية المتأنية.
بعد خطوة تبديد الجهد وتشتيت القيادات وقد بلغ فيها المنقلب شأوا كبيرا، تحل مرحلة أهم وهي المرور إلى حل الحزب، وبنفس الجرأة التي تمت بها الخطوة الأولى؛ لن ينشغل الانقلاب وأنصاره والمنظومة بأمر شكلي يسمى سلامة الإجراءات أو احترام قانون الأحزاب. ماكينة الإعلام التونسية قادرة على إقناع العالم بأن مياه البحر حلوة، في المقابل لا يملك حزب النهضة وسيلة إعلامية تدافع عن مواقفه ووجوده. وهو يفتقد إلى كوادر سياسية تتكلم بما يُسمع ويُقنع.
ويمكن ملاحظة أمر مهم في سيرة أنصار الحزب، فكلما تعرض حزبهم إلى أزمة (أو أسيء إلى قياداتهم) أفرطوا في نشر المواعظ الدينية وقصص السِيَر وخطاب الابتلاء، فضلا عن ترّهات التنمية البشرية، بما رسّخ فكرة لدى خصومهم أن ليس للحزب لسان ولا فكر. وقد اتضح هذا الوضع أكثر منذ الانقلاب، وهذه أحد أسباب الجرأة عليهم.
لقد اتضحت حقيقة أنه بعد ثلاث عشرة سنة من عودة النهضة فوق الأرض (بعد أن كانت في سراديب الأمن) فإن النهضة لا ولم تملك نخبة فكرية، لذلك تتحرك خرساء وتصدر إيماءات الخرس، تتحرك في الشوارع بكفاءة إذا أمرت لكنها لا تتحرك في شوارع الفكر والتكتيك السياسي بنفس الكفاءة. ولا نظن أن الزعيم المؤسس قد منع أحدا من التفكير والكتابة (وجب البحث في عقل الإسلام السياسي السني ومكبّلاته الداخلية، وهذه شعبة تفكير واسعة).
هل هي نهاية طبيعية؟
النهاية التي أعني (في صورة المرور إلى حل الحزب) هي نهاية تنظيمية لا سياسية، فمنظومات الحكم كانت دوما قادرة على منع الوجود القانوني للحزب منذ الإعلان عن وجوده سنة 1981، بقوة الأجهزة لا بقوة فكرية مضادة، لكنها لم تفلح أبدا في إنهاء وجوده الواقعي، وهي مُقْدِمة (كما نتوقع بقوة) خلال هذه الصائفة على إنهاء مرحلة أخرى من الإلغاء القانوني للحزب، لكنها لا تتذكر ولا تريد أن تتذكر أن الحزب جزء مكين من مشهد سياسي تونسي يتحرك ولا يتغير إلا قليلا.
لقد تفاجأت منظومة الحكم في فجر الثورة بعودة النهضة أقوى مما كانت عليه سنة 1990 (أي في بداية المذبحة التي نظمها بن علي ويساره الوظيفي).. ربع قرن من السجون والمنافي والقتل غير الرحيم لم يفتت الحزب ولم يغيّبه، بل أعادته المأساة إلى مقام الحزب الأول، وكل العوائق التي وُضعت في طريقه منذ الثورة (وهو مشارك في الحكم) لم تفككه، وهو حتى اللحظة الحزب الأول والحزب الوحيد في مواجهة ماكينات الإعلام والأمن وحتى العسكر الصامت في الظاهر. لقد كان هناك دوما نهضويون بدون نهضة، ونرى أن هذا الأفق السياسي سيعود ليكون هناك في كل البلد نهضويون بدون حزب قانوني، مع استعادة شحنة المظلومية الفعالة التي قد تغني الحزب عن مصاريف فتح مكاتب وتأثيثها وحمايتها.
مستقبل النهضة بلا حزب؟
لا نرى النهضة تختفي من المشهد السياسي ولو ببن علي آخر وبتجمع شرس، لقد دفَّعها بن علي وحزبه ويساره ثمنا غاليا لكنها احتملت الثمن وبقيت، ونراها في ضعفها الحالي قادرة على احتمال ثمن مماثل ولكن لا نراها تنتهي ولو مُنعت من الانتظام الحزبي.
لقد طالب التونسيون (وهم طرائق قددا) حزب النهضة بتحقيق معجزات لم يطلبوها من غيره، فلم يقدر عليها فسجلوه في الفاشلين. والمعجزات المطلوبة سقطت الآن عن كتف النهضة ونُقلت على كتف السلطة الانقلابية، ولن تقدر عليها ولو حلت حزب النهضة وسجنت قياداته، لذلك فلا مكاسب اقتصادية أو اجتماعية للمنقلب من حل الحزب سوى رفع درجة التوتر في الشارع.
كيف سيستمر الحزب بدون هيكل قانوني؟ نرى في الأفق نهضويين بدون حزب النهضة، أشخاصا وجماعات مفككة في الظاهر ولكنها متماسكة عاطفيا (وهذا أقوى رابط يجمع النهضويين)، متحررين من أعباء الحكم وفي موقع المزايد على من يحكم.
هناك ثمن في الطريق قد يكون منه تذويب الزعيم المؤسس، وستحصل مطاردات وقضايا مركبة بلا أدلة لمزيد إضعاف صف القيادات المحلية والوسطى. لكن نصف المليون نهضوي (الرقم ثابت إلا كسورا) سيبقون فوق سطح الأرض بدون التزام حزبي، لكن بشعور من القهر تمكن إثارته برسالة هاتفية. وفي أول خطأ ترتكبه السلطة بفتح صندوق انتخابي سيكون لهذه الكتلة المتحركة القول الفصل في من ينجح من غير حزبها وفي من يفشل بأصواتها غير الملتزمة بأوامر حزبها. وسنعيش (هذا يقين) حتى نرى كل القيادات السياسية التي لن ينالها أذى من سلطة الانقلاب تفاوض في المقاهي، وقد انعدمت القيادة الواحدة والمقرات القيادية، على استجلاب أصوات النهضويين بمقابل من تمكين لم تنله وهي حزب قانوني فوق الطاولة، سيصطادون في سلتها وهي فوق الربوة.
لقد سبق لنا أن اقترحنا على النهضويين الاستباق إلى هذا الوضع بحل الحزب وخلق الفراغات المربكة (غياب العدو ينهي المعركة قبل بدايتها)، ولكن التمسك بالحق الشكلي في العمل السياسي القانوني سبق التكتيكات السياسية، حتى وجد الحزب نفسه في موضع الحل (أو التهديد به) لا في موضع الشريك. مقراته الآن مغلقة بدون وجه من قانون، وقياداته ممنوعة من الظهور الإعلامي وأغلبها مطلوب للقضاء، وقواعده في حالة انتظار معجزة وتنشر أحاديث الوعظ والاعتبار والتنمية البشرية.
ما كان يجب أن نحلل بلو أو نفكر بالاحتمالات الصفرية من قبيل "ماذا لو ساند الغنوشي المنقلب؟"، لأن تهمة مساندة الانقلاب على الديمقراطية كانت جاهزة منذ العام 1981، إذ لا يجب أن ننسى أن أنصار الانقلاب الآن قد صوّتوا ضده في انتخابات 2019 نكاية في ما صوتت النهضة لشعار "التطبيع خيانة عظمى". وكان خطاب معارضيه (أي أنصاره الحاليين) هو أن قيس سعيد نهضوي مدسوس على الديمقراطية.
نهضويون بدون نهضة وبدون قياداتهم التاريخية المؤسسة هو الأفق الباقي والأفق الواعد، وإذا كان أمكن للنهضويين البقاء بعد بن علي فإن بقاءهم بعد الانقلاب احتمال قابل للتحقق بثمن أقل. وإذا كان لديهم تفكير استباقي فإن أهم قناعة يجب التأسيس عليها هي أن من يسندهم من الخارج ومن يتضامن مع سجنائهم وخاصة شيخهم الآن؛ هو آخر فاعل يمكن التعويل عليه للنجاة والبقاء. وعِوض دروس التنمية البشرية، نرى أن الدرس الأهم هو إعادة قراءة غزوة مؤتة، فالكُرّار ليسوا الفُرّار، فهل يُخرجون من صفوفهم الخلفية خالدا؟ ستكون معجزة في غير زمن المعجزات.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: