(...) وهذا تقرير واقع لا اكتشاف خاص.. البلد في أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة في التاريخ المعروف، لكن ما يعمق الأزمة هو أن فهم اللحظة غائب أو مغيب عمدا، لأن التحليل حتى المبسط منه يشير إلى حل وحيد متاح وممكن ولكن التسليم به والانطلاق منه لحل الأزمة يؤدي إلى الوضع غير المرغوب، وهو التعايش مع الإسلاميين. الهروب من هذا التعايش هو الذي خلق الأزمة قبل أن يظهر قيس سعيد في الأفق، والرضوخ لشروط التعايش هو بداية حلها، لذلك فإن التونسيين ماكثون في أزمتهم يتلذذون عذاباتهم بصادية عجيبة، ويقبلون أن يأتي الحل من الخارج.
إن هذا النمط من التفكير السياسي لا يكشف نوع النخب المتصدرة في المشهد فحسب بل يكشف أزمة أعمق. التونسيون يفضلون الخضوع للاحتلال الأجنبي على تحمل اختلافاتهم الداخلية؛ الاختلافات الضرورية/ الواقعية التي تبنى بها الديمقراطية.
الديمقراطية لم تحل الأزمات السابقة
يخجلني أن أكتب (لأكثر من مرة) أن أسباب هذه الأزمة قديمة وسابقة للثورة، وكانت واضحة لكل ذي ضمير حي ولم تفلح الثورة في حلها. وقد كان من المؤمل أن تعالج مسألة التعايش السياسي طبقا لوسائل الديمقراطية، لكن ما حصل أن الاستئصال السياسي بخلفيات أيديولوجية تواصل حتى اللحظة. ومنه تسللت الأزمة إلى قمتها الراهنة، وهي تؤدي بالبلد إلى وضع تبعية مطلقة للخارج (والخارج جهات متعددة تروم كل جهة منه أن تصنع البلد على هواها وتضعه ضمن أجندتها الخاصة).
كان البلد يعيش أزمة اقتصادية عميقة دفعت إليها سياسات ابن علي الاقتصادية، كما كان يعيش أزمة شرعية حيث تمت التضحية بالحريات من أجل رفاه اقتصادي فئوي، وكان وعد الثورة علاج الأزمة بشقيها الاجتماعي والسياسي. لكن ما حصل عمق الأزمة وللأسباب الاستئصالية نفسها، لقد وظفت منظومة الحكم السابقة والتي خسرت كل انتخابات خاضتها كل وسائلها؛ لتدمير الاحتمال الديمقراطي الواعد. وكان من وسائلها الأشد شراسة النقابة الخاضعة لسيطرة اليسار والقوميين، وهم العنوان الظاهر للتيار الاستئصالي والذي كان يد بن علي الضاربة أيضا.
كان الجميع يرى الأزمة تزداد عمقا والبلد يتجه إلى الإفلاس لكن بقاء احتمال مشاركة الإسلاميين في إدارة البلد سواء في الحكومة أو في البرلمان كان هو الاحتمال الممنوع والذي يجب وضع حد له ولو ببيع البلد للشيطان.
الإسلاميون الآن خارج السلطة ولا نراهم يعودون قريبا، فماذا بقي بيد منظومة الحكم ونقابتها وتياراتها الأيديولوجية لكي تحكم دونهم؟ وهذا يطرح السؤال الأهم: من المستفيد الحقيقي من الأزمة؟
انكشاف دور المحتل القديم
لم يكن خافيا لينكشف لكن البعض لبس نظارات سوداء ليتعامى عن حقيقة ساطعة، وهي أن إدارة البلد كانت تتم بتوجيه مباشر وخفي من المحتل القديم. نذكر أن فرنسا حمت ابن علي حتى لحظة ركوبه الطائرة هاربا، ثم استوعبت اللحظة المنفلتة وتقدمت تقترح الحكومات (وترسل الوزراء مفتاحا باليد) وتجد قبولا وترحيبا. وطيلة السنوات العشر كان السفير الفرنسي يخطط والمنظومة تنفذ، وكان هدف فرنسا قبل هدف التونسيين إخراج الإسلاميين من المشهد، ولمَ لا إخفاؤهم من جديد عن الوجود ربع قرن آخر كما فعل ابن علي بتوجيه فرنسي أيضا!
إضعاف البلد ووضعه تحت الإملاء المباشر كان هدفا فرنسيا لا تونسيا، وهو ما تعيشه تونس الآن حيث لم يعد مصيرها بيدها، والغريب أنه لم يعد بيد المنظومة أيضا. لقد خسر الجميع وليس الإسلاميون وحدهم، بل إن النقابة ومكوناتها الأيديولوجية هي الأكثر خسرانا. إن الخسارة تمتد لفرنسا نفسها، لقد كسرت عصاتها المحلية بيدها. لقد رغبت في حكم كل تفصيل فلم يبق لها أحد يلبي طلباتها وعليها أن تؤلف لها أتباعا أقوياء من داخل هذا الخراب الشامل، هل هي سخرية القدر؟
لا أذهب في هذا الاتجاه لأن فرنسا لا تتألم لما يصيب تونس، وربما نراها الآن تفرك أصابعها فرحا برصيد من الكفاءات التونسية (أطباء ومهندسين) تهاجر إليها طائعة بنصف أجور الفرنسيين، دون أن تخسر فرنسا مليما أحمر في تكوينهم. بل يدفعون كلفة الفيزا أيضا، وهذا مكسب جانبي فالمكسب الأكبر هو بقاء البلد (تونس) هشا بلا دفاع داخلي.
شرط الخروج من الأزمة
لم أعد الوحيد الذي يشير إلى دور فرنسا في تعميق أزمة تونس، ولا أحتاج فخرا بذلك. إن تحليلات كثيرة تنتهي الآن إلى محورية هذا الدور التخريبي، لكن البناء على هذا التحليل يتأخر وأجزم أن الخوف يكبل الجميع. ليس الخوف من غزو عسكري أو احتلال مباشر فقد انتهت هذه المخاوف، ولكن كلفة الخروج من تحت جناح فرنسا يكلف الجميع ثمنا باهظا.
الثمن هو الحكم بروح استقلالية والتفكير خارج الإملاء الفرنسي الذي يأتي غالبا على شكل نصائح ملغومة. الاستقلال الآن وهنا يعني بناء شبكة علاقات سياسية واقتصادية مع بقية بلدان العالم، ومنها كثير يعرض خدماته الاستثمارية على تونس طامعا في الاستفادة من موقعها الاستراتيجي في المتوسط وعلى باب أفريقيا الناهضة من غبن الاستعمار الفرنسي خاصة، بما يفتح فجوات في جدار الهيمنة والاحتكار الفرنسي للبلد ومقدراته ومستقبله القريب والبعيد.
إنه خيار استراتيجي يتجاوز خطاب استعادة شروط بناء الديمقراطية من الانقلاب الغبي، ويهدم بالقوة قاعدة عمل طبقة رجال المال المرتبطة منذ نشأتها بالاقتصاد الفرنسي (المنظومة)، ويفتح المجالات واسعة لنشأة طبقة أخرى منفتحة بذكاء على احتمالات حرية. وقد شاهدنا تجارب كثيرة ذهبت في هذا الاتجاه، ليست تجربة رواندا إلا واحدة منها.
إنه الخيار الذي يكشف للجميع أن حرب الاستئصال في جوهرها ليست حربا على الإسلاميين لأنهم دعاة تدين (أو معادون للعلمانية ونموذج التحديث الفرنسي المفروض قهرا)، بل هي حرب على كل نفَس استقلالي وقد تتسع لكل من يؤمن بالتحرر من فرنسا مهما كان مذهبه.
غير خاف على أحد أن من يمول حرب الاستئصال هي نفس طبقة المناولة مع الاقتصاد الفرنسي، وهي تجد في الاستئصاليين الأغبياء قوة متطوعة لاستدامة الهيمنة (سخرية القدر أن نرى أن القوميين العرب واليسار هي عصا الاستئصال التي تصب الماء في طاحونة فرنسا)، وهم من يؤبد الأزمة طبقا لإملاءات السفارة.
إنه الخيار الذي يربط بين استعادة شروط الديمقراطية في الداخل مع شروط التحرر الاقتصادي من الهيمنة الفرنسية المباشرة، والذي سيتطلب بالقوة زمنا طويلا وكلفة عالية من الصبر، لكنها كلفة مهما علت ستكون أهون من البقاء في دائرة الإملاء والتوجيه الفرنسي.
لنختم بطرفة لا تضحك، لقد توفي منذ يومين رجل كنا نحسبه من رجال الاقتصاد منذ الثمانينات فتبين أنه غطاء صفيق لشركة إنتاج البيرة (الجعة)، لقد تبين أن حجمه الحقيقي هو ثلاثة في المائة من الشركة، أما 97 في المائة الباقية فلشركة فرنسية. لقد كان التونسي يدفع لفرنسا 97 في المائة من ثمن كل علبة بيرة يشربها!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: