فرض الربيع العربي مراجعات فكرية وسياسية، إذ كشف أن الفرح القديم بالاستقلال عن الاحتلال المباشر (فرنسي- إنجليزي- إيطالي- إسباني) لم يدم طويلا، وأن الأنظمة العربية التي حكمت دولها منذ الخمسينات ضحت بالاستقلال والسيادة الوطنية من أجل التنمية الكميّة، ثم فشلت في تحقيق التنمية فتحولت إلى دكتاتوريات غاشمة، فلم تحقق الاستقلال الفعلي ولم تبن اقتصاديات قابلة للبقاء ومحقت احتمالات الحرية فحولت شعوبها إلى دواجن مرعوبة.
سمعت شعارات كثيرة أثناء الموجة الأولى من الربيع تربط بين تحقيق الحريات وتجديد الاستقلال، ومنها الشعار العظيم "الشعب يريد تحرير فلسطين" أو "تسقط فرنسا"، لكن سرعان ما بردت هذه الشعارات في سياق تحول سريع نحو انتخابات وإعادة إنتاج أدوات حكم، دون الانتباه إلى أن الأدوات الجديدة ولو جاءت بالصندوق الشفاف ستحل في وضع اقتصادي تابع، وفي وضع سياسي مرهون بعلاقة غير سوية مع قوى الاحتلال القديمة وخاصة في المغرب العربي؛ المحتل فرنسيا بعد.
قوة الاندفاع الأولى كانت خادعة
في أقل من نصف سنة قامت شعوب متجاورة بإسقاط ثلاثة رؤوس من رؤوس الدكتاتورية الغاشمة، فخلقت فرحا خادعا سهل لاحقا الذهاب إلى تجديد أدوات الحكم بالانتخابات. كان الأمر مغريا بالسلمية، بما جعل احتمال السلاح احتمالا ملغى. كانت الحالتان التونسية والمصرية توضعان في مقابل الحالتين الليبية والسورية اللتين مالتا إلى القوة المسلحة، فظهر أن التحول السلمي جذاب وبلا كلفة من دم.
الصندوق الانتخابي الشفاف في تونس ومصر حرم منظومات الحكم الساقطة من وضع الأفضلية، مما زاد في الحماس للتغيير السلمي. وقال زعيم سياسي في تونس "سندحرهم بالصندوق"، وكان هذا موقفا مغرورا ومتسرعا (شاركنا فيه بحماس) مهد لعودة المنظومات بنفس الصندوق الانتخابي. وبدأت حقيقة مهمة تظهر للعيان: إسقاط رؤوس الأنظمة الحاكمة لم يؤد إلى إسقاط منظومات الحكم بل نظفها وخلصها من وجهها البشع، وكانت تود التخلص منه وتعجز فأنجدتها الشعوب فعادت بأخف الأحمال.
هذه العودة لوأد الديمقراطية وبوسائل الديمقراطية نفسها هدّأت من موجة الحماس الثوري وأعادت الحديث إلى نقاشات كانت سائدة قبل الثورات، ولكن موجة الفرح الثوري (الطفولي إلى حد كبير) تجاهلتها، وهي النقاشات التي تربط بناء الديمقراطية في الداخل بتحقيق شرط التحرر الوطني من الاحتلال.
وهنا ملاحظة مهمة وضرورية، وهي أن النخب السياسية التي كانت تحلل من هذه الزاوية وتناضل على هذا الأساس تورطت بسرعة في الحكم، فغيرت مواقعها وكانت سببا في إغفال ما كانت تدعو إليه. لقد تم توريطها في السلطة، فاكتشفت بسرعة أن شروط الحكم في الداخل مرهونة ببناء ولاءات سياسية واقتصادية مع المحتل القديم نفسه، فكأنها تحولت بسرعة إلى موقع المنظومات الساقطة/ العائدة، لكن بدون تلك الرؤية الواضحة التي كانت لديها زمن المعارضة.
لقد جر الصندوق الانتخابي النخب إلى وضع جديد سمته الواقعية السياسية التي لم تكن على جدول أعمالها بل كانت تعارض المنظومات متهمة إياها بالخنوع فصارت تبرر لها ما سبق من سلوكها. لقد أدى الصندوق الانتخابي في بلدان تابعة (ونقول محتلة ضمنيا) دورا مخالفا لما وُضع له، لقد نظف المنظومات وشوّه المعارضات القديمة ونزع عنها عذريتها/ طهريتها النضالية. هل هذا الخنوع قدر مقدور لا فكاك منه؟
التحرك في الشروط القديمة للحكم مسار مغلق
النهايات الحزينة للثورات اليمنية والمصرية والسورية والتونسية والتفاف المخزن على حراك المغرب؛ تكشف أن التحرك السياسي جرى بشروط المنظومات السابقة وطبقا لمصالحها وبوسائلها المدربة، وهو ما أوصل هذه الثورات إلى طرق مسدودة مع خصوصيات محلية لا تغير مجمل الصورة. وهذا يطرح سؤالا منهجيا: من أين كان يجب أن تبدأ الثورات في التغيير؟
الفرح العارم بثورات سلمية (تونس ومصر خاصة) والذي تردد في وسائل إعلام محلية وعالمية؛ صنع ثقة مزيفة أرضت نرجسيات الثوار فأغفلوا تراثا ثوريا متراكما وفيه تنظيرات فعالة، تجعل شروط النجاح في أي ثورة مرتبطة بكسر القاعدة الاقتصادية للمنظومات الحاكمة قبل الثورة.
كسر هذه القاعدة شرط وجود وشرط نجاح، وكان سيفتح الطريق نحو معرفة ارتباطات مكونات هذه القاعدة من أثرياء ورجال أعمال أو أرستقراطية قديمة لم تمت في أي تغيير، وكان سيعري ارتباطاتها بالقوى الاقتصادية العالمية المهيمنة. وتعتبر الحالة التونسية حالة مثالية لفهم ذلك.
فطبقة المال كانت هي الفاعل السياسي الرئيسي وإن لم تتخذ وجها سياسيا واضحا (حزبا يمينيا صريحا مثلا)، لكنها أحسنت التخفي في أي جهاز حكم واستعماله لترسيخ مواقعها وفرض شروطها على حكومات فاسدة. (انتقالات متطابقة من حزب الدستور البورقيبي إلى حزب التجمع لابن علي، مثل الانتقال من الاتحاد الاشتراكي المصري إلى الحزب الوطني لمبارك).
هذه الطبقة -ونظن أن مفهوم الطبقة يصفها بدقة- بنت ثرواتها وحصنت مواقعها بارتباطاتها بقوى اقتصادية خارجية (في تونس تشتغل هذه الطبقة مناولة في خدمة الاقتصاد الفرنسي إلا قليلا يؤكد القاعدة ولا ينفيها)، فضلا عن جماعات الاقتصاد الهامشي والتهريب، وقد سمح بثروات طائلة من خارج كل قانون.
كثير من الصناعيين التونسيين (يفترض أن نسميهم رأس مال وطنيا) هم واجهات قانونية شكلية لمؤسسات فرنسية؛ من إنتاج الحليب والزبادي إلى قطاع السياحة إلى كابلات السيارات المعدة لتكملة الصناعات الغربية. وقد وقفتْ دوما ضد فك الارتباط بالاقتصاد الفرنسي، وقد ضيقت على سبيل المثال على السيارة الآسيوية في السوق التونسية لصالح السيارة الفرنسية التي هيمنت ولا تزال على السوق منذ تعلم التونسيون قيادة السيارة.
مواقعها ونظام المصالح الذي بنته جعل منها حامية ثابتة في خدمة قوى الاحتلال الاقتصادي (غير المسلحة هذه المرة)، وحصنا مانعا لكل تغيير مثل دخول شركاء آخرين للسوق التونسية (وهو ما يفسر الصد الرهيب الذي قوبلت به تركيا في تونس)، ولذلك اتخذت موقفا حاسما من كل قرار يمس هذا النظام ومن كل حكومة قد تفكر فيه. وقد أمكن لها توظيف جهاز إعلامي مرتزق يتحدث عن الاحتلال العثماني ليصرف الناس عن الحديث في الاحتلال الفرنسي الذي أعقبه.
نتذكر هنا الخطر الذي مثله وزير التموين المصري في حكومة الرئيس مرسي، عندما اتجه بسرعة استثنائية إلى تحقيق الاكتفاء الغذائي وقدم نتائج تفوق جهد سنة واحدة من العمل المنهجي الفعال.
هذه الطبقة استوعبت الحكومات بعد الثورة ورشت بعضها وهددت بعضها بوسائل لم تخل من دموية ومن تخريب القطاع العام بواسطة النقابات (الحالة التونسية)، ولقد سمحت لها ثرواتها بشراء الإعلام مغتنمة موجة حرية لم تبذل فيها قطرة دم واحدة، كما وظفت النقابات الفاسدة.
هذه الطبقة المناولة هي منظومة الحكم الحقيقية، وهي ركيزة الاحتلال والتبعية وعدوة كل نفس استقلالي جددته الثورة فانطمس بمكائدها. ومن هنا كان يجب أن تبدأ الثورات في التغيير، ولكن هذا كلام بعد خراب مالطة.
الحقيقة الفاجعة
لن (حاسمة) يحدث تغيير حقيقي في بلدان الربيع العربي ما لم تكسر هذه الطبقة بكل الوسائل المتاحة، ففي كسرها قطع العشب تحت أقدام كل احتلال مموه بغلاف من السيادة الوطنية. يمكن أن تحدث انتفاضات اجتماعية كثيرة على غرار انتفاضة المعيشة في مصر وتونس والمغرب والجزائر في الثمانينات (والربيع العربي في جوهره امتداد لهذه الانتفاضات)، لكن هذه الطبقة ملكت ولا تزال قدرة كبيرة على الالتفاف والاستيعاب والتذويب لكل حراك اجتماعي؛ ينبع من قاع الفقر ولا يصل إلى وضع خريطة استقلال لدول وأنظمة بديلة.
النخب المعارضة رغم نصوصها الكثيرة في الاستقلال والسيادة لم تبن مشروعا بديلا، لذلك سهل استيعابها، وفي لحظات كثيرة تحولت إلى حاجز مانع ضد الفوران الشعبي الصاعد فكانت عونا عليه لا له (نعتبر حروب الاستئصال الموجهة ضد حركات الإسلام السياسي جزءا من مكائد هذه الطبقة لتفكيك كل احتمال تحالف شعبي ضدها). من هنا تسرب المشروع الديمقراطي من بين أصابع المؤمنين بالتغيير كما يتسرب الماء، ومن هنا فشل مشروع إعادة تأسيس الاستقلال والسيادة، وهو ما يجعلنا نلخص (رغم ما على الأصابع من كلام):
لقد كشف الربيع أن الديمقراطية صنو الاستقلال ووسيلته، والاستقلال قاعدة الديمقراطية إذ لا تبنى الديمقراطية (وهذا الدرس الأبلغ) في وضع التبعية والإلحاق الاقتصادي، وأنه في غياب مشروع سياسي واقتصادي تحرري جامع يستعيد لحظة التحرر الوطني من الاستعمار المباشر بضرب قاعدته الاقتصادية العميلة وينطلق بالربط بين الاستقلال والسيادة وبناء الديمقراطية؛ فإن كل نضالات دون هذا السقف هي عمليات إصلاح منظومات فاسدة ومفسدة تلتهم معارضيها الفاقدين لكل مشروع تأسيس.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: