البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

التونسيون يؤبّدون أزمتهم

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 825



(...) وهذا تقرير واقع لا اكتشاف خاص.. البلد في أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة في التاريخ المعروف، لكن ما يعمق الأزمة هو أن فهم اللحظة غائب أو مغيب عمدا، لأن التحليل حتى المبسط منه يشير إلى حل وحيد متاح وممكن ولكن التسليم به والانطلاق منه لحل الأزمة يؤدي إلى الوضع غير المرغوب، وهو التعايش مع الإسلاميين. الهروب من هذا التعايش هو الذي خلق الأزمة قبل أن يظهر قيس سعيد في الأفق، والرضوخ لشروط التعايش هو بداية حلها، لذلك فإن التونسيين ماكثون في أزمتهم يتلذذون عذاباتهم بصادية عجيبة، ويقبلون أن يأتي الحل من الخارج.

إن هذا النمط من التفكير السياسي لا يكشف نوع النخب المتصدرة في المشهد فحسب بل يكشف أزمة أعمق. التونسيون يفضلون الخضوع للاحتلال الأجنبي على تحمل اختلافاتهم الداخلية؛ الاختلافات الضرورية/ الواقعية التي تبنى بها الديمقراطية.

الديمقراطية لم تحل الأزمات السابقة

يخجلني أن أكتب (لأكثر من مرة) أن أسباب هذه الأزمة قديمة وسابقة للثورة، وكانت واضحة لكل ذي ضمير حي ولم تفلح الثورة في حلها. وقد كان من المؤمل أن تعالج مسألة التعايش السياسي طبقا لوسائل الديمقراطية، لكن ما حصل أن الاستئصال السياسي بخلفيات أيديولوجية تواصل حتى اللحظة. ومنه تسللت الأزمة إلى قمتها الراهنة، وهي تؤدي بالبلد إلى وضع تبعية مطلقة للخارج (والخارج جهات متعددة تروم كل جهة منه أن تصنع البلد على هواها وتضعه ضمن أجندتها الخاصة).

كان البلد يعيش أزمة اقتصادية عميقة دفعت إليها سياسات ابن علي الاقتصادية، كما كان يعيش أزمة شرعية حيث تمت التضحية بالحريات من أجل رفاه اقتصادي فئوي، وكان وعد الثورة علاج الأزمة بشقيها الاجتماعي والسياسي. لكن ما حصل عمق الأزمة وللأسباب الاستئصالية نفسها، لقد وظفت منظومة الحكم السابقة والتي خسرت كل انتخابات خاضتها كل وسائلها؛ لتدمير الاحتمال الديمقراطي الواعد. وكان من وسائلها الأشد شراسة النقابة الخاضعة لسيطرة اليسار والقوميين، وهم العنوان الظاهر للتيار الاستئصالي والذي كان يد بن علي الضاربة أيضا.

كان الجميع يرى الأزمة تزداد عمقا والبلد يتجه إلى الإفلاس لكن بقاء احتمال مشاركة الإسلاميين في إدارة البلد سواء في الحكومة أو في البرلمان كان هو الاحتمال الممنوع والذي يجب وضع حد له ولو ببيع البلد للشيطان.

الإسلاميون الآن خارج السلطة ولا نراهم يعودون قريبا، فماذا بقي بيد منظومة الحكم ونقابتها وتياراتها الأيديولوجية لكي تحكم دونهم؟ وهذا يطرح السؤال الأهم: من المستفيد الحقيقي من الأزمة؟

انكشاف دور المحتل القديم

لم يكن خافيا لينكشف لكن البعض لبس نظارات سوداء ليتعامى عن حقيقة ساطعة، وهي أن إدارة البلد كانت تتم بتوجيه مباشر وخفي من المحتل القديم. نذكر أن فرنسا حمت ابن علي حتى لحظة ركوبه الطائرة هاربا، ثم استوعبت اللحظة المنفلتة وتقدمت تقترح الحكومات (وترسل الوزراء مفتاحا باليد) وتجد قبولا وترحيبا. وطيلة السنوات العشر كان السفير الفرنسي يخطط والمنظومة تنفذ، وكان هدف فرنسا قبل هدف التونسيين إخراج الإسلاميين من المشهد، ولمَ لا إخفاؤهم من جديد عن الوجود ربع قرن آخر كما فعل ابن علي بتوجيه فرنسي أيضا!

إضعاف البلد ووضعه تحت الإملاء المباشر كان هدفا فرنسيا لا تونسيا، وهو ما تعيشه تونس الآن حيث لم يعد مصيرها بيدها، والغريب أنه لم يعد بيد المنظومة أيضا. لقد خسر الجميع وليس الإسلاميون وحدهم، بل إن النقابة ومكوناتها الأيديولوجية هي الأكثر خسرانا. إن الخسارة تمتد لفرنسا نفسها، لقد كسرت عصاتها المحلية بيدها. لقد رغبت في حكم كل تفصيل فلم يبق لها أحد يلبي طلباتها وعليها أن تؤلف لها أتباعا أقوياء من داخل هذا الخراب الشامل، هل هي سخرية القدر؟

لا أذهب في هذا الاتجاه لأن فرنسا لا تتألم لما يصيب تونس، وربما نراها الآن تفرك أصابعها فرحا برصيد من الكفاءات التونسية (أطباء ومهندسين) تهاجر إليها طائعة بنصف أجور الفرنسيين، دون أن تخسر فرنسا مليما أحمر في تكوينهم. بل يدفعون كلفة الفيزا أيضا، وهذا مكسب جانبي فالمكسب الأكبر هو بقاء البلد (تونس) هشا بلا دفاع داخلي.

شرط الخروج من الأزمة

لم أعد الوحيد الذي يشير إلى دور فرنسا في تعميق أزمة تونس، ولا أحتاج فخرا بذلك. إن تحليلات كثيرة تنتهي الآن إلى محورية هذا الدور التخريبي، لكن البناء على هذا التحليل يتأخر وأجزم أن الخوف يكبل الجميع. ليس الخوف من غزو عسكري أو احتلال مباشر فقد انتهت هذه المخاوف، ولكن كلفة الخروج من تحت جناح فرنسا يكلف الجميع ثمنا باهظا.

الثمن هو الحكم بروح استقلالية والتفكير خارج الإملاء الفرنسي الذي يأتي غالبا على شكل نصائح ملغومة. الاستقلال الآن وهنا يعني بناء شبكة علاقات سياسية واقتصادية مع بقية بلدان العالم، ومنها كثير يعرض خدماته الاستثمارية على تونس طامعا في الاستفادة من موقعها الاستراتيجي في المتوسط وعلى باب أفريقيا الناهضة من غبن الاستعمار الفرنسي خاصة، بما يفتح فجوات في جدار الهيمنة والاحتكار الفرنسي للبلد ومقدراته ومستقبله القريب والبعيد.

إنه خيار استراتيجي يتجاوز خطاب استعادة شروط بناء الديمقراطية من الانقلاب الغبي، ويهدم بالقوة قاعدة عمل طبقة رجال المال المرتبطة منذ نشأتها بالاقتصاد الفرنسي (المنظومة)، ويفتح المجالات واسعة لنشأة طبقة أخرى منفتحة بذكاء على احتمالات حرية. وقد شاهدنا تجارب كثيرة ذهبت في هذا الاتجاه، ليست تجربة رواندا إلا واحدة منها.

إنه الخيار الذي يكشف للجميع أن حرب الاستئصال في جوهرها ليست حربا على الإسلاميين لأنهم دعاة تدين (أو معادون للعلمانية ونموذج التحديث الفرنسي المفروض قهرا)، بل هي حرب على كل نفَس استقلالي وقد تتسع لكل من يؤمن بالتحرر من فرنسا مهما كان مذهبه.

غير خاف على أحد أن من يمول حرب الاستئصال هي نفس طبقة المناولة مع الاقتصاد الفرنسي، وهي تجد في الاستئصاليين الأغبياء قوة متطوعة لاستدامة الهيمنة (سخرية القدر أن نرى أن القوميين العرب واليسار هي عصا الاستئصال التي تصب الماء في طاحونة فرنسا)، وهم من يؤبد الأزمة طبقا لإملاءات السفارة.

إنه الخيار الذي يربط بين استعادة شروط الديمقراطية في الداخل مع شروط التحرر الاقتصادي من الهيمنة الفرنسية المباشرة، والذي سيتطلب بالقوة زمنا طويلا وكلفة عالية من الصبر، لكنها كلفة مهما علت ستكون أهون من البقاء في دائرة الإملاء والتوجيه الفرنسي.

لنختم بطرفة لا تضحك، لقد توفي منذ يومين رجل كنا نحسبه من رجال الاقتصاد منذ الثمانينات فتبين أنه غطاء صفيق لشركة إنتاج البيرة (الجعة)، لقد تبين أن حجمه الحقيقي هو ثلاثة في المائة من الشركة، أما 97 في المائة الباقية فلشركة فرنسية. لقد كان التونسي يدفع لفرنسا 97 في المائة من ثمن كل علبة بيرة يشربها!


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، إنقلاب قيس سعيد، فرنسا، منظومة فرنسا،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 8-12-2022   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
ضحى عبد الرحمن، وائل بنجدو، د. مصطفى يوسف اللداوي، حاتم الصولي، د - محمد بن موسى الشريف ، د - شاكر الحوكي ، مصطفى منيغ، محمود طرشوبي، يزيد بن الحسين، محمد اسعد بيوض التميمي، سفيان عبد الكافي، د. عبد الآله المالكي، عراق المطيري، د- جابر قميحة، عبد الرزاق قيراط ، د. ضرغام عبد الله الدباغ، صلاح الحريري، سامح لطف الله، ماهر عدنان قنديل، صفاء العراقي، د- محمد رحال، محمد يحي، يحيي البوليني، رحاب اسعد بيوض التميمي، خبَّاب بن مروان الحمد، سعود السبعاني، أحمد بن عبد المحسن العساف ، صالح النعامي ، محمد الطرابلسي، حسن عثمان، محمد الياسين، عواطف منصور، سامر أبو رمان ، محمد شمام ، رضا الدبّابي، محمد العيادي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، الهيثم زعفان، د - محمد بنيعيش، كريم السليتي، محمود سلطان، د - مصطفى فهمي، د - عادل رضا، الهادي المثلوثي، عبد الغني مزوز، المولدي اليوسفي، أشرف إبراهيم حجاج، أحمد بوادي، سلوى المغربي، طارق خفاجي، فهمي شراب، د. خالد الطراولي ، محمد عمر غرس الله، أحمد ملحم، المولدي الفرجاني، مجدى داود، د. عادل محمد عايش الأسطل، علي عبد العال، عبد العزيز كحيل، سليمان أحمد أبو ستة، د - المنجي الكعبي، عمار غيلوفي، أنس الشابي، محمود فاروق سيد شعبان، حسن الطرابلسي، د- محمود علي عريقات، جاسم الرصيف، أحمد الحباسي، فوزي مسعود ، عبد الله الفقير، عمر غازي، د. أحمد محمد سليمان، رافد العزاوي، منجي باكير، سلام الشماع، د. صلاح عودة الله ، حميدة الطيلوش، فتحي الزغل، حسني إبراهيم عبد العظيم، مراد قميزة، د. أحمد بشير، خالد الجاف ، رمضان حينوني، محمد علي العقربي، صلاح المختار، إيمى الأشقر، محرر "بوابتي"، محمد أحمد عزوز، تونسي، رشيد السيد أحمد، فتحي العابد، مصطفي زهران، سيد السباعي، العادل السمعلي، إسراء أبو رمان، عزيز العرباوي، الناصر الرقيق، د - صالح المازقي، طلال قسومي، رافع القارصي، علي الكاش، صباح الموسوي ، أ.د. مصطفى رجب، صفاء العربي، أبو سمية، بيلسان قيصر، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د.محمد فتحي عبد العال، كريم فارق، ياسين أحمد، د- هاني ابوالفتوح، أحمد النعيمي، إياد محمود حسين ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د. طارق عبد الحليم، د - الضاوي خوالدية، عبد الله زيدان، فتحـي قاره بيبـان، نادية سعد،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة