يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تدرك قيادات الشارع الديمقراطي أنّ الرئيس التونسي قيس سعيّد بقي وحده، لكن لا يهمها من بقي مع سعيّد بقدر ما يعنيها من بقي مع الديمقراطية، فليس كلّ من خالف سعيّد نصيرًا للديمقراطية، ذلك أنّ القوى التي تنفضّ من حول سعيّد لأسباب مختلفة هي التي كانت مهدت له أهم شروط الانقلاب وسبل نجاحه.
وفي هذا السياق من المهم التمييز بين موقف الاتحاد العام التونسي للشغل من سعيّد وموقفه من الانقلاب، فالاتحاد وسائر القوى الوظيفية التي رضيت بسقف الانقلاب ومازالت تستظل به تنفضّ اليوم من حول قيس سعيّد لأنّها فشلت في أن تجعل منه "السيسي 2". وهذا مضمون اعتبارها 25 جويلية حدثًا وطنيًّا.
معادلة يجب أن تُكسر
لم يعد بإمكان اتحاد الشغل أن يخفي وقوعه بين مشروع قيس سعيّد الكلياني المهدّد والشارع الديمقراطي المتوثّب ولا طموحه إلى افتكاك زمام المبادرة بالتلويح بأمرين: جبهة سياسية موازية وتحرّك ميداني منافس لشارع ديمقراطي يصعب تخطّيه دون المسارعة إلى تغيير عنوان المعركة الذي ترسّخ (انقلاب/ديمقراطية) برغم محاولات الانقلاب تغييره (تصحيح مسار/منظومة فاسدة). وهذا ما بدا من تصريحات قيادات الاتحاد من خلال التلويح بالإضراب العام وتبنّي عنوان المعركة الذي أراده سعيّد وفشل فيه.
بعد 10 أشهر من مواجهة الانقلاب وحزامه من القوى الوظيفية (نقابية متحزبة، ديمقراطية متنكرة، فاشية متحولة) أدركت قيادات الشارع الديمقراطي أنّ الانقلاب استوعب الحركة الميدانية وأمكن له، بعد أن أربكته في خروجها الأول إلى الشارع، وانتبهت إلى نجاحه في استيعاب وقفاتها الاحتجاجيّة وتطويقها بواسطة الأجهزة رغم اتساعها المطّرد ومحاصرتها في المكان والزمان (يُعْلِم المتظاهرون بمكان وقفاتهم وبتوقيتها) وبهرسلة الجموع القادمة إلى العاصمة. ومنع كلّ حركة احتجاج في المكان (قمع حركة المتظاهرين داخل شارع محمد الخامس حين تحركوا باتجاه شارع الثورة) حتى لا تنفتح على الشارع الاجتماعي الرازح تحت أثقال الأزمة المالية الاقتصادية الطاحنة، والتصدي العنيف لوصول الحشود إلى ساحة المؤسسة الأصلية بباردو فصرنا أمام حركة دوريّة ومن ثمّ معادلة يتحكم بها الانقلاب وهو يدرك أنه لا شارع له وأن الانقلاب لا تحميه سوى الأجهزة التي يبدو أنّها تعاملت مع سعيّد لا باعتباره منقلبًا وإنما بما هو سلطة أمر واقع تمسك بأعلى مؤسسات الدولة. وهذا ما يفسّر وقوفها عند استهداف الحريات المتدرّج وهرسلة الشارع الديمقراطي بالاختطاف ومحاكمة النشطاء واعتقال المدوّنين والإحالة على القضاء العسكري.
هذا الوعي من قبل الحراك المواطني المواجه للانقلاب تَكثّفَ في جملة ترسم المهمّة القادمة هي "كسر الطوق المضروب على الشارع الديمقراطي".
رؤية سياسية نافذة
هذا الوضع دفع بالشارع الديمقراطي وقياداته السياسية إلى الاتجاه مستقبلًا إلى هزّ هذه المعادلة في ثلاثة اتجاهات: كسر الطوق المضروب حول الشارع الديمقراطي وفتحه على الشارع الاجتماعي والشعبي بأن تتحوّل وقفاته إلى حركة في المكان (مسيرات)، وتوسيع المواجهة إلى الجهات لتَخْرُج من المجال السياسي الرسمي بديمقراطيته التمثيلية المنقلب عليها باتجاه المجال السياسي في الداخل بديمقراطيته التشاركية الكامنة (جمنة نموذجًا).
في اتجاه الشارع الديمقراطي إلى الداخل استعادة لسيرة الانتفاض المواطني الذي أسقط نظام الاستبداد وسلّم العهدة إلى الطبقة السياسيّة بالمركز في القصبة 2 وعاد إلى مواقعه في الداخل، غير أنّ الطبقة السياسية التقليدية لم تكن يومها على وعي بحقيقة الانقسام الذي تعرفه البلاد بسبب مركزية الدولة الموروثة عن البايات والاستعمار الفرنسي ودولة الاستقلال وعجزها عن تغطيّة كل مجالها الثقافي والاجتماعي، فاكتفت باحتضان صنيعتها المجتمع المدني وتركت المجتمع الأهلي (الهامش) للعراء.
والهامش رغم ما استقرّ من أدبيّات تطابقه بـ"الداخل" فإنّه في معناه الواسع "مستوى معيشي" يشهد عليه تجاور أحياء الفساد البرجوازي في قمّرت والأحياء القصديريّة في بوسلسلة، وتشهد عليه أرياف الساحل المفقّرة (بعض البلدات في ريف المهديّة والمنستير). وهو ما ينطق بتهافت اختزال الانقسام في ثنائيّة ساحل/داخل رغم إشارتها الفعليّة إلى سياسة التمييز بين الجهات. فالمركز والهامش "مستويَي معيشة" يشهدان على جهويّة الدولة (=مركزيّتها).
كان منتظرًا أن يتمفصل بناء الديمقراطية مع الوعي بضرورة تجاوز الانقسام ورأب الصدع ببعديه الهووي (الإيديولوجي) ببناء "مشترك وطني"، والاجتماعي بتنمية مستدامة وشاملة. لكن الطبقة السياسيّة في المجال السياسي الرسمي ولا سيما قواها الحيّة نشأت في ظل نظام الاستبداد على خطاب المعارضة بما هي مطالبة. ومثّل المنصف المرزوقي بخطابه السياسي استثناءً وخرقًا لهذا السائد. فهو رغم انتمائه الاجتماعي إلى المجال السياسي الرسمي وطبقته السياسيّة إلاّ أنّ خطابه في مواجهة الاستبداد كان يصل إلى المجال السياسي في الهامش. وهو صاحب الجملة السياسيّة "لا يصلح ولا يصلح" والتي كانت أساس الخروج من خطاب المعارضة إلى خطاب المقاومة ومن المطالبة إلى المغالبة. وهل كان الانتفاض المواطني إلا مقاومة مواطنيّة وعصيانًا مدنيًّا.
شروط وحدة البلاد
حركة النهضة التي تغطّي بامتدادها السياسي المركز والهامش يبدو أنّها لم تكن تعي حقيقة الانقسام، وكانت ضحيّته فانجرّت إلى منافسة القديم في مجاله التاريخي (المركز)، فمال رأسها (القيادة ومحيطها في المركز والجهات) يمينًا وبقي جسمها مراوحًا بين موقعه في وسط الحركة الاجتماعيّة و"اليسار الاجتماعي" الكامن فيها إذ لا يسار، في تقديرنا، خارج الثقافة الوطنيّة وهي الثقافة العربيّة الإسلاميّة. وأمّا "يسار الفكر"(جلّ اليسار الماركسي) فقد رضي بموقعه في أقصى يمين الحركة السياسيّة والاجتماعيّة حيث تتشابك يدا النائبين عبير موسي والمنجي الرحوي. فالمشهد السياسي الاجتماعي في المجال السياسي الرسمي، مثلما أسلفنا، وسَطٌ بلا يسار.
وبعد أن استقرّ مشهد الديمقراطية التمثيلية في عشرية الانتقال في المجال السياسي الرسمي (لعب في نصف الميدان)، كان سعيّد بخطابه الشعبوي الجهة الوحيدة، بعد انحسار تجربة الدكتور المرزوقي وانكفائها، المنافسة للشارع الديمقراطي في الهامش المفقّر. وهو الشارع المنتبه، تحت صدمة الانقلاب، إلى أنّ جوهر المشروع الوطني يكون بتوحيد البلاد على قاعدة الديمقراطية وذلك لإعادة بناء الدولة لكي تغطّي مجاليها الثقافي والاجتماعي وتكتسب صفة الوطنيّة عن جدارة ولأوّل مرّة تاريخها الممتدّ.
الانقلاب لا يعارَض. الانقلاب يقاوم، لأنّه لا يمنح مناهضيه إلاّ أسلوبًا واحدًا هو المقاومة. وهذا ما كان من شأن الشارع الديمقراطي معه، فمن خلال مقاومة الانقلاب يكتشف حقيقة الانقسام. ولعلّه من مظاهر الوعي الكامن فيه أن كانت نواة "مواطنون ضد الانقلاب" الأولى تحمل بذرة "المشترك الوطني" أحد أهمّ شروط الانتقال الديمقراطي ونجاحه فجمعت بين الإسلامي واليساري والعروبي والليبرالي والمستقل إيديولوجيًّا. ومثلما جمعهم الدفاع عن شروط الديمقراطية والنقد الجذري لسنوات الانتقال العشر، كانوا انتبهوا، بعد ،2011 إلى أنّهم بصدد التحوّل من "المشروع الإيديولوجي" إلى "المشروع الديمقراطي".
حقيقة الانقسام والانتباه إلى شروط توحيد البلاد أعادت الوعي بجلّ القوى وأدوارها ومن بينها اتّحاد الشغل وتبيّن أساس مواقفه من الثورة والديمقراطيّة. وهي مواقف غير منفصلة عن طبيعته وعن السياقات التي ظهر فيها. فاتحاد الشغل نشأ في منتصف أربعينيّات القرن الماضي وكان امتدادًا للعمل النقابي وظهوره المبكّر في تونس العشرينيات. وهو ما مكّنه من أن يكون في مرحلة متقدّمة قاطرة الحركة الوطنيّة. ولنا أن نزعم أنّ الحركة الوطنيّة نشأت في سياق الحركة النقابيّة (أطروحة). فكان الوعي بالاضطهاد الاجتماعي والطبقي في الحاضرة منفذًا إلى الوعي الوطني. مثلما كانت الثقافة الأهليّة في الهامش وشكل انتظامها الأفقي منفذًا إلى الوعي بظلم المركز (دولة البايات والاستعمار) وما يفرضه من انتظام عمودي مفسد للهويّة السياسيّة. وهو ما يسمح بتبيّن فارق مهمّ بين المقاومة القبليّة للاستعمار الفرنسي التي كانت من خارج ثقافة المستعمر (مجتمع مضادّ للدولة) في حين كانت مقاومة الحركة الوطنيّة للمستعمر من داخل ثقافته (ثقافة الدولة: مفهوم الحزب، الجمعيّة، النادي...)، وهو ما انعكس على طبيعتها وضعف إدراكها للمسألة الوطنيّة والتحرير. حتى أنّ مطلب الاستقلال تأخّر، ولم يكن بالوضوح الكافي عند زعماء مثل عبد العزيز الثعالبي.
صياغة مشهد ما بعد الانقلاب
مثّلت لحظة حشّاد منعرجًا مهمًّا. فقد انبنى مشروعه على صهر المدني (المركز) والأهلي (الهامش) في النقابي. ولعلّ جرْدًا في هويّة مؤسسي العمل النقابي ورموزه يفصح عن أنّ جلّهم (ونكاد نقول كلّهم) من الهامش (محمد علي الحامي، بلقاسم القناوي، فرحات حشاد، عاشور، أحمد التليلي...الخ). وكان اغتيال حشاد اغتيالًا لهذا المشروع الوطني التوحيدي. فكان لتغييبه الأثر الكبير على علاقة النقابي بالوطني، وأفضى إلى رُجْحان الكفّة لصالح شق الحركة الوطنية القريب من فرنسا. وصار العمل النقابي من روافد الحركة الوطنيّة بقيادة بورقيبة. ومع دولة الاستقلال صار الاتحاد جزءًا من النظام السياسي، ومع نظام بن علي صار مكوّنًا من السيستام. وهذا ما تجلّى في موقفه من الثورة والديمقراطيّة وما لعبه من دور مضادّ لبنائهما واستقرارهما.
وحتّى إذا سلمنا بانتماء الاتحاد إلى المجتمع المدني فإنّ "المجتمع المدني التونسي" نفسه كان صنيعة الدولة ومن ثمّ لا يغطّي المجتمع الأهلي. وكانت علاقته محكومة بدرجة حضور المجتمع الأهلي (الهامش). فعندما يضعف الهامش وتنتفي احتجاجاته تتوتّر علاقة الدولة بمجتمعها المدني (26 جانفي 78)، وعندما يشتدّ انتفاض الهامش ينحاز إلى الدولة وسيستامها. وهذا ما لوحظ في الثورة وفي عشريّة الانتقال الديمقراطي.
ومن هذا المنطلق سيكون لتجاوز الانقسام المضاعف دور أيضًا في رأب الصدع بين المدني والأهلي وبناء المجتمع المدني التونسي الجديد. وهو ما سيكون شرطًا لعمل نقابي وطني هو في جوهره استعادة للحظة حشّاد. دون ذلك سيبقى الاتحاد العام التونسي للشغل جزءًا من المركز/السيستام ولرهاناته السياسيّة والاجتماعيّة ومناهضًا للديمقراطيّة باعتبارها السبيل الوحيد لتوحيد تونس.
في هذا السياق، تُفهم حركة الشارع الديمقراطي في مواجهة الانقلاب وروافده من القديم السياسي وروافده في المال والأعمال والإعلام. ويتبيّن أنّ إزاحة الانقلاب مقدّمة لإعادة بناء المشهد السياسي. وهذا ما سيجعل من مرحلة ما بعد الانقلاب معركة من أشرس المعارك بين قوى الانقسام (السيستام وروافده الإعلاميّة والنقابية والحزبية) وقوى التوحيد الاجتماعي والثقافي. وإذا كان المشهد السياسي قد صِيغَ عشيّة سقوط نظام الاستبداد بشروط القديم والقوى الوظيفيّة، وهو ما كان من أسباب إجهاض تجربة التأسيس وتعثّر الانتقال إلى الديمقراطيّة. فإنّه سيكون للشارع الديمقراطي دور فاعل في شروط صياغة المشهد السياسي القادم، ونحن ندخل إلى مرحلة ما بعد سعيّد. وبحضور هذا الشارع الديمقراطي الفاعل ومدّه الجماهيري المتواسع ستكون إزاحة سعيّد إسقاطًا للانقلاب.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: