يتمتع نموذج الصين في الحكم بجاذبية قاتلة لدى النخب الاستبدادية العربية الجديدة التي ظهرت عقب الانقضاض على انتفاضات الربيع العربي بثورة مضادة أجهضت مسار التحول الديمقراطي في المنطقة، وهو المناخ الاستبدادي التي تمكنت من خلاله الصين من الولوج إلى منطقة الشرق الأوسط الجديد بتعميق علاقاتها مع النخب الاستبدادية الصاعدة.
فقد باتت النخب الاستبدادية الجديدة في المنطقة على قناعة بتراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية الإقليمي والعالمي، وأن واشنطن في أحسن الأحوال لم تعد تولي المنطقة أهمية كبيرة، والأهم أن النخب الاستبدادية الجديدة في العالم العربي سئمت من الدروس الأمريكية المنافقة حول مبدأ الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان في الوقت الذي كانت منخرطة بدعم الاستبداد والمستبدين بحجة الحفاظ على الاستقرار، وكانت تتغاضى عن كل القيم والمبادئ الإنسانية والاجتماعية لصالح المنافع والمصالح السياسية والاقتصادية. فالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ تدخلها في المنطقة تقوم على تقاليد أمريكية راسخة ملتزمة بدعم الاستبداد والمستبدين العرب ورعاية المستعمرة الإسرائيلية، ولا تعدو الإعلانات المتكررة عن الالتزام بنشر الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان عن كونها دعاية رخيصة.
عملية إعادة بناء الاستبداد العربي التي جرت بدعم من أمريكا وأوروبا وأفرزت نخبا استبدادية جديدة في المنطقة، والتي تزامنت مع تحول الأولويات الاستراتيجية الأمريكية بالتوجه نحو آسيا المحيط الهادي، شكّلت اللحظة المناسبة التي تغيرت بها السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط بشكل كبير في عهد الرئيس الصيني شي جين بينج.
فقد كانت بكين حذرة تاريخياً من التورط في منطقة وصفها عالم صيني ذات يوم بأنها "مقبرة فوضوية وخطيرة تدفن الإمبراطوريات"، وهو ما أدى مع إعلان الصين عن مبادرة "الحزام والطريق" في عام 2013 إلى تغيير النهج الصيني تجاه الشرق الأوسط، والذي ظهر من خلال الورقة البيضاء الصينية، بعنوان "ورقة سياسة الصين العربية". وقد شددت الرؤية الاستراتيجية الصينية للمنطقة على تعزيز الاستقرار في المنطقة من خلال مفهوم "السلام التنموي"، عوضاً عن الرؤية الغربية التي تقوم على مبدأ "السلام الديمقراطي" الذي يعني تبرير التدخل بحجة فرض القيم الليبرالية والديمقراطية.
في سياق التحولات الدولية والإقليمية وشيوع المنظورات الاستبدادية جاءت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية خلال الفترة 7-9 كانون الأول/ ديسمبر 2022، في ظل تفكك دول عربية طالما كانت توصف بقوتها كالعراق وسوريا، وفقدان مصر قدرتها على فرض أي نفوذ حقيقي أو ممارسة أي عرض لقوتها، حيث باتت السعودية تقود قاطرة الدول العربية، ومن خلالها تعمل الصين على بناء شراكات استراتيجية مع العالم العربي.
فقد شاركت الصين من خلال اجتماع الرياض في قمتين خليجية- صينية وعربية- صينية حضرهما قادة دول المنطقة. وكانت وزارة الخارجية الصينية قد أصدرت تقريراً مطولاً قبل الزيارة بشأن "التعاون الصيني- العربي في عصر جديد"، أكدت فيه أنّ بكين "شريك استراتيجي وصديق مخلص" سيؤدي دوراً بناءً في الشرق الأوسط ويتجنب القيام بأي شيء يمس "مصلحته الجيوسياسية".
كان الرئيس الأمريكي جو بايدن، أثناء زبارته للرياض في يوليو/ تموز الماضي، قد حذر السعودية من توجهاتها الجديدة نحو الصين، ومن الاصطفاف في الجانب الخطأ من الصراع الذي يصفه باعتباره "معركة بين الديمقراطية والاستبداد". وقال في جلسة مع تسعة زعماء عرب: "لن نغادر ونترك فراغاً تملأه الصين أو روسيا أو إيران. وسنسعى للبناء على هذه اللحظة مع قيادة أمريكية نشطة وذات مبادئ".
وحسب ديفيد سانغر وبيتر بيكر، في تقرير مشترك في صحيفة "نيويورك تايمز" فإن بايدن مدفوع بقلق جديد: أن رقصته القسرية مع الطغاة، على الرغم من كونها مقيتة، هي الخيار الوحيد إذا كان هدفه الأكبر هو احتواء روسيا والتغلب على الصين". فقد احتفل بايدن بـ"المفهوم الاستراتيجي" الجديد للتحالف الغربي الذي اعترف، لأول مرة، بالصين باعتبارها "تحدياً" منهجياً، إذ تنص العقيدة الجديدة على أنه إلى جانب روسيا، تحاول بكين "تقويض النظام الدولي القائم على القواعد".
وقد عرض بايدن الخطوط العريضة لـ"إطار عمل جديد للشرق الأوسط" من خمسة أجزاء يتضمن دعم التنمية الاقتصادية والأمن العسكري والحريات الديمقراطية، وقال: "اسمحوا لي أن أختتم بتلخيص كل هذا في جملة واحدة: الولايات المتحدة مستثمرة في بناء مستقبل إيجابي في المنطقة بالشراكة معكم جميعاً، والولايات المتحدة لن تغادر إلى أي مكان".
في حقيقة الأمر كان حديث الرئيس الأمريكي بايدن عن الديمقراطية وحقوق الإنسان مجرد بلاغة خطابية سخيفة، فقد تراجع عن برنامجه الذي لم يكن سوى دعاية سياسية. وحسب تقرير لـ"نيويورك تايمز": في غرفة مليئة بالحكام المستبدين والملوك المطلقين غير المنتخبين، حرص بايدن على حضهم على حقوق الإنسان بعد يوم من لقائه بالأمير محمد بن سلمان، الذي وفقاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، قد أمر بعملية 2018 التي قتلت جمال خاشقجي. وقال بايدن: "لقد تلقيت الكثير من الانتقادات على مر السنين، لكن القدرة على التحدث بصراحة وتبادل الأفكار بحرية هي ما يطلق العنان للابتكار". وبعد أن التقى بايدن بشكل منفصل بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، "حيث تم حبس عشرات الآلاف من السجناء السياسيين فيما يشن السيسي حملة قمع لا هوادة فيها على المعارضة"، لم يعلق بايدن على ذلك، بل شكر السيسي على "المساعدة الرائعة" في غزة، حيث وعدت مصر بالمساعدة في إعادة الإعمار بعد الحرب القصيرة في العام الماضي بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي.
على النقيض من السياسة الأمريكية المنافقة بخصوص الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الصين صريحة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وقد قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 في بالي بإندونيسيا: إن ما تسمى برواية "الديمقراطية في مواجهة الاستبداد" ليست السمة المحددة لعالم اليوم، ناهيك عن أن تمثل اتجاه العصر. وخلال اجتماعه مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، أشار الرئيس شي إلى أن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي المسعي المشترك للبشرية، أيضا المسعى الحثيث للحزب الشيوعي الصيني، وكما أن الولايات المتحدة لديها ديمقراطية على الطريقة الأمريكية، فإن الصين لديها ديمقراطية على الطريقة الصينية وكلتاهما تناسب الظروف الوطنية لكل منهما، مشيرا إلى أن الديمقراطية الشعبية الكاملة العملية التي تُمارس في الصين تستند إلى واقع البلاد وتاريخها وثقافتها، وتعكس إرادة الشعب. وأضاف: "نحن فخورون جدا بذلك. ولا يوجد بلد لديه نظام ديمقراطي مثالي، وهناك دائما حاجة إلى التطوير والتحسين. ويمكن حل الخلافات المحددة بين الجانبين من خلال المناقشة، ولكن فقط شريطة تحقيقه على قدم المساواة".
في واقع الأمر استندت استراتيجية الصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى سياسة الحفاظ على الحياد في الخصومات الإقليمية المختلفة، ومن هنا جاءت "مبادرة النقاط الخمس" التي أطلقتها الصين من أجل "بسط الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط"، والتي أعلن عنها وزير الخارجية الصيني وانغ يي خلال جولته الأخيرة في الشرق الأوسط في آذار/ مارس 2021، وهي تلخص المقاربة التي تنتهجها بكين منذ وقت طويل في المنطقة، والتي تتضمن الحث على التعايش السلمي، والتوصّل إلى حل الدولتين للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وحظر الانتشار النووي، وعلى وجه الخصوص إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران والولايات المتحدة. وتؤكد المبادرة على اهتمام الصين بإطلاق حوار متعدد الأطراف مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، والتعاون المستمر في مجال التنمية.
إن السمة الرئيسية للسياسة الصينية في الشرق الأوسط وخارجه، والتي تميزها عن القوى الكبرى الأخر، أنها تقوم على مبدأ "عدم التدخّل" في شؤون سيادة الدول، إذ تُبدي الصين استعدادها للتعامل تجاريا مع أي كيان سيادي بغض النظر عن نوع نظامه وعمّا يقوم به داخل حدوده.
ويمكن القول، حسب باتريشيا م. كيم وهي باحثة في مركز وودرو ويلسون، بأن المقاربة ذات الفكر التجاري و"القيمة لمحايدة" التي تنتهجها الصين في تعاطيها مع المنطقة؛ تطرح تحدّيا أكبر من روابطها العسكرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وشركائها الذين يفكّرون بالطريقة نفسها ويدفعون معها نحو تحسين الحوكمة وتعزيز المعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقةٍ من العالم، حيث تُصنَّف معظم الدول في أسفل مؤشّر الحرية العالمي الذي تضعه مؤسسة فريدوم هاوس. فانخراط بكين الدبلوماسي في المنطقة وجهودها العلنية لتسليط الضوء على نجاحات ما يُسمّى بنموذج "التنمية أولاً" الذي يعطي الأفضلية للتنمية الاقتصادية والاستقرار بقيادة الدولة بدلاً من الإصلاح السياسي وشموليته، وضمناً تسليط الضوء على إخفاقات النموذج الليبرالي الغربي، يمكن أن يؤدّي إلى تعزيز المعايير والممارسات القائمة غير الديمقراطية.
على الرغم من جاذبية الشعارات الصينية بعدم التدخل في شؤون الدول، فإن هذه الجاذبية مضاعفة في حالة الاستبداد، فقد كتب جوشوا كرلانتزيك في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان "اعتداء بكين الإعلامي على المستوى العالمي: حملة الصين المتفاوتة للتأثير على آسيا والعالم": "تريد الصين بشكل متزايد وعلني إعادة تشكيل العالم عن صورتها". فالصمت المطلق حول الديمقراطية وحقوق الإنسان هو الإطار الجامع بين الصين والعالم العربي، حيث لعبت حكومات الشرق الأوسط دوراً مركزياً في تهدئة الاهتمام الإقليمي بالإويغور وتبييض انتهاكات الصين، حتى أنها أيدتها في حالة السعودية، فالحكومات العربية القمعية التي لا تريد انتقاد قمع أي دولة أخرى، وتصر على العلاقة الاقتصادية في المقام الأول. فمن المؤكد أن دولاً مثل مصر والأردن والسعودية ودول أخرى في المنطقة لها مصلحة في نسخ الطرق التي خلقت بها الصين نوعاً من "الإنترنت السيادي" أو الإنترنت الذي يعزل معظم مواطنيها عن الإنترنت العالمي. إنه نموذج يتم نسخه من قبل العديد من الدول الاستبدادية، ولكن ليس دائماً بنفس النجاح الذي حققته الصين.
خلاصة القول أن النموذج الصيني ينطوي على جاذبية هائلة للأنظمة الاستبدادية العربية، فقد شكّلت لحظة وأد الربيع العربي وإعادة بناء الاستبداد في المنطقة اللحظة التاريخية لتوطيد العلاقات الصينية العربية، فالأنظمة العربية الاستبدادية أصبحت أكثر جرأة في التعبير عن رفض الطريقة الإمريكية التي تستخدم الديمقراطية وحقوق الإنسان أداة سياسية، وهي أنظمة تدرك تماماً الخدمات الجليلة للولايات المتحدة بدعم الاستبداد والمستبدين في المنطقة والسلوك المنافق لواشنطن.
فالنخب الاستبدادية الجديدة في العالم العربي منجذبة للنموذج الصيني، وهي تحاول أن تتبنى المقاربة الصينية التي تقوم على الرأسمالية الاستبدادية التي توفر مستوى مرتفعا من النمو والابتكار وبناء شركات قادرة على المنافسة عالميا. فالأفكار الصينية تستهوي زعماء المنطقة المستبدين، فهي تقوم على جرعة محدودة ومحددة من الحريات الاجتماعية، دون وجود أي معارضة سياسية وحزبية وتعددية حقيقية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: