منذ بدء ثورات الربيع العربي التي اشتعلت شرارتها الأولى في تونس، أخذت التجربة التونسية صفة حالة الاستثناء في العالم العربي باعتبارها نموذجاً ناجحاً للتحول الديمقراطي، وسط حالة الاستبداد العربي الذي أعاد هيكلة منظومة السلطوية الاستبدادية تحت ذريعة الحفاظ على "الديمقراطية". وقد دعمت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي سرديات الانقلاب على الديمقراطية وساهمت في عرقلة مسارات الانتقال الديمقراطي، وكانت تونس آخر ضحايا خرافة دعم الديمقراطية، بعد أن عادت إلى عضوية نادي الاستبداديين العرب، والخروج من حالة الاستثناء القصيرة.
في خضم التبدلات الجيوسياسية ونهاية الحرب الأبدية على "الإرهاب"، برزت سردية أمريكية جديدة قديمة في عهد الرئيس جو بايدن لمواجهة التحديات الاستراتيجية بتقسيم خطوط الصدع والصراع في العالم بين الديمقراطية والاستبدادية. وينطوي تقسيم بايدن للعالم إلى معسكرين "معنا أو ضدنا" على بصمة وصدى عهد جورج دبليو بوش عام 2001، وبداية الحرب الأبدية على "الإرهاب"، ومن قبل في ظل الحرب الباردة وتقسيم الصراع في العالم بين الخير والشر.
وفي واقع الأمر لا تعدو قيم "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" عن كونها أداة أيديولوجية تستخدمها الولايات المتحدة لفرض هيمنتها العالمية وتبرير تدخلاتها في شؤون الدول المناهضة لسياساتها. فحسب المفكر الأمريكي ويليام بلوم في كتابه "الديمقراطية أشد الصادرات الأمريكية فتكا" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت الولايات المتحدة للإطاحة بأكثر من 50 حكومة أجنبية، معظمها منتخبة ديمقراطياً، وتدخلت بشكل صارخ في انتخابات ديمقراطية لـ30 دولة على الأقل، وحاولت اغتيال أكثر من 50 من القادة الأجانب.
إذا ما أخذنا الدعاوى الأمريكية بخصوص دعم الديمقراطية على محمل الجد، فإن العالم العربي يشكل مختبراً يفضح دعوى الولايات المتحدة بما يعتبره الرئيس بايدن المعركة الأكثر أهمية على الإطلاق من أجل الحريات والقوانين والقيم العالمية، فالهزيمة محققة وخسارة بايدن فادحة في كافة الجبهات، ومع ذلك لا يكف الرئيس بايدن عن ترديد الترهات كما فعل في وارسو في شباط/ فبراير الماضي حين قال: إن "الديمقراطيات في العالم أصبحت أقوى والمستبدين أصبحوا أضعف"، وهو أمر يتجاوز حد الوقاحة الإنكارية ويدخل في حد الكذب الصراح.
ولسنا بحاجة إلى استعراض كافة مؤشرات الديمقراطية لمعرفة خطل الادعاء، فالعالم العربي يشهد على العقيدة الأمريكية الراسخة بدعم الاستبداد، والولايات المتحدة الأمريكية عقب الانقلابات في تونس والسودان ومصر امتنعت عن وصف الأحداث بالانقلاب، ذلك أنها على دراية بها وتساهم في خدمة مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، فما جرى في هذه البلدان هو استكمال لعمل محور "الثورة المضادة"، والذي تقوده أنظمة استبدادية حليفة للولايات المتحدة في المنطقة، وهي أنظمة لا تخفي مناهضتها للديمقراطيات الناشئة في العالم العربي وتدعم القوى العسكرية والشعبوية المناهضة للديمقراطية.
إحدى الحجج الأكثر شيوعاً لمدبري الانقلابات في العالم هي الادعاء بأن ما حصل ليس انقلاباً بل تصحيح لمسار الثورة والديمقراطية ومحاربة الفساد ومنع الفوضى والحفاظ على الاستقرار. فبعد انقلاب القائد العام للجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، نفى أن تكون القرارات التي اتخذها والتي شملت حل مجلسي السيادة والحكومة الحاكمين للفترة الانتقالية، بمثابة انقلاب عسكري، معتبراً أنها "تصحيح للمسار".
وفي تونس، بعد إعلان الرئيس قيس سعيد، تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة، وتولي منصب النائب العام، في 25 تموز/ يوليو 2021، ادعى أن ما قام به يمثل تصحيحاً لمسار الثورة التونسية، واستند في قراراته الانقلابية إلى الدستور، وقال إنه قرر "عملا بأحكام الدستور، اتخاذ تدابير يقتضيها الوضع، لإنقاذ تونس، ولإنقاذ الدولة التونسية ولإنقاذ المجتمع التونسي"، مشددا على أن ما قام به "ليس تعليقا للدستور، وليس خروجا عن الشرعية الدستورية".
وكان وزير الدفاع سابقاً عبد الفتاح السيسي الذي جاء بانقلاب على أول رئيس مدني منتخب في مصر، محمد مرسي، قد قال في بيان الانقلاب في 3 تموز/ يوليو 2013 إنه جاء استجابة لدعوات الشعب المصري للجيش للتدخل ولعب "دوره الوطني"، مستبعدا أي دور له في الحياة السياسية.
تجنبت الولايات المتحدة إطلاق مصطلح "الانقلاب" على ما حدث في البلدان العربية، مفضلة القول إنه "استيلاء عسكري على السلطة"، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، إنه "عندما تنشأ مثل هذه الأحداث، نقوم بالفعل بتحديد وصف الانقلاب".
وكان الموقف من الانقلاب في تونس مماثلاً، حيث قال نيد برايس في بيان بعد ساعات قليلة من الانقلاب إن واشنطن تراقب عن كثب التطورات في تونس، وأن هناك تواصلا مع المسؤولين في الحكومة التونسية "للتأكيد على أن حلول المشاكل السياسية والاقتصادية في تونس يجب أن تستند إلى الدستور التونسي ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية". وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي: "كل من البيت الأبيض ووزارة الخارجية على اتصال مع القادة التونسيين لمعرفة المزيد عن تطور الوضع".
وإذا كانت الولايات المتحدة قد تجنبت وصف ما حدث في تونس والسودان بالانقلاب واستخدمت لغة مراوغة، فقد كانت أكثر وضوحاً بعد الانقلاب العسكري في مصر، حيث قال وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري إن الجيش المصري كان "يستعيد الديمقراطية".
تشير الحالة التونسية إلى بؤس سياسة الولايات المتحدة وادعاءاتها بدعم الديمقراطية ومناهضة الاستبدادية، فقد ساندت الولايات المتحدة بطرق ملتوية عديدة خيار الاستبدادية في تونس، ولم تحرك ساكناً تجاه سياسات الرئيس قيس سعيّد لإبطال عملية التحوّل الديمقراطي في تونس، والتي أدت إلى تأسيس نظام حكم يُركز على السلطة الرئاسية ويفتقر إلى الضوابط والمعايير الديمقراطية، وقد شرع الرئيس قيس سعيد خلال الأشهر الأخيرة بتضييق الخناق بشدة على الحريات المدنية.
تجلت خرافة الدعم الأمريكي للديمقراطية ومناهضة الاستبدادية في تونس بصورة فجة، عقب تنامي حملة القمع التي شنّها سعيّد على كافة القوى الديمقراطية، والتي تُوجت باعتقال وسجن راشد الغنوشي، رئيس "حزب النهضة" الإسلامي المعتدل والمعارض الرئيسي لسعيّد، بالإضافة إلى منع الاجتماعات في المقر الرئيسي للحزب. لكن فضيحة سياسة واشنطن لم تتمكن من ستر عوارها من خلال الصمت دون أدنى إدانة لحملة الاعتقالات ذات الدوافع السياسية الصريحة، والأدهى أنها جاءت تحت ذرائع واهية تستخدم حجة الإرهاب، وهي حجة باتت بائسة مع انكشاف لعبة تسييس ملف الإرهاب والأمن.
ولم تقتصر سياسات واشنطن على الصمت، فهي لم تمارس أي ضغوطات على المنظومة الاستبدادية، وفي المقابل لم تقم بدعم القوى الديمقراطية في المجتمع المدني والمعارضة السياسية، ولم تبذل أي جهد يساعد في توحيد هذه المجموعات حول استعادة الضوابط والموازين ومعايير الحكم الديمقراطي، ولم تقم بدعم المنظمات الإقليمية للتأثير على القادة الاستبداديين.
تكشف حالة تونس كما هو شأن حالة العالم العربي فضلاً عن غيرها، الطرائق الأمريكية الملتوية في التعامل مع الديمقراطية كأداة للهيمنة، سرعان ما تتخلى عنها لصالح الاستبدادية. فالدروس المستفادة من تجارب مماثلة في بلدان أخرى تشير إلى وجود طرق محددة يمكنها أن تعيد تونس إلى المسار الديمقراطي، وتشمل هذه المسارات دعم المجتمع المدني في تقليل الاستقطاب والشعبوية، والعمل مع الأحزاب السياسية للتكيف مع الحقائق الجديدة واستعادة الدعم الشعبي، والدعوة إلى استقلال القضاء والعمل مع قضاة مستقلين رفضوا استيلاء سعيّد على السلطة القضائية، وحثّ الجيش على عدم الانصياع لمحاولة سعيّد لتسييسه، لكونه لاعبا غير سياسي تاريخياً. فلدى الولايات المتحدة شراكات طويلة الأمد مع المؤسسات والجهات الفاعلة الرئيسية في تونس، بما فيها الجيش، لكن واشنطن تستنكف عن استخدام تلك الأدوات بما فيها إجراء تقييم شامل للمساعدة الأمنية لضمان عدم مساهمة الأموال الأمريكية في قمع سعيّد لحقوق الإنسان.
خلاصة القول أن التجربة التونسية التي اعتبرت حالة استثناء نموذجية في العالم العربي في إطار تجارب الانتقال الديمقراطي، جرى الإطاحة بها بطريقة بائسة وطائشة، دون أن تحرك الولايات المتحدة الأمريكية ساكناً، واستنكفت واشنطن عن استخدام نفوذها لتيسير الانتقال الديمقراطي، وبطرائق ملتوية ساهمت بعودة الاستبدادية وإجهاض الديمقراطية.
وفي حقيقة الأمر فإن شعار دعم الديمقراطية ومناهضة الاستبدادية هو أحد الأساطير الأمريكية الأكثر مراوغة وتفاهة في عصرنا، فلطالما دعمت واشنطن الانقلابات ضد الديمقراطية في العالم. وشكّل العالم العربي مختبراً لانقلابات والانقضاض على مسارات الانتقال الديمقراطي عقب ثورات الربيع العربي، إذ لا تعدو قيم "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" عن كونها أداة أيديولوجية تستخدمها الولايات المتحدة لفرض هيمنتها العالمية وتبرير تدخلاتها في شؤون الدول المناهضة لسياساتها.
ففي السنوات الأخيرة، عزز الاستبداديون قبضتهم على العديد من البلدان، وشهدت العديد من الديمقراطيات صعود قادة وحركات ذوي عقلية استبدادية. هذه الاتجاهات تجعل مهمة فهم الحكم الديكتاتوري الاستبدادي الذي تدعمه واشنطن ذات أهمية كبرى، وعلى النقيض من ادعاءات الانقلابيين من المستبدين بإنقاذ البلاد وتصحيح المسار، تكشف الوقائع التاريخية افتقار المستبدين لاستراتيجية واضحة، وهو ما ترغب الولايات المتحدة بوجوده لديمومة الهيمنة واستدامة البؤس، بعيداً عن خرافة دعم الديمقراطية ومناهضة الاستبدادية التي أصبحت من الدعايات الأمريكية التافهة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: