لولا الخشية من أن ننسب للمنقلب ذكاء لا يملكه لقلنا إن نظريته في التحلل الطبيعي للأحزاب سليمة، فالمشهد الحزبي في تونس تذرر بسرعة حتى لم نعد نسمع في الساحة الحزبية إلا أسماء ما تبقى من القواقع. إن تقدم التجربة الديمقراطية الغربية بواسطة التكتلات الحزبية المتنافسة، والتي نقلدها مرغمين بصفتها التجربة الأسبق، تعلمنا برغم التجربة التونسية المبتدئة أن الديمقراطية غير ممكنة بدون أحزاب. لكن التجربة التونسية الآن وهنا تدفعنا إلى طرح أسئلة: أين الأحزاب التونسية التي تنوي التقدم بالديمقراطية وتتجاوز خطاب الشعوبية القائلة بفناء طبيعي للأحزاب؟
هل كانت هناك أحزاب فعلا؟
لعله كان مجازا جميلا أن نقول إنه كانت في تونس حياة حزبية فعلية قبل الانقلاب. فمن حسن الظن أو من الغفلة أن نعتبر أسماء 230 حزبا كانت أحزابا فعلية، لقد كانت مجموعات من الأصدقاء المتفقين على أفكار متداولة بين الجميع؛ اختاروا لها أسماء أحزاب وسرعان ما تلاشت وبقيت أسماء قليلة شاركت في الانتخابات، وقد استفادت من نظام الانتخاب بأكبر البقايا فدخل بعضها البرلمان. ونعتقد أن ذلك النظام قد منح الحياة الحزبية بعض حياة لم تستمر بمجرد سقوط القانون.
جرف الانقلاب إذن بذرة الحياة الحزبية فلم يمكن لنا أن نتوقع تطورها في الظروف العادية لبدايات الديمقراطية التعددية، والآن اندثرت جميع الأسماء أو كادت إلا ذكرى.
كنا نعرف قبل الانقلاب أن الحزيبات ضعيفة خارج البرلمان، وكانت أعلى أصواتها المسموعة أصوات كتلها النيابية. فحزب مثل قلب تونس (الثاني من حيث الحجم في برلمان 2019) لم يكن إلا كتلة نواب انقسمت منذ دخولها للبرلمان بسبب الموقف من التحالف البرلماني مع حزب النهضة. قبل ذلك كان حزب التكتل قد تلاشى منذ انتخابات 2014 ولم يبق منه إلا الاسم الفارغ، أما الحزب الجمهوري فهو السيد عصام الشابي وبعض الشباب الذي لا يفلح في التحرك بعد مؤسسه. وتعرض حزب التيار إلى هزة قصمت ظهره نتيجة موقف الزوجين عبو من الانقلاب. أما حزب الحراك (حزب الرئيس المرزوقي) فيعيش بالرصيد الرمزي والأخلاقي للمرزوقي ويحرك اسمه في الساحة بمنح مقره لجبهة الخلاص.
ولكن وجب القول إن كل هذه الأسماء لا تتجاوز مقاهي العاصمة أو غرفها المكيفة (لستر الحجم الضئيل)، فإذا اجتمعت وهي لا تجتمع لفرقة كبيرة بينها لا تفلح في تسيير مظاهرة باستقلال عن جمهور حزب النهضة الذي به بقية باقية من حياة؛ تبدو لمن يقيس الأعمار والحالة الصحية خلاصة للبؤس السياسي.
حزب النهضة القوقعة الأخيرة
رغم ذلك نرى أنه لم يبق في المشهد إلا حزب واحد هو حزب النهضة، وفي هذا الواقع المجرف يجب أن نطرح السؤال بصيغة دقيقة: كم بقي من حزب النهضة نفسه؟ وهل يعدو كونه الآن ذكرى حزب أو خيال مآتة أو قوقعة متحجرة، يتماسك بالذكرى أكثر مما يتماسك حول مشروع سياسي؟
كان الحزب قد بدأ يفقد مشروعه وسبب وجوده قبل الانقلاب، فمشاركته في السلطة بما اقتضته من التسليم لخصومه بمطالبهم على حساب مشروعه الأول؛ أكلت من رصيده كحزب هوية ولم تقدم له هوية بديلة رغم بالون الإسلام الديمقراطي الذي أطلقه رئيسه. ابتعد عنه الطيف المتشدد دينيا، وكانت آخر أفواج الخارجين جماعة ائتلاف الكرامة التي زايدت عليه في المسألة الدينية ثم كانت استقالة مجموعة المائة بعد الانقلاب، فضلا عن استقالات فردية في الصف الأول مثل السيد الجلاصي. ونرى الحزب يتهرّب من إنجاز مؤتمر يكشف اضمحلاله وقد يؤدي إلى تلاشيه.
تغيير التكتيكات داخل السلطة وحولها أفقده الاستراتيجية المؤسسة، فلم يبق للحزب امتداده الشعبي الذي ظنه كثيرون حقيقة واقعة بعد انتخابات 2011.
والآن بعد الانقلاب لم يبق إلا الزعيم المؤسس يختصر الحزب في شخصه وفي مجموعة من الموالين له؛ عن قناعة أو عن حنين أو عن مصلحة يحسن الزعيم تدبيرها. وقد ثبت أن الذين يستجيبون لدعوات التظاهر منذ الانقلاب يتناقصون بسبب غياب الأفق السياسي للتحركات (وهو ما لم يفلح الزعيم في تدبيره حتى اللحظة).
وفي الوقت الذي ظن أن الوقت يأكل من رصيد الانقلاب، أكل كل رصيد الحزب، والأمر الوحيد الثابت أن الحزب لم يفقد أعداءه، بل لعلهم يزدادون ويرون فرصة الإجهاز عليه تقترب. لذلك يوالون الضربات للزعيم لأنه آخر الروابط الجامعة لمن تبقى حوله، لقد حالوا بينه وبين ذراعيه القويين، البحيري والعريض. وفيما نقرأ الآن من دعاية مضادة (بعضها يصدر من داخل الحزب نفسه)، فإن الغنوشي هو سبب الانقلاب لا ضحيته.
ماذا بعد هذا التجريف؟
إقفار الحياة السياسية ليس قانونا اجتماعيا يُثبت نظرية الموت الطبيعي للأحزاب كما يهلوس بذلك الانقلاب، بل هو عمل من أعمال الاعتداء على الديمقراطية بقوة الدبابة.
وجب أن نقول وبصوت جهير أن الأحزاب لم تكن في مستوى إنشاء ديمقراطية بعد عهد طويل من القمع، وأنها استنزفت جهدا في احتراب بيني بهدف وحيد هو استئصال الإسلام السياسي بمسمياته، ولم يتطور خيالها وعملها إلى تجاوز حزب النهضة (والأحزاب الدينية) ببناء كيانات أقدر منه على الإقناع والبناء والتجاوز. لقد كانت أحزابا لمحاربة حزب لا لبناء بدائل، ومن هنا كان مقتلها وكان عمل الانقلاب هو تعريتها ودفعها إلى الموت. فمن سيخرج حيا بعد الانقلاب؟
إنها مرحلة الاستبدال
نطوف حول هذه الفكرة/ المرحلة ونجد عليها أدلة مؤثرة. ثابت أول لدينا وبسهولة كبيرة، تجريف الحياة الحزبية جزء من عمل الانقلاب وليس قانونا اجتماعيا، وثابت ثان هو أن الأحزاب وفرت فرصة تذويبها بعجزها عن تخيل حياة سياسية ديمقراطية. والنتيجة إقفار الحياة السياسية من كل نشاط حزبي بنّاء، رغم المظاهرات الدورية التي تتحول إلى مظاهرات رفع عتب أو في أفضل حالاتها مظاهرات تحريك لا تغيير.
سنتان من الانقلاب (دون ما قبله من مؤشرات ممهدة) كانتا كافيتين لتعترف الأحزاب أنها قد فقدت قدرتها على العمل بعد أن فقدت رؤيتها للمستقبل، وكانت كافية لاستئناف نشاطها من مكان آخر يتأسس على نقد تجربتها وتشخيص عجزها ثم الخروج إلى وجود جديد بعقل سياسي جديد. لم يحدث ذلك فمنحت وقتا أطول للانقلاب ليفعل ما يشاء، بما في ذلك تحويلها إلى عدو للشعب.
هذا العجز علامة نهاية نخبة ونهاية مرحلة وسؤال عن المستقبل لن تجيب عليه هذه الأحزاب بنخبها المستنفدة. من يحل بعدها؟ ما زلتُ عاجزا عن تجميع مؤشرات عن المستقبل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: