الاعتذار يمسك بخناق القلم، فقد شاركنا في بث أمل كاذب، إذ بنينا على الظن ولم نتبين الوقائع، فالوقائع سفت أحلامًا كثيرةً وكشفت قصور التحليل بالرغبة رغم الحذر المعرفي. هذه ليست توطئة نص محبط، لكن تلمسًا جديدًا للوقائع ومحاولة تصحيح موقف معرفي أكثر مما هي استشراف وإن لم يخل الأمر عندنا دومًا من الأمل في حادثة غير نمطية نسجًا على موقف مسبق قبل الثورة، وكانت الثورة حدثًا غير نمطي لم نتوقعها أبدًا، فحدثت وأدخلت بلبلة على مسارات التحليل البارد وما زعمناه من الواقعية.
من أين تسرب إلينا الخطأ/الوهم؟
عندما صرخ العقل أن ما جرى في تونس يوم 25 يوليو/تموز2021 انقلاب على الديمقراطية، لم نكن محتاجين إلى علم الاجتماع لتوصيف الحدث، لكن أن يستهين الناس إلا قلة بعشر سنوات من الحرية المطلقة ويستبدلونها بالولاء لشخص واحد ليس له نزر من مخائل الذكاء، فإن التحليل اختلط بالأمل ودخل حسن الظن محل الحذر المعرفي.
فسرنا في الشارع نحسب أيام الانقلاب الباقية ولم نره إلا مترنحًا ويوشك أن يسقط، فلم نتوقع سهولة تخلي الناس عن حريتهم لأننا قسنا على الأقلية الحرة فكرًا وممارسةً وشعورًا، ولم نتوقع بكفاءة قوة الإسناد الخفي من داخل الأجهزة ومن خارج البلد للحركة الانقلابية، ليس لأننا لم نعرفها سابقًا أو لم نر فعلها في إسناد ديكتاتور مثل بن علي، بل لأننا قدرنا أن مكسب الحرية غال وأن التفريط فيه يعني الموت البطيء، كان هذا تقدير خاطئ أدخل علينا خطأً كبيرًا.
كان الدرس المصري قريبًا يستفز الوعي، ففي السنتين الأوليين للانقلاب المصري قال كثيرون إنه لن يعمر طويلًا، لكنه بقي وتمدد بقوة الإسناد الخارجي (العربي والغربي) المعادي للحرية والديمقراطية حتى وصلت يده إلى تونس فأنجز انقلابًا آخر.
وعندما تفطن قطاع واسع من مساندي انقلاب العسكر المصري إلى النتائج الكارثية على الحريات في مصر كان الوقت قد فات لاستئناف معركة الحرية، ونقيس فنجد الأمر متطابقًا بين الانقلابين وبين الشعبين، وهذا قياس عقلي يوسع زاوية النظر ويبحث عن تحديد المسؤوليات.
من أخطأ أكثر في حق الثورة والحرية؟
الاعتذار عن الإفراط في الأمل صار واجبًا لا يعيبنا، ولن نهتم اللحظة بالذين صعدوا شجرة البراءة يلقون التهم على الآخرين كما لو أن الثورة لم تؤت من قبلهم، وما زال كثير منهم يبيع وهم (الانقلاب يترنح) منتظرًا هبة شعبية يحركها الجوع ولا يساهم فيها لتعيده إلى سدة المجد على الرقاب بلا كفاءة ولا بصيرة، وبعضهم يتكلم من منفاه الاختياري تحت التكييف.
من الصعب إعادة بناء سلسلة الأخطاء الأساسية التي مهدت للانقلاب، فبعضها سبق وضع دستور 2014 وأثر فيه لحسابات زعاماتية فردية أبعد ما تكون عن روح الثورة وبعضها دخل انتخابات 2019 دون أدنى وعي بالمخاطر التي ظهرت بعد صدور الدستور وأهمها قدرة منظومة الحكم السابق على المناورة والبقاء فوق كل محاسبة أو عقاب.
هذا فضلًا عن فشل كل أنصار الثورة المدعين في وضع سياسة إعلامية ومؤسسات تحمي الثورة، بل وقع الجميع ضحية ماكينة إعلامية مدربة عبثت بهم وبأقدارهم باسم تجنب المقعد الشاغر، وحصص السخرية من الثورة نفسها تحسب بالآلاف وكان الأنصار يجلسون فاغري الأفواه في بلاتوهات يخرجون منها طراطير.
نترجم، الذين رفضوا النظام البرلماني في الدستور مهدوا للانقلاب والذين ترشحوا دون اتفاق على شخصية وازنة (بإجماع يتفق عليه قبليًا) لتحصد مقعد ثانيًا في الدور الثاني في رئاسيات 2019 مهدوا للانقلاب والذين منحوا بحضورهم مصداقية لإعلام الثورة المضادة صنعوا الانقلاب.
أما الخطأ الأكبر فكان الارتجاف أمام النقابة منذ اليوم الأول للثورة، فكانت النقابة ذراع السلطة غير المسلحة منذ العام 1955 وقد ضربت بها كل حراك شعبي وقطفت نتيجته، لكن تحت تأثير النقابة نفسها (ولها جهازها الدعائي المحترف) استبطن الجميع صورة نقابة حشاد، ولم يكن فيها من فرحات حشاد إلا الصورة معلقة في المكاتب.
وكان الجميع شهودًا على أن النقابة قبضت ثمن حشاد ورفضت تتبع الجناة الذين اغتالوه رغم اعترافهم بذلك بكل وقاحة المخابرات الفرنسية، لقد خربت النقابة الثورة بيدها وبيد أنصار الثورة أنفسهم، والعجب العجاب أن معارضي الانقلاب ما زالوا يأملون أن تنحاز النقابة إلى صفهم ولم يروا ولا أظنهم سيرون أنه لولا النقابة لما أفلح المنقلب في البقاء.
هل نبحث عن بداية جديدة؟
قدر كل مؤمن بالحرية أن يسعى إليها ونظن أننا نسعى ولا نعلم مقادير الإصابة في سعي ليس محل اتفاق.
نظن (وندعو والدعوة ليست من التحليل في شيء) إلى وقفة نقد ذاتي عميقة من كل من يحتفظ حتى اللحظة ببذرة إيمان بالحرية والتغيير، هذا النقد لا يكون مصيبًا ومقنعًا إلا بالعودة إلى البدايات والتعرف على مواضع الخطأ الفردي والجماعي.
الصراعات البينية بين الزعامات أودت بالأمل وأفقرت الثورة ومزية الانقلاب أنه قام بتصفية هذه الزعامات وثقب بالونات مجدها المزيف، ورغم أننا نرى بعضها مصرًا على البقاء والتصدر وإلقاء الحكمة على الغوغاء الجائعة، فإن كل يوم إضافي في تصدر هؤلاء لمشهد معارضة الانقلاب هو خدمة مجانية للانقلاب.
النقد الذاتي الوحيد المقبول من هؤلاء هو الانسحاب من المشهد، فلم يعد أحد يؤمن بهم ويسلم لهم القيادة وعليهم النظر في مراياهم الخاصة، ونعرف أن ليس لهم شجاعة الاعتذار.
مرحلة الانقلاب ستطول وهذا من الواقعية وليس من اليأس، فبيانات السفارات بعد الاستفتاء تقول ذلك رغم أن الواهمين (أو منتظري المعجزات) أولوها على هواهم (مستعيدين الانقلاب يترنح)، وكان عليهم ربطها بمقررات القمة الأمريكية الخليجية الأخيرة التي وضعت نقاطًا على حروف كثيرة، فالكيان الصهيوني يقود المنطقة وعلى الجميع الدخول في طابور التطبيع (لا فرق بين رئيس ديمقراطي حنون ورئيس جمهور شعبوي فوق البيعة).
تجارب التطبيع المعروفة خاصة بعد اتفاقية وادي عربة جلبت طفرة اقتصادية سريعة وقعت موقعًا حسنًا من نفوس جائعة مفقرة قبل أن تتكشف على حقيقتها، فالانقلاب يحتاج طفرة مماثلة ولن يضيره أن الجميع يصرخ بمعاداة التطبيع، رأس المال الفاسد الذي يجني وحده فوائد الانقلاب غير معني بمعركة قومية فأغلبه غطاء قانوني لشركات فرنسية قد تكون هي نفسها غطاء لشركات صهيونية.
الاستئناف يكون من بعيد بعد مراجعة شجاعة وبناء على مبادئ بسيطة، أولها لا يمكن بناء الديمقراطية في بلد محتل إلا بالربط بين التحرير والديمقراطية. كم سيدوم ذلك؟ المبدأ الثاني هو عدم الاستعجال بل المطاولة، وكل خطأ من الانقلاب سيصب في طاحونة أنصار الحرية ولو بعد حين، وانتظار أخطاء الخصم حق سياسي يعمل به الجميع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: