يتذكر التونسيون عامة والسياسيون منهم خاصة النازلة التونسية الأولى، وهم يعيشون النازلة الثانية بعد قرنين. النازلة الأولى أو القضية هي عملية السرقات المالية التي قام بها وزراء الخزانة (أو المالية) في دولة البايات في القرن 19 وهروبهم بالخزنة إلى إيطاليا، وقيام الدولة بمتابعهم قضائيا لدى المحاكم الأوربية وفشلها في استعادة الأموال. وتفاصيل النازلة/ القضية يجدها المؤرخون المهتمون في كتاب "صفوة الاعتبار" لمحمد بيرم الخامس، وهو العالم الذي كلف بمتابعة الملف ولم يفلح إلا في التأريخ له، أما الأموال العامة فقد صارت ذكرى. النازلة الأولى انتهت باحتلال تونس وإخضاعها لاستعمار مباشر دام قرنا إلا قليلا.
النازلة الثانية مختلفة بعض الشيء، لكننا نرى نتيجتها أو نتوقعها بيقين أن الخروج منها سيكون -ما لم يتحد معارضو الانقلاب- باحتلال ثان لا يحتاج فيه المحتلون النزول بجيشوهم الجرارة.
الأموال العامة ليست النازلة الأهم
لو حصرنا النازلة الثانية في الأموال العامة المنهوبة من قبل نظام بن علي وأصهاره لكانت نازلة مرعبة لوحدها، ولكن أبعد من الأموال التي أغلقت دونها الأبواب فلم يصل إليها قاض رغم مكانها المكشوف، فإن النازلة الحقيقة هي منع البلد من التحرر الفعلي عبر تكملة مهام الثورة الاقتصادية والاجتماعية، والتي حيل دونها بالانقلاب فعاد البلد إلى نقطة الصفر السياسي بعد أن كان خطاب الثورة يرتب أحلاما حول المستقبل قائمة على الحرية والديمقراطية.
النازلة الأولى مهدت للاحتلال والنازلة الثانية تمنع من التحرر، يمكن للمؤمنين بالمؤامرة أن يجدوا خيطا رابطا ومقنعا أيضا، فاللعبة تقاد دوما من الخارج وتنتهي لصالح الخارج ضد مواطني البلد. وهذا ليس فتحا علميا وإن بدا؛ إنما هي حقائق التاريخ تتوالى بنفس المنطق؛ منطق العجز عن فهم الصورة الكاملة والتعامل معها في كليتها. هنا نعثر عن سبب آخر للنازلة الثانية، إنه خلافات الذين ادعوا وصلا بالثورة وبالديمقراطية وكشف الانقلاب أنهم أصغر من ذلك، وأن صغارهم أودى بهم وأودى بالبلد وحوّله إلى نازلة على طاولة الخارج الذي يتدبر له مستقبلا طبقا لمصالحه الاستعمارية.
سنقول إن النازلة التونسية الثانية ليست مالية بالأساس (وليس عجز الانقلاب إلا تعبيرا جزئيا عنها) إنما النازلة في فقدان نخبة البلد لتصور تحرر شامل يقدم الحرية والسيادة على منافع الأشخاص وغنائم السلطة. هذا الجهل أو العمى السياسي هو الذي حكم بعد ثورة 2011، زاعما أن الحرية قد حصلت وأن البلد قد صار رقما قويا يمكن به فرض الخيارات السيادية في المحيط والجوار. لقد كانت ثورة تحرر حوّلتها النخب العمياء القاصرة سياسيا إلى مغانم صغيرة فسقط البلد من أيدي الجميع.
احتمالات الاستدراك؟
حتى لا نعيد ترديد النواح القاتم عن عمى النخبة، نراقب ونتساءل: هل هناك احتمالات استدراك سياسي لاستعادة مسارات بناء الحرية والسيادة بشروط الديمقراطية ووسائلها؟ بالأماني قد يكون، بالوقائع هذه نخبة مستنفدة وقد أساءت فهم المرحلة وأساءت فهم الثورة إلى حد اليأس من احتمال ميلاد فكر مختلف من أرحامها السياسية العقيمة.
الكاتب من خلف شاشته يزايد على قيادات مناضلة تقبع في السجون.. نعم سيُفهم هذا الكلام بهذا المعنى على الأرجح، ولكن للكاتب الحق في البحث عن علامات ذكاء يراجع سوء الفهم النخبوي للثورة ومصائرها.
علامات سوء الفهم المحبطة نراها في الدخول المرتبك على معارضة الانقلاب بوسائل النضال الحقوقي وحدها، ثم الوقوع في موقع الضحية مستجدية العدل من غير مذهبه ومن غير أهله، دون شعور بالذنب في أن الانقلاب جاء نتيجة الجهل وسوء الطوية السياسية الذي حكم قبله. ننتظر منذ أول الانقلاب أن يقول السياسيون لقد أخطانا إلى حد عدم الانتباه إلى القوى المتسللة من خلف الثورة على ظهر شخص لم ينتبه لوجوده أحد، ولأننا أخطأنا قبل الانقلاب فيجب أن نصحح ما بعده بالاعتراف أولا بالتقصير والغفلة المخجلة ثم ننشئ اتفاقات جديدة.
على هذا الاعتراف تبنى سياسات ومواقف جديدة وتتوسع تحالفات عملية على قاعدة مطالب الثورة. لم يحدث شيء من هذا، بل ما زال الحديث يجري بمنطق الغفلة الأولى، وأهم أساس قامت عليه تلك الغفلة هو الروح الاستئصالية التي فرزت بين الناس وخوّلت لنفسها شهادات نضالية وحقوقا في الحكم لم تخولها لغيرها من الشركاء.
في تقديري المعارضة التونسية للانقلاب لم تقيم مواقفها مما قبله حتى اللحظة، ولذلك لم تقدّر حجم الضرر السياسي الذي انبنى على ممارسات استئصالية، ولهذا بالذات فإن الجمهور الواسع لم يلتحق بالمعارضة وظل في وضع المراقب، وكثير منه يطبق قاعدة قبول السيئ هروبا من الأسوأ، أو نكاية في غباء المعارضة نناصر الانقلاب الغبي.
لقد تقلص حجم الحضور الجماهيري في وقفات جبهة الخلاص الأخيرة وسمعت عبارات التذمر واليأس وفقدان الأمل (طبعا بقية الطيف المعارض من غير الجبهة لا يخرج إلى الشارع وقد توقف عن إصدار البيانات). سبب هذا التقلص هو مقدار الشماتة في اعتقال الغنوشي؛ ليس من داخل أنصار الانقلاب بل من داخل أطياف معارضة أخرى.
لقد كشفت بيانات مساندة المعتقلين عن كم من الحقد الاستئصالي المفضوح الذي لا يعتبر قيادات النهضة من ضمن الطيف السياسي، ويقبل ضمنيا التهم غير الأخلاقية التي يوجهها لها الانقلاب. وهو الأمر الذي أحبط جمهور حزب النهضة وحدّ من سيره في التظاهر، إنه الشعور بالإقصاء يتجلى لهم ويعلمهم إنهم ليسوا مقبولين إلا كسجناء، كأنهم يقولون للمعارضين "اذهبوا فهاتوا جمهورا غيرنا يسير وراءكم".
هنا تنكشف النازلة التونسية الثانية، وهنا يتنفس الانقلاب وأجهزته وجهاته الراعية، هنا ينكشف قصر نظر المعارضين، هنا نجد عقل ما قبل الانقلاب وعجزه عن فهم اللحظة وعدم استيعاب الحدث الانقلابي وبالتالي استمرار أسباب الفشل في إنهاء الانقلاب.
كل الدروس ماثلة للعيان، لقد ضمن بن علي بقاءه بالاعتماد على الروح الاستئصالية وتذكيتها بالرشاوى السياسية والمالية ويستمر الانقلاب (الفاشل في كل شيء) بهذه الروح التي لا تقتصر على أسماء استئصالية صريحة، بل على طيف واسع يزعم الديمقراطية لكن دون إقامتها على العدل في المشاركة.
هل تنتهي النازلة الثانية باحتلال جديد؟ لن نتوهم معجزات لكننا نعاين ما يجري حولنا. تونس ملف على طاولات القوى الدولية المحيطة ومعارضو الانقلاب يختصمون حول كيف نحكم بعده دون إسلاميين؟ سيمكثون طويلا في نفس الحفرة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: