ها قد اعتقل زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وبتهمة مثيرة للسخرية.. كل التونسيين سمعوا تصريح الغنوشي (ولم يكن تصريحه إلا تفاعلا مع فكرة جوهرها تصالح مع الانقلاب)، واستعادوا تاريخ خطاباته الداعية إلى التهدئة والتسويات السياسية التي توحد ولا تفرق، وتُعلي الحلول السياسية غير العنيفة. والكل عرف أن التسجيل المعتمد كحجة إدانة قد تم التلاعب به قبل أن يقدم للتحقيق، لكن المحاكمة ماضية في طريقها والمحامون يملكون النص الأصلي. هل ازداد النظام قوة بعد اعتقال الغنوشي؟ سؤال اللحظة: ماذا استفاد النظام/ الانقلاب حتى الآن؟
اعتقال فيه هروب من الأزمة الاقتصادية
لم يحتج الأمر إلى ذكاء كبير لتعرية نية عارية أن الاعتقال يمثل هروبا من المشكل الجاثم فوق تونس وشعبها الحائر. حتى اللحظة بدت خسارات الانقلاب من الاعتقال أكثر من مكاسبه، فالأسعار لم تنخفض والناس في الضنك الذي سبق الاعتقال، بل إن أسعار السندات التونسية انخفضت سريعا كرد فعل على الاعتقال، والدينار في سقوط حر أمام الأورو (العملة التي نستورد بها حاجيات البلد). هذا فضلا عن حملة تضامن غير مسبوقة في تاريخ تونس مع شخصية سياسية تونسية اكتشف الانقلاب بلا شك حجمها ومكانتها خارج البلد، فالاعتقال صغّر المنقلب وأكبر الغنوشي وهو خارج السلطة.
لا يبدو أن الانقلاب يقدر حجم خساراته وهو ماض قدما في المحاكمة، بل تدبر قضية أخرى بلا دليل ضد الغنوشي لم يجد المحقق بدا من إسقاطها في جلسة تحقيق واحدة، لذلك فإن تأويل سلوك النظام/ الانقلاب يحتاج أن يقرأ بشكل مختلف.
هذا الاعتقال مكمّل أو يأتي في نفس سياق عدم الاعتراف بهزال منجزات الانقلاب؛ كعدم اعترافه بفشل انتخاباته بعد فشل الاستفتاء وبعدم الاعتراف بدستوره في الداخل والخارج. أي أنه يقوم باستبعاد المعارض الأثقل وزنا من أمام مشروعه السياسي بتغيير هيئة الدولة نحو نظام مستقر فقط في ذهن صاحبه. وقد أتى بنفس التأني، فالمنقلب غير مستعجل في إنجاز مشروعه وغير مهتم بما يجري حوله، وهو لا يتحسس الرفض العام الذي عبرت عنه كل الأطياف المعارضة، ويصر على فرض أمر واقع بلا أفق سياسي رغم الأزمة.
الاعتقال تدبير استئصالي
قبل الاعتقال قامت قوات أمنية من أسلاك مختلفة بتدريبات تصدي لشارع ثائر (بما يكشف أنه كانت هناك تحضيرات مسبقة للاعتقال قبل إعداد التهمة)، لكن الشارع ونعني جمهور حزب الغنوشي فوّت الفرصة مرة أخرى واحتمل الضربة ولم يخرج للمواجهة، مما أفرغ الاعتقال من مضمونه الاستفزازي وترك القوات المستعدة في تسلل. لكن هذا لا يعفي الأجهزة (أو شقوقا داخلها)، كما لا يعفي غيرها من رغبة البحث عن مصادمات تبرر بها تهيئة المزيد من الأسباب لفرض برنامج الانقلاب بالقوة. ما فائدة الأجهزة من إثارة الفوضى؟ وهل كان الصدام مع شارع النهضة سيوفر حلا اقتصاديا؟
لا يبدو لنا أن الانقلاب مشغول فعلا بالأزمة (كأنها تقع في بلاد أخرى)، بل إنه يعمل على التعفين وبث الاضطراب ليعيش منه. وتبدو لنا الأجهزة الموالية مساهمة في هذا المسعى، وهو ما يعري القوى الكامنة داخل الانقلاب ويعري رغباتها وأجنداتها الخاصة من داخل الانقلاب نفسه.
نزداد يقينا كل يوم ومع كل خطوة يخطوها النظام أن هناك أجندات فئوية داخل أجندة المنقلب؛ أهمها أجندة الاستئصال التي يقودها يسار استئصالي لا يخجل من إسناد الانقلاب بوجه عار.
ونرجح بيقين أنه بعد الحادث الصحي الذي تعرض له الرئيس في رمضان، وبعد استفحال الأزمة الاقتصادية، أن المحيطين به من اليسار قد أيقنوا بأن الانقلاب لم يعد يملك الوقت لتنفيذ أجندتهم الاستئصالية التي من أجلها وقفوا معه، فهم يسارعون إلى تنفيذ أجندتهم بقطع النظر عن نتائجها الآنية.
إن أي حادث صحي آخر أو انفجار اجتماعي فجئي قد يتركهم في العراء ويخرج حزب النهضة ورئيسه منتصرين (وبقاؤهم أحياء بعده يمثل انتصارا كبيرا من وجهة نظر استئصالية).
ولأن حزب النهضة بعد أن نظم معارضة سلمية وتحرك بشكل مدروس (معارضة متأنية) ولم يخرج بعد الاعتقال للمواجهة وحده، فإن فرص الاستئصال على طريقة ابن علي قد قلت أو انعدمت، لذلك يأتي اعتقال الرأس المدبر كآخر ضربة متاحة بواسطة الأجهزة.
لغنوشي يربح حتى بموته
ماذا بعد الاعتقال والمحاكمة؟ كثيرون يطرحون السؤال الآن، حتى ألد أعداء الغنوشي وجدوا في اعتقاله من قوى الانقلاب مكسبا له. ستكون هناك محاكمة والملف الفارغ سيزيد في تبرئة الغنوشي وفضح منظومة الانقلاب، فيكسب في سجنه ما خسرته في حريته.
ورغم أن هناك استبشار طروب من أنصار الغنوشي بالتعاطف الدولي الكبير مع زعميهم (وقد رمّم ذلك عزائمهم ووفّر لهم راحة نفسية مؤقتة)، إلا أن المكسب الكبير من الاعتقال هو توفير مخرج مريح للغنوشي من الجثوم على رأس الحزب وهو الأمر الذي كان يسبب أزمة استبدال قيادي تأخر وتعقّد، وأدى إلى انقسامات وانسحابات وزانة من الحزب (أهمها انسحاب مجموعة المائة وتأسيسهم لحزب آخر).
لقد قام الحزب بتكليف الدكتور منذر الونيسي على رأس الحزب وبشكل سلس (ربما كان البعض ينتظر أزمة زعامة لم تحصل)، وفوق ذلك فإن خروج القائد الأول من موقع القائد إلى موقع الشهيد لا يمكن إلا أن يساهم في تجميع مكونات الحزب وتقوية لُحمته الداخلية، خاصة بالنظر إلى تراث المظلومية التي تعيش منه حركات الإسلام السياسي منذ عقود طويلة.
إن الزغاريد التي سمعناها في المعسكر الاستئصالي بعد الاعتقال لا تعدو كونها تعزية عن خيبة أصحابها وجهلهم بقوة الدفع التي تلقاها الغنوشي وحزبه بهذا الاعتقال (الشهادة). الإسلاميون يظنون أن مثل هذا الاعتقال هدية ربانية، وربما حلم الغنوشي بالشهادة بعد طول عناء (جهاد) سياسي، لذلك سنسمع بعدها تحريضا إيمانيا على المزيد من الصبر والتريث وعدم الرد على أي استفزاز أمني، بما يزيد في بلبلة الصف الاستئصالي.
ولنلخص تخفيفا، الاعتقال لن يحل أزمة الانقلاب المالية والاجتماعية، وسينظف حزب النهضة وزعيمه من كراسات التهم التي ألصقت بهما منذ عودتهما من المنافي ومشاركتهما في السلطة. وسيكشف للطيف المعارض أهمية حزب النهضة ووزنه وفائدة هذا الصف في الاقتراب منه والاعتماد على جمهوره المسالم، وهي نتيجة عرضية ولكن مهمة جدا، فمحاولة التفريق بين الصف المعارض والنهضة تؤدي حتى الآن نتيجة عكسية تماما. هذا فضلا عن أصداء إيجابية بلغت الجميع، فالخارج المتربص بالبلد متفاجئ بضبط النفس النهضوي بعد اعتقال الزعيم وهي أرصدة مضافة للحزب وزعيمه، إذ حولته إلى ورقة أساسية من ورقات الحل الذي لن يكون استئصاليا.
لن نقول إن الانقلاب كان في غنى عن هذا الاعتقال فليس للانقلاب عقل يحتكم إليه، لكنه خطوة أخرى متخبطة جنى منها حزب النهضة والغنوشي مكاسب كبيرة جعلتهما جزءا من الحل المستقبلي لا عقبة في طريقه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: