لم يتحول السودان إلى ساحة جهادية على مدى عقود في الوقت الذي عانت فيه دول عديدة من تحولها إلى ساحات نشطة لحروب الجهادية العالمية، رغم أن الأسباب والظروف والشروط الموضوعية لتأسيس حرب جهادية كانت أقوى في السودان من نظيراتها في معظم البلدان العربية. ويعود ذلك إلى سبب بسيط وهو أن نظام الحكم في السودان تمكّن من بناء شرعية دينية تتأسس على سردية دينية إسلامية تقوم على مواجهة الإمبريالية العالمية خارجياً، والتصدي للحركات والأحزاب والجماعات والقوى الانفصالية غير الإسلامية داخلياً، وهو ما دفع الجهادية العالمية إلى التعامل مع السودان باعتبارها أرض دعوة لا أرض جهاد. بل إن تنظيم القاعدة تعاون مع نظام البشير وعرض عليه المشاركة في الحرب ضد الحركات الانفصالية، وقد وفر النظام السوداني في بداية تسعينيات القرن الماضي ملاذاً آمناً للحركات الجهادية وتنظيم القاعدة وزعيمه الراحل أسامة بن لادن، قبل أن تسوء العلاقة بين الطرفين. وقد حافظ تنظيم القاعدة على رؤية أيديولوجية معتدلة تجاه النظام السوداني، فلم يصفه بالكفر والردة.
كل ذلك سوف يتبدل اليوم في السودان بعد أربع سنوات من عدم الاستقرار السياسي، بلغت ذروتها عقب اندلاع قتالٍ مفتوح في شوارع العاصمة الخرطوم بين فصيلين من المجلس العسكري الذي تولّى السلطة. في السودان، ومع بروز نذر الحرب الأهلية، يمكن أن تتحول السودان إلى ساحة جهادية واعدة ومركزاً جهادياً لوجستياً يهدد دول الجوار.
خلال السنوات الأخيرة تبدلت رؤية الجهادية العالمية التي انقسمت بين تنظيمي الدولة الإسلامية وقاعدة الجهاد تجاه السودان، إذ باتت تصف نظام الحكم بالكفر والردة، وهو تحول أيديولوجي بدأ مع صعود تنظيم الدولة، والذي تزامن مع محاولة البشير إعادة توجيه السياسة السودانية عام 2015، للتخلص من العقوبات الأمريكية وقائمة الدول الراعية للإهاب. وقد تجسد ذلك بقطع العلاقات مع إيران والانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية في محاولة لوقف تمدد الحوثيين الإيرانيين في اليمن.
لكن المفاجأة جاءت بانتفاضة شعبية في نيسان/ أبريل 2019، بعد ثلاثين عاماً تقريباً من تولّي البشير السلطة، أفضت إلى تدخل الجيش الذي أسقط البشير بذات الطريقة التي صعد بها، من خلال انقلاب عسكري، حيث تشكل مجلس سيادة مؤقت، بمزيج من المدنيين والعسكريين، يهدف من الناحية النظرية والشكلية إلى الانتقال إلى الديمقراطية. وقد انخرط المجلس العسكري في اتفاقات السلام الإبراهيمية والتطبيع مع إسرائيل، وتعهد بمحاربة الإرهاب، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية عام 2020 إلى إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لم تكن الجهادية العالمية بعيدة عن مراقبة ما يحدث في السودان، وراهنت على فشل التحول الديمقراطي، ودخول السودان في أفق التوحش وحالة الفوضى. وسرعان ما برهنت الأحداث على صدق التوقعات الجهادية، حيث سيْطَر على المجلس الانتقالي الجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي أمر بقتل المتظاهرين في الخرطوم في حزيران/ يونيو 2019، وهو ما استجابت له مليشيا الجنجويد، والتي كانت قد بدلت اسمها إلى "قوات الدعم السريع" عام 2013، بقيادة محمد دقلو المعروف باسم "حميدتي"، الذي تعاون مع البرهان في الإطاحة بالبشير. وخلال مسيرة الانقلاب على مسار التحول الديمقراطي تعاون البرهان وحميدتي في كافة المحطات وصولاً إلى انقلاب تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
وقد بدأ الخلاف والصراع على السلطة بين البرهان وحميدتي يتفاقم، حيث سعى البرهان إلى وضع قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي رسمياً تحت سيطرته كجزء من الجيش "النظامي"، واتهم البرهانُ حميدتي بمحاولة القيام بانقلاب ضده.
ومنذ بدء القتال في 15 نيسان/ أبريل الماضي، سعى حميدتي إلى تصوير القتال في الخرطوم على أنه بين من يدعم الديمقراطية من جهة، وبين "الدولة العميقة" أو فلول نظام البشير، باعتبارهم عصابة من الضباط "الإسلامويين المتطرفين"، ومع عدم قدرة أحد الأطراف على حسم الصراع والخشية من الدخول في حرب أهلية طويلة تهدد استقرار المنطقة والخوف من تطور الحالة الجهادية. تدخلت الولايات المتحدة ومصر والسعودية لإنهاء القتال عن طريق تثبيت هدنة، لكن ذلك لم يصمد حتى الآن.
تعود قصة الجهادية ولعبة الإرهاب في السودان إلى حزيران/ يونيو 1989، عندما تولى العميد في الجيش السوداني، عمر البشير، السلطة إثر انقلاب، وأطاح بالحكومة المدنية المنتخبة، بعد أن تحالف البشير مع حسن الترابي، زعيم جماعة الإخوان المسلمين السودانية، الذي أنشأ الجبهة الإسلامية القومية، وحسب تقرير لجنة 11/9، فإن الترابي شخصياً هو الذي دعا أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة للتمركز في السودان، وهو عرضٌ قبِله ابن لادن في عام 1991، حيث وافق ابن لادن على مساعدة النظام السوداني في الحرب المستمرة ضد الانفصاليين المسيحيين الأفارقة في جنوب السودان، إضافة إلى تشييد بعض الطرق. وفي المقابل سمح الترابي لابن لادن باستخدام السودان مركزاً لعمليات القاعدة في جميع أنحاء العالم، وللتحضير للجهاد.
وبهذا صنّفت الولايات المتحدة السودان في عام 1993 دولة راعية للإرهاب، وأدت الضغوطات الأمريكية إلى تقييد حركة ونشاط بن لادن والقاعدة، وهو ما أدى إلى مغادرة بن لادن السودان إلى أفغانستان عام 1996 بعد سيطرة حركة طالبان، لكن هذه الحقبة كانت كافية لابن لادن لتأسيس خلايا للقاعدة في القارة الأفريقية أسفرت عن تفجيرات عام 1998، التي استهدفت سفارات شرق أفريقيا في كينيا وتنزانيا. ورغم مغادرة ابن لادن السودان نفذت الولايات المتحدة هجمات انتقامية استهدفت مصنع الشفاء في الخرطوم؛ الذي اتُهم باستخدام تمويل القاعدة لتصنيع أسلحة كيميائية في الحرب الأهلية المستمرة من قبل الحكومة السودانية في الجنوب.
في سياق سعي البشير للتخلص من العزلة الدولية قام عام 2000 باعتقال الترابي، وقد وصفت بأنها عملية مسرحية، وعقب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر روّج البشير بأن تحركاته ضد الترابي والإسلاميين الجهاديين، تقع في سياق "الحرب على الإرهاب".
لكن محاولة الانفتاح لم تدم طويلاً، ففي عام 2003 ظهر تمرد دارفور إثر السياسات التمييزية، وحاء رد نظام البشير بحملة قاسية من المذابح والتطهير العرقي، لم تقتصر على قوات الجيش بل استخدمت مليشيات عسكرية المعروفة باسم "الجنجويد"، وأسفرت الحرب عن مقتل نحو 300 ألف شخص. واستمرت الحرب حتى آب/ أغسطس 2009، وأفضت إلى استحالة استدخال البشير في المجتمع الدولي بعد أن أصبح أول رئيس دولة في السلطة تتهمه المحكمة الجنائية الدولية بالتورط في الإبادة الجماعية، وأصدرت مذكرة توقيف ضده.
ولم تقتصر مشاكل السودان على ذلك، فقد توّرط في الحرب في الجنوب، والتي انتهت بانفصال جنوب السودان عام 2011.
شكّل التاريخ الكارثي للسودان المعاصر حصانة كافية لمنع تحوله إلى ساحة جهاد، فقد كانت نظرة الجهاديين إلى السودان أنه مبتلى بمؤامرات داخلية وخارجية، وأنه لم يدخل في حدود الردة والكفر الصريح، لكن ذلك تبدل اليوم وبات يوصف نظام الحكم بالكفر والردة ومعاداة الإسلام. إذ لم يعد السودان أرض دعوة بل جهاد، وهو ما يوفر الأيديولوجيا اللازمة لتبرير الجهاد التي كانت مفقودة.
وإلى جانب الخطاب الأيديولوجي فإن الهيكلية التنظيمية في إطار العمل، فالجهادية العالمية لا تخلق الأزمات بل تستغلها. ففي السودان ثمة جهاديين بانتظار تدهور الوضع، والشبكة الجهادية لتنظيمي القاعدة والدولة تنتشر في مناطق عديدة في القارة الأفريقية، وتتوافر على تمويل كاف. فحركة الشباب المرتبطة بالقاعدة في الصومال، تستطيع شن هجمات على إثيوبيا، على الحدود الجنوبية الشرقية للسودان، ويمكن أن تتسلّل من هذا الجانب.
كما أن الصومال نفسه هو حالة مثالية واضحة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في السودان، فمنذ انهيار الحكومة الصومالية في عام 1991، كانت هناك حرب مستمرة، وتفتتت الدولة، الأمر الذي أدى إلى دخول الجهادية العالمية وسيطرتها على مساحات واسعة.
تشير المواكبة الجهادية لتطورات الحرب في السودان إلى تحول جذري، فتنظيم القاعدة شرع بوضع خطط لتحويل السودان إلى ساحة جهادية، وهو ما عبّر عنه القيادي البارز في القاعدة أبو حذيفة السوداني، وهو جهادي مخضرم ومنظّر أيديولوجي، وكان مقرّبا من أسامة بن لادن وأبي مصعب الزرقاوي، وعندما سقط نظام عمر البشير، كتب وثيقة بعنوان لافت بعنوان "الآن جاء القتال"؛ أكد فيها أن "واجب المرحلة وفريضة الوقت هو القتال في السودان"، مؤكداً على كفر كل القوى المدنية والعسكرية التي أدارت المرحلة الانتقالية.
وفي نفس الوقت هاجم السوداني التيار الإسلامي الذي تبنّى خيار المواجهة السلمية والذين "يظنون أنهم من خلال صناديق الاقتراع يخدعون الطاغوت" حسب تعبيره. وخصص حيزا في الوثيقة لما اعتبره نصائح وتوجيهات "في ظل إرهاصات المواجهة القادمة"، ودعا إلى "سودنة الجهاد" من خلال شن حرب عصابات، فهو يقول: "السودان بلد توفرت فيه الشروط الموضوعية لقيام حرب عصابات ناجحة.. لأنه شاسع المساحة ومترامي الأطراف ومتنوع المناخ والتضاريس من جبال وغابات وصحار، مما يتيح مجالا واسعا للحركة والمناورة".
ويوجه السوداني نصائح إلى الجهاديين المحتملين لتجنب الأخطاء السابقة التي ارتكبتها الجماعات السودانية في الماضي، فالمجموعات السابقة التي تضم "مجموعة الدندر" وخلية سلامة، ومنظمات أخرى مثل أنصار التوحيد أو القاعدة في بلاد النيلين، عانت جميعها من مشاكل قيادية، وقضايا في الوحدة والتماسك، وكانت تفتقر إلى الرؤية المناسبة للحفاظ على تمرد جهادي فعّال.
وقد دعا القيادي في تنظيم القاعدة في اليمن إبراهيم القوصي (خبيب السوداني) في خطاب له بعنوان "حرض المؤمنين على القتال"؛ كل مكونات الحركة الإسلامية في السودان إلى القتال. وقد ساهمت خطب وفتاوى الصادق أبو عبد الله الهاشمي السوداني في إيجاد المسوغات العقدية والفقهية للعمل المسلح في السودان. ويعتبر الهاشمي من أبرز منظري التيار الجهادي في العالم.
وكان تنظيم الدولة قد دعا مبكراً إلى الجهاد في السودان، ففي آخر ظهور مرئي له، وقبل اغتياله ببضعة أشهر، استغل أبو بكر البغدادي تعليقه على سقوط نظام البشير في 2019 بالتحريض على فتح جبهة في السودان. وعلى امتداد السنوات اللاحقة، أصدرت المؤسسات الإعلامية المقربة من الإعلام الرسمي لتنظيم داعش مقاطع مرئية وأناشيد ومقالات متنوعة تدعو إلى "النفير للسودان"، كما كتبت صحيفة "النبأ" الناطقة باسم داعش في افتتاحية عددها 315؛ موجهة السودانيين إلى توحيد "طاقاتهم للقتال في السودان".
خلاصة القول أن السودان تجنب على مدى عقود التحول إلى ساحة جهادية لأنه نجح في بناء سردية تدّعي الإسلامية؛ مناهضة للإمبريالية العالمية والحركات الانفصالية المحلية الوثنية والبدعية، وهو ما دفع تنظيم القاعدة والجهادية العالمية إلى اعتبار النظام السوداني يتوافر على نوع من الشرعية الدينية الإسلامية، تمنع من وصفه بالكفر والردة، وهو أيضا ما دفع ابن لادن إلى الاستقرار في السودان والتعاون مع النظام بداية تسعينيات القرن الماضي.
ورغم مغادرة ابن لادن والجهاديين المعولمين السودان إلى أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان، فقد بقي تنظيم القاعدة ينظر إلى السودان كأرض دعوة لا جهاد، وهو ما سوف يتبدل تماماً مع الانقلاب العسكري على البشير، وعقب دخول عسكريي مجلس السيادة باتفاقيات التطبيع مع المستعمرة اليهودية والخضوع للاشتراطات الأمريكية، ثم دخول العسكر في صراع على السلطة والانزلاق إلى أفق حرب أهلية أصبحت أيديولوجية الجهادية العالمية واضحة بكفر وردّة الحكم في السودان، وهو ما يمهد الطريق لإنشاء وتكوين هياكل تنظيمية جهادية. وإذا ما استمر القتال بين أطراف العسكرتاريا فإن انهيار الأمن والوضع الاقتصادي ومسار التحول الديمقراطي هو الوصفة المثالية للتوحش والفوضى لتحول السودان إلى ساحة جهادية واعدة، فالجهادية لا تخلق الأزمات لكنها بارعة باستغلالها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: