شخصية قيس سعيد "عنيدة" لا تقبل تنازلا ولا تراجعا ولا اعترافا بخطأ، وهي أيضا شخصية صِدامية لا تتردد في مهاجمة الجميع في نفس الوقت وفي كيل التهم وإطلاق الشتائم والسباب، حتى بلغ به الأمر قذف قاضيات محصنات في شرفهن لتبرير إقدامه على عزل 57 قاضيا دفعة واحدة، دون ملفات ولا أحكام قضائية ولا إعطاء فرصة لضحاياه كي يدافعوا عن أنفسهم.
هذه الشخصية العنيدة الصدامية، نفر منها الجميع وتبرأ منها كثير ممن كانوا مساندين لها ليلة الانقلاب، وهو الآن يخوض "حوارا" مع من لا تمثيلية شعبية لهم ولا رمزية تاريخية أو نضالية أو معنوية. ولعل أكبر ضربة تلقاها الانقلاب بعد موقف الرئيس الجزائري وتقرير لجنة البندقية، هي مقاطعة الشغل لأي حوار ينطلق من مسلّمات ونتائج مسبقة. وقد عبر أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي عن موقف مبدئي قوي وشجاع، وأعلن بوضوح عن استعداد منظمة حشاد لخوض معركة مع من يريد إخضاعه وإذلاله.
جبهة الخلاص الوطني بقيادة المناضل نجيب الشابي تخوض تحركات ميدانية في الجهات، خمسة أحزاب يسارية أعلنت عن تكوين جبهة لمنع استفتاء مغشوش يريده قيس سعيد لصناعة امر واقع وتمرير "مشروعه" الهلامي الشعبوي، القضاة يستعدون لإضراب لأسبوع في مختلف محاكم البلاد مع إمكانية التمديد وملوحين باعتصامات في مقرات هياكلهم، حركة النهضة (أكبر حزب سياسي) بدأت سلسلة تحركات ميدانية في الجهات.. كل هذه المواقف والتحركات الداخلية متظافرة مع مواقف خارجية، آخرها موقف الخارجية الأمريكية، تجعل قيس سعيد يشعر بأن عزلته تشتد وبأن الخناق يضيّق عليه، وهي وضعية تتطلب -منطقيا- وقفة تأمل وعملية مراجعة للخطوات السابقة بغاية تجاوز الأخطاء والبحث عن مسالك للخروج من الأزمة، غير أن البنية النفسية والذهنية لشخصية قيس سعيد لا تتيح ذلك، بل تجعله يهرب إلى الأمام باتجاه مزيد التأزيم والتعقيد.
مراقبون للمشهد ينتظرون أن "يأذن" قيس سعيد باعتقال قادة سياسيين من الصف الاول -كما عبر عنه الأستاذ نجيب الشابي في آخر ندوة صحفية- والمقصود طبعا هم قادة من حركة النهضة تحديدا، وقد تكون التهمة كيدية متعلقة بالاغتيالات السياسية وبما يعرف إعلاميا بـ"الجهاز السري".
اجتماع سعيد عدة مرات بوزيرة العدل ووزير الداخلية كان للضغط عليهما كي يقوما باعتقالات ضد خصومه، وحين لم يجد الاستجابة لأهوائه ذهب خطوة إلى الأمام بعزل قضاة رفضوا أن يكونوا أنيابا ومخالب للانقلاب، وهو إذ يحاول تخويف القضاة فإنما يريد جعلهم ينقادون إلى رغباته فيصدرون أحكاما ضد من يعتبرهم خصوما وأعداء، ولكنه يُصدم بأن الجسم القضائي في غالبيته معافى شريف يرفض أن يكون أداة بيد سلطة ليس لها أفق ولا حظوظ بقاء.
إذا عجز قيس سعيد عن تحقيق أهدافه الخاصة بالطرائق الناعمة المتخفية بالقانون والشرعية والمشروعية وإرادة الشعب، فليس مستبعدا لجوؤه الى أساليب سيئة لتغفين المشهد وإدخال البلاد في منطقة الفوضى، حيث تكون أساليب العنف "مبررة"، وحيث يكون سعيد "منتصرا" أو "شهيدا" وهو ما يردده دائما.
"الانتصار" و"الشهادة" مفردتان من قاموس المعارك والحروب، حيث يقف صاحبها في وضعية قتالية قبالة عدو حقيقي أو متخيّل، وحيث لا يكون حوار ولا سلام ولا اعتراف بل قاتل وقتيل.
منع انزلاق سعيد بالبلاد منزلقات كارثية هو أولوية وطنية تتحملها القوى السياسية والثقافية والنقابية والاعلامية والقضائية، حتى لا تأخذنا "شهوة فرد" نحو "هاوية للجميع".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: