لا يمكن للمرء أن يكتب بحياد عن الانتخابات التركية التي جرت يوم الرابع عشر من أيار/ مايو 2023، فالإعجاب بسلاسة العملية الانتخابية وشفافيتها مبهر ويثلج صدر الصديق ويغيظ صدر العدو المتربص، وما أكثر أعداء الانتخابات الشفافة النزيهة خاصة من مدعي الديمقراطية. أما إذا كان المتابع مواطنا عربيا (مواطن عربي هذه تعبير مجازي لربط الكلام فقط) فإن الإعجاب يتحول إلى قهر ماحق تنزف منه الأفئدة دما. سيكتب كثير من أنصار أردوغان مقالات مزدهية بانتصاره (ولو أنه معلق حتى الآن بالدور الثاني)، لذلك لا نظن أننا نضيف شيئا في هذا الاتجاه خاصة وأن كواليس الانتخابات وألاعيبها ليست ملقاة على قارعة الطريق، لذلك فإن المقارنة بين ما فعل الأتراك ببلدهم وبسياسته وما يصيب العربي من حكامه يفرض مقارنة موجعة وسننوح على أنفسنا هنا.
التاريخ القريب
على الورق النظري الذي ندرّسه للطلبة في العلوم السياسية، نجد أن هناك تلازما بين نِسب التعليم (التمدرس) وبين التقدم على طريق الديمقراطية، فارتفاع المؤشر الأول يهيئ للمؤشر الثاني بترابط سببي. في المقارنة على الأرض نجد نسب التعليم في بلدان مثل سوريا ولبنان ومصر وتونس سبقت النسب التركية تاريخيا.
قياس الثروة الوطنية بين بلدان العرب وتركيا يكشف غنى عربيا (حتى بدون ثورة النفط العربية) ومكابدة تركية إلى حدود العقدين الأخيرين. وهنا أيضا يوجد ترابط سببي بين الثروة (النظرية) وبين ممهدات الديمقراطية، لكن النتائج على الأرض مختلفة، فالثروة اتخذت لها طريقا نحو تركيا كأن بينها وبين العرب خصام قديم، والثروة حملت الديمقراطية فصارت مكسبا لعوام الناس؛ كلما أمعنوا في الديمقراطية زادت ثروتهم الفردية والجماعية، فضلا عن السيادة والموقع بين الدول والمشاركة في سياسات العالم من موقع فعّال وغير منفعل.
اتضحت معادلة بسيطة لكل ذي بصيرة: الديمقراطية رفعت نسب التعليم فارتفع الإقبال على الشأن العام بواسطة الصندوق الانتخابي، وزادت الثروة فاستقر النظام وحصل المطلوب سياسيا: دولة قوية ومؤثرة. هذه هي المعادلة الغائبة عربيا والتي كانت تمر أمام أنظار كل عربي (عنده قلب حي) وهو يتابع الانتخابات في تركيا. لماذا هم هناك ينجحون فيما نفشل هنا كأننا وُلدنا لنفشل فقط؟
لا يمكن التعلل بالعداء الغربي
نشترك مع الأتراك في أننا جميعا مصنفون لدى الغرب الديمقراطي (أضف القوسين) شعوبا شرقية متخلفة لا يستقيم أمرها إلا بدكتاتور غاشم، ولم نُخلق للديمقراطية، وهذا خطاب عمره مائتا عام، وقد تسلط على تركيا ما لم يتسلط على العرب مجتمعين (وكان بعض ما سلط عليها انتقام تاريخي وثأر من حقبة هيمنة الخلافة العثمانية على أوروبا). لذلك فإن أي عربي يبرر الفشل الديمقراطي العربي بهذه الضغوط وحدها هو ذهن كسور وإرادة ميتة.
لم تُهدَ الديمقراطية لأي شعب يتمتع بها الآن، لقد كانت كل تجربة ثمرة نضال طويل. ولا داعي للقول إن دور الغرب معاداة الديمقراطية خارجه، لقد صار هذا ثابتا تاريخيا بل سبق حتى الاحتلال المباشر (كانت الديمقراطية حينها لفظا فلسفيا فقط).
والعرب أسسوا الدول الحديثة وبنوا مؤسسات الحكم، لكنهم حوّلوا دولهم إلى إقطاعات للحكام. والمثير للحيرة هو صبر الشعوب على غياب الديمقراطية وتهربهم من دفع كلفة السير إليها، وهو الثمن الذي دفعه الأتراك بلا حساب، وآخر الأثمان كان التصدي للدبابات الانقلابية بصدور عارية، وانتخابات أيار/ مايو هي ثمرة مباشرة لذلك الدم الذي سارت عليه آخر دبابة انقلابية في تركيا، فيما العرب يُظهرون حتى الآن استعدادات لتقبيل خشم الدبابة والركون إلى الحذاء العسكري.
العداء الغربي للديمقراطية في العالم العربي وفي غيره (ليس ذلك العداء خاصا بالعرب لننظر إلى أفريقيا) حقيقة عاناها الأتراك ولم يخشوها، فلماذا نتخذها ذريعة لقبول الديكتاتوريات الفاسدة؟
الربيع العربي ما زال يَعِد بالأمل
تعزية حلال رغم الأفق المُدلهمّ بالسيسي وقيس سعيد وحفتر وبشار الأسد وشنقريحة الجزائري. آخر صف يقف معاديا للديمقراطية في البلدان العربية المقهورة بعد صف طويل رحل الربيع العربي برموزه إلى غياهب النسيان، لكن أنظمتهم أفلحت في الارتداد به إلى ما قبله. غير أن الوعد الديمقراطي ما زال قائما بقوة، علما أن الأتراك الديمقراطيين، ونسمي أردوغان باسمه، وقف إلى جانب الربيع العربي ودعمه وراهن عليه، وكانت وقفته من أسباب معاناته الانتخابية الأخيرة.
كانت لحظة الربيع فارقة، وقد كشفت أن الاستعدادات للديمقراطية في البلدان العربية واقع قائم وليست عملا مخالفا لطبيعة الأشياء كما يوهم بذلك الغرب المعادي، وأن المعاناة أيضا واقع قائم (وهل تُهدى الديمقراطية؟)، وأن المقاومة أمر مطلوب اهتداء بمعاناة الفرد التركي الذي رسّخ تجربته رغم أن العدو واحد.
كيف نستثمر في الاستعدادات اهتداء بالتجربة التركية؟ هنا درس عظيم وجب ثني الركبة والتعلم منه بصبر وأناة، وأول هذه الدروس هو أن معركة الديمقراطية هي معركة تحرر وطني بالأساس.
التحرر الوطني بالديمقراطية
إعادة بناء النظرية السياسية العربية حول ثابتين أساسيين: بناء الديمقراطية لا ينفصل عن معركة التحرر الوطني، والتحرر الوطني يبني الديمقراطية. وهما عنصران متلازمان لا يمكن تحقيق أحدهما دون الآخر، فالديمقراطية لا تكون في بلدان بلا إرادة سياسية مستقلة، هذه حقيقة توصلنا إليها وكتبنا فيها كثيرا والانتخابات التركية تعيدنا إليها للتذكير والاعتبار. ولا معنى للسؤال أيهما يسبق الآخر، فهما متلازمان يحققان بعضهما كشرط تلازم اشتعال النار بوجود الحطب أو نزول الغيث بوجود رطوبة في الجو.
لقد "دبستنا" الأنظمة في خطاب استقلال مزيّف، لكنها عاشت من العمالة حتى ماتت بها وجمّدت شعوبها وروّجت لنا ما أمَرها حُماتها الغربيون بترويجه: إن الشعوب غير مؤهلة للديمقراطية ووجب حكمها بالحديد والنار، ولكن كل الدروس وآخرها الدرس التركي تثبت العكس. التحرر الوطني يسير جنبا إلى جنب مع بناء الديمقراطية، وخطاب ترتيب الأولويات هو خطاب منافق يؤجل الضروري ليستمر القمع.
الدرس التركي الأهم هو أن التركي يبني ديمقراطيته ويتصدى بها للاستعمار الغربي الذي لم يقصر في حربه على التجربة بمساريها السياسي الاقتصادي والتحرري، كلما زاد في قوة البناء الديمقراطي كلما حرر مناطقه وإرادته الاقتصادية وفرض نفسه فاعلا دوليا يُحسب لدولته كل حساب. لقد تبيّن الرشد الديمقراطي من الغي السياسي العربي، فمن أراد التعلم فالدرس مجاني ومتاح على كل وسائل الإعلام.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: