تعيش فرنسا اليوم حالة من الشك وعدم اليقين حول مستقبل بقائها قوة عالمية كبرى، ويتملكها الخوف من فقدان قوتها وهيمنها الاستعمارية التاريخية، إذ تتبدد قدراتها ويتآكل نفوذها وتبدو عاجزة عن كبح جماح التمرد على هيمنتها، وغير قادرة على فرض سيطرتها على مستعمراتها الأفريقية السابقة. فقد بات الحفاظ على مكانة فرنسا التقليدية رمزياً ومادياً في القارة السمراء مهمة شبه مستحيلة مع اشتداد التنافس بين الدول، في ظل التحولات الجيوسياسية الدولية وبروز نظام قطبي تعددي تتمتع فيه الصين وروسيا بمكانة مهمة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
في سياق تشكل نظام عالمي جديد يرتكز إلى عودة التنافس بين الدول، وتراجع أهمية الفاعلين من غير الدول في الصراعات الجيوسياسية، لم تعد سياسة "الحرب على الإرهاب" تتمتع بالأهمية التي كانت عليها بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وفقد مصطلح "الإرهاب" جاذبيته وسحره وقدرته على تبرير سياسات الهيمنة والتدخلات العسكرية، وهو ما أجبر فرنسا على تغيير سياستها واستراتيجيتها كي تتواءم مع التحولات الجيوبوليتيكية، حيث أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عن الخطوط العريضة للاستراتيجية العسكرية الجديدة لبلاده خلال الفترة المقبلة، مؤكداً توقف عملية "برخان" العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي، وتعزيز التعاون العسكري مع الدول الأوروبية في ضوء تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
لا جدال في أن أفريقيا تتمتع بأهمية استثنائية لفرنسا، فبدون أفريقيا تصبح فرنسا دولة ضعيفة وهشة، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وضع القارة على رأس أولوياته، ومع بداية عهده الجديد بعد إعادة انتخابه في دورة رئاسية ثانية في نيسان/ أبريل 2022 أعلن عن عزمه زيارة عدد من دول القارة، وقد شملت زيارة ماكرون ثلاث دول أفريقية هي: الكاميرون وبنين وغينيا بيساو. وكان ماكرون قد تعهد خلال حملته الانتخابية بإعطاء أفريقيا أولوية في أجندة الدبلوماسية الفرنسية والأوروبية، وهو ما يعبر عن قلق باريس من تنامي التنافس الدولي حول أفريقيا بعد تمدد النفوذ الروسي والصيني في القارة السمراء، وتنامي الاهتمام الأمريكي بالمنطقة.
في سياق تشكل نظام عالمي جديد يرتكز إلى عودة التنافس بين الدول، وتراجع أهمية الفاعلين من غير الدول في الصراعات الجيوسياسية، لم تعد سياسة "الحرب على الإرهاب" تتمتع بالأهمية التي كانت عليها بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وفقد مصطلح "الإرهاب" جاذبيته وسحره وقدرته على تبرير سياسات الهيمنة والتدخلات العسكرية، وهو ما أجبر فرنسا على تغيير سياستها واستراتيجيتها
جاءت الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في خضم التحولات الدولية العميقة التي طالت النظام العالمي، وقد أعلن الرئيس الفرنسي عن الخطوط العريضة للاستراتيجية الجديدة حتى عام 2030، خلال خطاب ألقاه في مدينة تولون بجنوب شرق البلاد، وتنص الاستراتيجية الجديدة على ضمان بقاء فرنسا قوة عالمية وازنة، نووياً وبحرياً وعسكرياً، وصاحبة نفوذ، وزيادة وتقوية القدرات الدفاعية الأوروبية. وقال ماكرون إن مراجعة الاستراتيجية الفرنسية تعني تعريف كيف ستدافع البلاد عن نفسها، وتنص الاستراتيجية على أن تحتفظ فرنسا بطموحها كقوة عسكرية ذات وزن في المسرح العالمي، وتعزيز نفوذها الدولي، كما تريد فرنسا، باعتبارها القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، أن تعمل على بناء القدرات الدفاعية الأوروبية، بدلاً من الاعتماد أساساً على الولايات المتحدة. وأشار ماكرون إلى أن وضع فرنسا النووي يمنحها مسؤولية خاصة، أوروبياً وعالمياً، وأضاف أن فرنسا قادرة على العمل، بمفردها أو مع آخرين، من أجل تأمين طيف واسع من مصالح الأمة الفرنسية، وأكد أن فرنسا ستحتفظ بوجودها العسكري في أفريقيا جنوب الصحراء، والشرق الأوسط، والقرن الأفريقي.
تتبع فرنسا بإنهاء مهمة "برخان" خطى الولايات المتحدة بالانسحاب من أفغانستان، فقد أثارت العمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل بأفريقيا العديد من الانتقادات والأسئلة كما حدث لأمريكا في أفغانستان، حيث استخدمت ذات التكتيكات الأمريكية، والتي استلهمت إرث الجيش الفرنسي من العمليات الاستعمارية وما سمّي مكافحة "التمرد"، وهو ما رسخ الاعتقاد بأن فرنسا تتعامل مع أفريقيا من خلال منظورات استعمارية جديدة لا صلة لها بالدفاع عن دول صديقة تتعرض لهجمات إرهابية من جهاديين إسلاميين، وعلى غرار نهج البيت الأبيض في أفغانستان كان الإليزيه يفكر في الانسحاب منذ أعوام، فكافة المؤشرات أظهرت أنّ عملية "برخان" كانت فاشلة، وأن احتمال تغيير الوضع لمصلحتها كان أشبه بالمستحيل.
تتبع فرنسا بإنهاء مهمة "برخان" خطى الولايات المتحدة بالانسحاب من أفغانستان، فقد أثارت العمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل بأفريقيا العديد من الانتقادات والأسئلة كما حدث لأمريكا في أفغانستان، حيث استخدمت ذات التكتيكات الأمريكية، والتي استلهمت إرث الجيش الفرنسي من العمليات الاستعمارية وما سمّي مكافحة "التمرد"،
منذ تبدل المقاربة الأمريكية تجاه حرب الإرهاب بإرسال جنود على الأرض، وبروز استراتيجية "عبر الأفق"، التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن عقب قرار الانسحاب من أفغانستان، وقد لخص الاستراتيجية بالقول إن "الولايات المتحدة طورت قدرتها على مكافحة الإرهاب عبر الأفق، مما سيسمح لها بإبقاء أعينها ثابتة على أي تهديدات مباشرة لها في المنطقة والتصرف بسرعة وحسم إذا لزم الأمر"، وبصرف النظر عن الانتقادات الموجهة للاستراتيجية الجديدة في حرب الإرهاب وتأكيد فشلها استنسخ ماكرون ذات المقاربة، أكدت صحيفة "لا كروا" الفرنسية، بأنّ الرئيس الفرنسي ماكرون قرّر توقيف مهمة "برخان" في شباط/ فبراير 2021، عشية قمة نجامينا، لكنه كان ينتظر الوقت الملائم لإعلانه.
يبدو أن الوقت الملائم لإنهاء مهمة "برخان" حسب المخيلة الفرنسية لم يحدث، فقد جاء الإعلان في أسوأ توقيت، وذلك بعد التيقن أن تحقيق انتصارات تكتيكية كبيرة على الأرض غير ممكنة مع تنامي نشاط الجهاديين واتساع مناطق نفوذهم، كما أن الوفاة المفاجئة للرئيس التشادي، إدريس ديبي، في نيسان/ أبريل 2021، عززت من مواقف دعاة الانسحاب في الإليزيه، وقد تضافرت عدة أسباب لإنهاء عملية "برخان"، حيث تدهورت العلاقات بمالي عقب الانقلاب، وتنامي النفوذ الروسي، فضلاً عن الزيادة المذهلة للمشاعر المعادية لفرنسا في غربي أفريقيا والقارة عموماً، وتمدد الجهاديين في المنطقة، وتوقف الولايات المتحدة عن دعم عملية "برخان".
يعطي الانسحاب إشارة إضافية على فشل سياسات الرئيس الفرنسي ماكرون النيو كولونيالية. فنظرة خاطفة على مسار حرب "الإرهاب" الفرنسية في أفريقيا تؤكد تنامي الحركات الجهادية المصنفة منظمات إرهابية وتوسع نطاق انتشارها في القارة
توج قرار الانسحاب الفرنسي من مالي سلسلة من الفشل الذريع للتدخلات الفرنسية في منطقة الساحل والقارة الأفريقية عموماً بذريعة محاربة "الإرهاب"، وبعطي الانسحاب إشارة إضافية على فشل سياسات الرئيس الفرنسي ماكرون النيو كولونيالية. فنظرة خاطفة على مسار حرب "الإرهاب" الفرنسية في أفريقيا تؤكد تنامي الحركات الجهادية المصنفة منظمات إرهابية وتوسع نطاق انتشارها في القارة، كما أن أفريقيا لم تعد بالنسبة لفرنسا إقليما استعماريّا سابقا تحظى فيه باريس بالأولوية والتمكن، بل إن الوضع الأمني في الساحل الأفريقي صار جزءا من الاستراتيجية الفرنسية في العالم. وقد أدى النهج الفرنسي لمكافحة "الإرهاب" إلى تنامي الحركات الجهادية التي أصبحت أكثر قوة وتبنت نهجاً أشد راديكالية، وباتت منقسمة بين تنظيمي "القاعدة" و"الدولة".
خلاصة القول أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة تعبر عن مدى قلق باريس من التحولات الجيوسياسية الدولية، فهي تشير إلى محاولة التكيّف مع نظام دولي جديد يقوم على التعددية القطبية ويزداد فيه التنافس بين الدول، ومع تنامي أهمية القارة الأفريقية على الصعيد الديمغرافي وفي مجال الثروات، أصبحت مهمة فرنسا للحفاظ على نفوذها وهيمنتها في القارة السمراء شاقة وشبه مستحيلة، فقد باتت المنافسة شرسة مع الصين وروسيا، وهما تقدمان نماذج مختلفة عن النموذج الفرنسي، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدخول إلى القارة للحصول على حصة ومنافسة الصين وروسيا والحد من نفوذهما المتنامي. وكل ذلك يؤكد على أن النفوذ الفرنسي في أفريقيا في أضعف مستوياته ومرشح للتآكل بصورة جلية سوف تؤثر على مكانة فرنسا عالمياً وتضعف من تأثيرها ونفوذها وقوتها، ولا يبدو أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة قادرة على وقف تدهور فرنسا ونفوذها في أفريقيا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: