فئتان من المؤمنين تقتتلان في السودان في هذه اللحظة، فمن الباغية منهما لننصر التي وقع عليها البغي؟ لا أحد من المؤمنين بالصلح يمكنه أن يفتي لنا في الباغي والضحية، الجميع يكبّر ويطلق النار ويقول قتيلي شهيد وقتيل خصمي في النار. الجنة والنار توزع الآن في السودان بين مؤمنين يقتتلان.
لن نخوض في الغيب فلسنا مؤهلين للفتيا، بل نغرق في واقع عربي عفن بفعل الجيوش العربية. سبعون عاما أو يزيد من الجيش العربي في كل قُطر عربي ولا معركة تحرير، بل معارك تحطيم الشعوب بفعل من ظن بهم خيرا لواجب الدفاع والحماية والبناء. من أين نبدأ؟ من مغرب الأمة أم من مشرقها؟ كم قتلت الجيوش العربية من مواطنين عرب ليسوا إلا إخوتهم وأبناء عمومتهم؟ ولصالح من تم القتل والسحل باسم الوطن؟ وإلى متى يستمر دور جيوش تحمل أكداسا من أوسمة علقتها على صدروها ولم تخض حربا ضد عدو يراه الجميع ويخشاه ويتخفى خلف التوازن الاستراتيجي مع العدو؟
يعجزنا تعداد فشل الجيوش العربية وبطولاتها أيضا
نرتب الوقائع مند الاستقلال (منتصف الخمسينات)، نبحث عن انتصارات عربية قادتها جيوش عربية ورثت معظمها مجاهدي حركة التحرر الوطني، ومنها كوّنت نواتاتها الأولى نقارن حرب المقاومين الأفراد أو العصابات الصغيرة بحرب الجيوش فنقول ليت الأقطار المستقلة اتخذت لها عصابات حربية تنادى في الملمات، فالجيوش تحولت بسرعة خارقة إلى أجهزة بيروقراطية تتفنن في قمع شعوبها.
نبدأ من جيش مصر ونكمل بآخر بطولات جيش السودان، ونمرّ في الطريق بجيش البعث السوري وبطولاته في حماة وبجيشي المغرب والجزائر وهما متقابلان على جبهة الصحراء مند ستين عاما، فلا الحرب خيضت وحسمت الخلاف ولا السلم انتصر.
لا نسجل في أبواب أمجاد الجيوش العربية انتصارا واحدا بل حروبا بينيّة وأخرى أهلية تنادي لها الجيوش، لا بل ترافقها فتاوى الجهاد في سبيل الله وتصمت وقت الحرب ألسنة الإعلام فلا تخدش حياء الجيوش بسؤال عن جدوى ما تفعل الجيوش. والمثال حاضر أمامنا اللحظة، إذ لم نقرأ لإعلامي سعودي يجادل في مشروعية حرب بلاده في اليمن.
الحقيقة أن قائمة الخزي طويلة واستعراضها يفقد جدواه، فنختصر: الجيوش العربية عبء على أوطانها تسرق قوتها في تسليح غير مجد وتقمع شعوبها بأيديها أو بواسطة مدنية تصطنعها، ولا تخوض حرب تحرير رغم أن الأعداء متربصون على الحدود.
الجيوش العربية هي الثورة المضادة
منذ انقلاب عسكر الجزائر على أول تجربة انتخابية تعددية في التسعينات تبينت الأدوار الجديدة للجيوش العربية؛ منع الشعوب من الوصول إلى الحكم الديمقراطي، ولو اقتضى الأمر ارتكاب مذابح. ما فعله الجيش المصري بالتجربة الديمقراطية هو من جنس ما قام به جيش الجزائر قبله، والذرائع دائما متوفرة وهي واحدة: مقاومة الإرهاب الإسلامي. ولم يُطرح السؤال فهو ممنوع: أيهم الإرهابي؟ الإسلامي الذي يسعى إلى الصندوق الانتخابي وينتصر به، أم العسكري الذي يحطم الصندوق ويفرض نفسه بنهر من الدم بل يحرق الناس أحياء في الشوارع؟ وآخر المساهمين في تحطيم التجارب الديمقراطية الوليدة هو الجيش التونسي الموصوف سابقا بالحياد السياسي.
كيف تحولت الجيوش العربية من جيوش تحرير إلى أدوات تخريب أوطان؟ لن نظفر بالإجابة، لكن لو نظرنا في المعارك التي هربت منها أو تحاشتها هذه الجيوش سنفهم من يمسك لجام هذه الجيوش في كل قُطر عربي ونظنه واحدا بمسميات مختلفة.
لقد تحاشت هذه الجيوش دوما معارك التحرير ولم تتورع عن محق شعوبها، فلقد نشأنا على خريطة لوطن عربي كبير يروجها عَبَدة البوط العسكري من القوميين؛ تبدأ من لواء الإسكندرون السوري الذي ضاع في تقسيمات ما بعد الحرب الأولى إلى منطقة الأهواز التي يحتلها الفرس (أو سبتة ومليلة في المغرب التي يحتلها الإسبان). لم تحرر جيوش العرب هذه المناطق المحتلة بل فقدت غيرها، فصاحب الإسكندرون على الخريطة لا يجرؤ على رفع عينيه نحو هضبة الجولان المحتلة، وهو ماكث ينتظر التوازن الاستراتيجي ويسلط جيشه الجبار على الإخوان المسلمين في حماة، وكانت أرفع بطولات جيشه المشاركة الفعالة في تحطيم جيش العراق؛ جيش العراق نفسه الذي هرب من الأهواز ليتشطر على الكويت. أما جيش السودان فقد خسر جنوب السودان وخاض حربه مع مصر على حلايب وشلاتين.
من استفاد من بطولات الجيوش العربية؟ إنه الكيان الغاصب والذي قيل لنا إن الجيوش أنشئت وسُلّحت من أجل طرده وتحرير المقدسات. هذه الجيوش لم تخض تلك الحرب بل منعت الشعوب من التطوع فيها ولو لرمي الحجارة. هذا الكيان يمسك شكيمة هذه الجيوش ويحدد لها مجالات فعلها في الداخل وفي الخارج (مثل أن ترجم السعودية اليمن لتخريب ثورته).
لنتخلّ لمرة عن ترويج حديث البطولات المزيف مثل أوسمة قادة هذه الجيوش. من يسلح هذه الجيوش ومن يدربها يحسن برمجتها لتقوم بدور محدد: حماية الكيان الغاصب أولا من الشعوب العربية التائقة رغم المسافات إلى معركة تحرير ومعركة ديمقراطية. وما حرب السودان الجارية إلا فصل إضافي يؤكد أن هذه الجيوش هي فصائل مسلحة من الخونة، نعم نكتبها بحسرة هذه الجيوش تخون أوطانها وتدمرها. فأفضل ما برعت فيه هو منع شعوبها من الديمقراطية، وهي تفعل ذلك باسم حماية الشعوب من الاختراق الصهيوني عبر وسائل الديمقراطية، أي والله هذا الكلام يقال في إذاعات كثيرة وفي صحف مشهورة. فمن جيش مصر وصحفه وزبانيته من الصحفيين خرجت عبارة الربيع العبري لتصير المطالبة بالديمقراطية جريمة يحرق صاحبها حيا بالنار في الشوارع.
إذن لن نأسى على حال السودان فجيشه يكتب فصلا آخر من فصول تدمير السودان. لو كان لنا أن نحمي المدنيين البؤساء في رمضان ولكن اليد قصيرة فنكتفي بالتمني.
نصل فقط إلى سؤال فلسفي: ما جدوى الجيوش العربية في أوطانها؟ لماذا تنفق من أجلها كل تلك الأموال تسليحا وتمويلا؟ لقد عاشت هذه الشعوب بعبء حمل الجيوش على أكتافها، ولو أُنفق على تعليم هذه الشعوب الهائمة وتشغيلها ما أنفق على جيوش كسولة تصنع كعك العيد لكان خيرا لها.
في حضيض يأسنا من استعادة الديمقراطية في وقت قريب نكتب بوعي أن بعض فضل الربيع العربي علينا أن رأينا من وراء ستائر الدعاية الصفيقة أن ليس للعرب جيوش وإنما مليشيات مسلحة (جنجويد عربي شامل ومنتشر كالطاعون)، مليشيات مدربة لقتل شعوبها تعرف أكثر من غيرها أن الديمقراطية تعريها وتفضح أدوارها وتهيئ الشعوب لمستقبل بلا جيوش مزيفة. فقد قاتلت الشعوب قوى الاستعمار بإرادتها قبل أن تسلط على رقابها جيوش نظامية مدربة عند المحتل القديم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: