نُجمّع معطيات متناثرة دون مصادر استخباراتية، ونحدس أن نسق الأحداث في تونس تسارع في اتجاه حسم أمر الانقلاب، ولا قدرة لنا على تحديد الساعة الصفر لأن ذلك يدخل في الدروشة السياسية. في الخطين المتوازيين (لنقل المتضادين) نراقب السرعات ونجزم بأن احتمالات التحاور مع الانقلاب قد انتهت تماما، وما تبقى في باب الاحتمالات هو ترتيب مخارج للانقلاب دون دماء، فانتصاره الحاسم فيدخل أيضا في باب الدروشة. الدماء تخيف التونسيين الشفوقين على وطنهم ومستقبل أولادهم، رغم صراعات بينية حادة تشعر المتابع أن الحرب الأهلية ستندلع بعد ساعة. هذا بلد التوافقات.
تمايز الخطوط السياسية
خط الانقلاب أعلن الخطوات المتبقية من خارطة طريقه بعد الاستشارة، ويمرّ إلى طرح مسودة دستوره ثم تنظيم الاستفتاء عليه (بعد أن عدل الهيئة الانتخابية على هواه) ثم تهيئة الانتخابات في آخر السنة.
نلاحظ أن دائرة المساندين للرئيس تتقلص بسرعة فينفضّ عنه كثيرون، وبعضهم انقلب عليه مسافة 180 درجة. وكان أنصاره قد خجلوا من الظهور في الشارع يوم الثامن من أيار/ مايو 2022. ما زلنا لا ندري بدقة جوهر موقف المؤسسة العسكرية التي يستند إليه، ومتى يمكن أن تظهر مؤشرات تغيير في الموقف داخل الجيش. ولكننا على يقين بأن احتمال عسكرة الشارع من أجل الانقلاب احتمال ضعيف؛ لأن هذه العسكرة ستنقل كل الكارثة الاجتماعية على كتف الجيش (هذا ليس الجيش المصري) وتجعله في مواجهة شارع متأزم وغاضب ومحبط.
خط المعارضة (خط جبهة الإنقاذ) نقل التحركات إلى الجهات ووجد جمهورا متحفزا، وسمعنا تصعيدا في الخطاب يصل إلى طلب محاكمة المنقلب (وهناك طلبات تفاوض حماسية على الانضمام إلى جبهة الخلاص). بالتوازي مع إعلانات نخبوية رافضة لمشروع الرئيس، لكن الحدثين الأبرز هما تصدي اتحاد الفلاحيين لمحاولة اختراقه وتطويعه، ورفض اتحاد الشغل للدخول تحت سقف الحوار بنتائج معلومة لا توليه مكانة الشريك أو حقوقه، فضلا عن سماع بيانات تململ داخل رابطة حقوق الإنسان ترفض الحوار مع الرئيس.
أما المعارضات اللاحقة (المطرودة من حمى الانقلاب) فقد دخلت منطقة المزايدة على المعارضة الجدية، وبياناتها تحولت إلى إعلان براءة وتوبة من الانقلاب (خاصة بيان حزب التيار الذي سبق أن خطط للانقلاب). بقيت في مشهد الإسناد حزيبات مجهرية سبق لبعضها أن عرض نفسه على الناس في انتخابات 2019 وباء بفشل مخجل، لكن الحدثين الأبرز هما ما يمكن تسميته بتنمر المنظمات المهنية.
المنظمات المهنية تتنمر
قام الانقلاب بمحاولة اختراق غير قانونية وغير أخلاقية (بوسائل غير ديمقراطية) لمنظمة الفلاحين، فجنّد من مكتبها التنفيذي نفرين قادا انقلابا من الداخل مستعينين بمليشيا، لكن سرعان ما قامت الهيئة القانونية للمنظمة بعملية التفاف قانوني بنصاب فاق الثلثين وأعلنت نهاية الانقلاب داخلها، وكرست قيادتها المنتخبة حتى المؤتمر القانوني القادم.
شكل الانقلاب في منظمة الفلاحين كشفا آخر لنية الرئيس المنقلب ولوسائله غير القانونية تجاه المنظمة(ات)، كما قدم دليلا على رفض شعبي وقطاعي عميق لهذه السياسات. تكلم البعض عن صفعة مدوية تلقاها الانقلاب من الفلاحين أظهرت قلة مناصريه في المنظمات، وعجزه عن توظيف القوة العامة في خدمته غير القانونية، لذلك صمت حتى الآن صمت القبور على الصفعة، لكن الصفعة ظلت تدوي في الساحة السياسية ونظن أن صداها قد بلغ إلى الاتحاد العام التونسي للشغل؛ المساند الحقيقي للانقلاب بل ربما كان صاحبه من الباطن.
فرغم أن النقابة كانت خلف الانقلاب واتخذت مواقف موالية وانتظرت خيرا، إلا أنها طمحت أن تكون شريكا بقسط كامل في خطة التسيير القادمة، لكن رفض الرئيس لكل شريك واستفراده المطلق بالقيادة جعل النقابة تتراجع وتتخذ موقفا متحفظا حتى الآن. وكان من بعض أسباب رفضها خشيتها من مقارنة شعبية مع نقابة الفلاحين؛ لأن المزاج الشعبي صار مقروءا بسهولة ويتجه إلى مخالفة الانقلاب في كل ما يشرع وما ينوي تنفيذه (والنقابة تملك أدوات تحسس).
نتحسس تغيرا عميقا في الموقف الدولي من الانقلاب
لا نعزل موقف النقابة وتلددها في إسناد الانقلاب بمعزل عن علاقة المنظمة (الخاصة جدا) بقوى خارجها، ونعني دولة فرنسا التي منحت النقابة جائزة نوبل. ونعتقد جازمين أن فرنسا تتحسس المزاج الشعبي في تونس (ولها وسائلها الخاصة للسبر) ولا تريد لنصيرها أو بالأصح أداتها في الداخل (النقابة) أن تظل بمعزل عن التيار المعارض، بما سهل علينا القول إننا نتجه إلى مرحلة التخطيط لما بعد الانقلاب (وهذه مرحلة تحديد الأقساط أو توزيع الكراسي).
لا يمكن تجاهل الموقف الجزائري الذي تحسسه الكثير في إغلاق الحدود وصمت الهواتف بين الرئيسين، خاصة بعد زيادة تبون لتركيا وتوسيع نطاق التبادل التجاري، ووراء كل تجارة توافقات سياسية. ونذكر أن الموقف التركي لا ينظر إلى الانقلاب بعين الرضا، فضلا على أن تقارب الموقف التركي والجزائري من الملف الليبي يسير بخلاف موقف الانقلاب، وهذه الخطوط تلتقي كلها في عزل الانقلاب عن محيطه القريب ومحيطه الدولي. وعندما نضيف إلى هذا إعلان السفارة الأمريكية (على غير جاري العادة) استقدام فرقة مارينز لحماية السفارة، نجد سببا لارتفاع نبرة خطاب المعارضة الديمقراطية ونسق الهروب من حول الانقلاب وتنمر المنظمات.
الجميع يتساءل عن اللحظة الحاسمة
هذا اللحظة لا تملك المعارضة حتى الآن تحديدها كما لا يملكها الانقلاب، وربما سنقول بعد حدوثها أن قد حُددت خارج الوطن وأمرت جهات داخلية بالتنفيذ. هل نقول إن مفتاح اللحظة الحاسمة بيد المؤسسة العسكرية متى غيرت بندقيتها بين الكتفين؟ هذا معطى رئيسي ومؤثر، لكننا لا نملك المعلومة عما يجري داخل أسوار الثكنات.
المؤسسة العسكرية نفسها وكما نقرأ أدوارها منذ الثورة لا تريد أن تحكم بشكل مباشر، ولا يمكنها أن تسلّم الدولة إلى فراغ ما بعد الانقلاب، أي كأنها تقول للمعارضة أعطونا وسيلة حكم مقبولة نحمي بها الدولة. وقد يكون داخلها من يرغب في حماية الانقلاب (المؤسسة العسكرية لم تسم حراك 25 تموز/ يوليو انقلابا) لأنها لم تصدر بيانا سياسيا أبدا. تحتاج المؤسسة العسكرية إلى بديل مدني لم يتخذ بعد شكله النهائي (وهذا سبب رئيسي في تأخر الساعة الصفر). الكرة عند جبهة الخلاص أولا.
اللحظة الحاسمة قريبة (المفرطون في التفاؤل يقربونها لصالح المعارضة) دون حدث عن صفقات. إن تسريع الانقلاب لما تبقى من فقرات خارطة طريقه أخاف الكثيرين، وضيق هامش مناورة الطامعين في فيء الانقلاب، وفقدت الغالبية المطلقة كل ثقة في حل يأتي من الرئيس وهم يرونه يعمل على تغيير هيئة الدولة ومؤسساتها ورموزها التي أجمع عليها الناس منذ الاستقلال (الجميع يقولون لا قدرة للرئيس على المناورة).
متى؟ إنه صيف سياسي ساخن رغم أن التوانسة لن يضحوا بموسم البحر والبطيخ حتى لو نقلوا ليلا.
سنتحدث قريبا عن صفقة الراعي والذئب في اتجاه حد أدنى من الديمقراطية تحت سقوف السفارات. اليقين التاريخي والثقافي أن احتمال الدم سيخرج البلد من الخريطة، ولن يحسب أحد من الباقين بعد الدم مكاسب من أي نوع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: