موجة عداء ضد فرنسا تجتاح إفريقيا.. هل يتكرَّر سيناريو مالي في تشاد؟
عائد عميرة المشاهدات: 925
قبل نحو سنة من الآن، فقدت فرنسا أحد أبرز حلفائها في القارة الأفريقية، رئيس جمهورية تشاد إدريس ديبي، الذي مات متأثرًا بجروح أُصيب بها في أثناء وجوده في ساحة المعارك مع متمردين شمال البلاد، حينها سارع ماكرون إلى التحرك وتقديم الدعم القوي لنجل ديبي حتى يتولى الحكم، رغم معارضة ذلك مع دستور تشاد.
لم يُعِر الرئيس الفرنسي أي اهتمام لدستور تشاد ولا للمعارضة هناك، ولا للاتحاد الأفريقي الذي أصرَّ على ضرورة احترام دستور البلاد وانتقال السلطة بطريقة سلمية إلى رئيس البرلمان والمدنيين، فالمهم عند ماكرون في ذلك الوقت الحفاظ على مصالحه، حتى إن ساهمت في فرض الاستبداد في هذا البلد ومنع الشعب هناك من فرصة تاريخية لانتقال ديمقراطي، بعد أن عانى من ويلات حكم ديبي لـ 3 عقود من الديكتاتورية.
استقرَّ الأمر لفرنسا لبعض الوقت، لكن عدة تطورات وأحداث تبرز انتكاسة جديدة لباريس في القارة الأفريقية، فبعد مالي تحوّل الغضب الشعبي من الممارسات الفرنسية إلى تشاد، فخرجت المظاهرات المندِّدة بالحضور الفرنسي في البلاد.
مناهضة فرنسا
شهد عدد من مدن وبلدات تشاد، من بينها العاصمة إنجامينا، نهاية الأسبوع الماضي، احتجاجات شعبية عارمة، دعت لها في وقت سابق تكتلات معارضة، من أجل التنديد بالنفوذ الفرنسي في البلاد والمطالبة بإنهاء ما أسموه "الاستعمار الفرنسي المستمر".
ودعت إلى الاحتجاج "منصة المجتمع المدني المعارضة - تنسيقية واكيت تاما (حان الوقت)"، رفضًا للوجود الفرنسي في تشاد، واستنكارًا لمساندة باريس للمجلس العسكري الانتقالي الذي استولى على السلطة، بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي خلال زيارته جبهة القتال في أبريل/ نيسان 2021.
احترق العلم الفرنسي تحت صرخات ما يقارب الألف شخص تجمّعوا في شوارع العاصمة، مردّدين شعارات مناهضة للوجود الفرنسي في هذا البلد الأفريقي، من بينها "فرنسا ارحلي" و"لا للاستعمار"، ما يؤكد تنامي الغضب الشعبي من باريس.
تسبّب الاستياء من القوة الاستعمارية السابقة في أعمال عنف وفوضى، إذ حطّم متظاهرون النصب التذكاري للجنود الفرنسيين أمام القنصلية الفرنسية، كما تمَّ تخريب 7 محطات وقود تابعة لمجموعة توتال النفطية التي تُعتبر رمزًا لفرنسا، واقتلعوا مضخات واستولوا على بعض المنتجات المعروضة.
حماية الانقلابيين
يعود سبب رفض سكان تشاد الوجود الفرنسي في بلادهم إلى الدعم الكبير الذي تقدّمه باريس لنظام ديبي الابن، بعد استيلائه على الحكم مباشرة عقب إعلان وفاة والده، وكان محمد إدريس ديبي حتى وقت وفاة والده يتولّى قيادة الحرس الرئاسي وحماية النظام والحكومة والجمعية الوطنية.
رغم أن دستور تشاد ينصُّ على أن يتولى رئيس البرلمان رئاسة البلاد مؤقتًا عند وفاة الرئيس أو عجزه عن أداء مهامه، وتجرى انتخابات رئاسية جديدة خلال 45 يومًا على الأقل و90 على الأكثر من تاريخ الشغور، وهو ما تمَّ اعتباره انقلابًا على دستور البلاد، فقد تولّى ديبي الابن الحكمَ بمساعدة من فرنسا بدعوة الحفاظ على "استقرار" حليف باريس الاستراتيجي في المنطقة.
وجاء الدعم الفرنسي لديبي خشية أن تخسر باريس إنجامينا لصالح قوى إقليمية أخرى تنازعها النفوذ في المنطقة على رأسها روسيا، وتُعتبر دولة فرنسا الاستعمارية الفاعل الأبرز في مجريات الأحداث في هذه الدولة الأفريقية، فهي التي تديرُ الأمور في مستعمرتها السابقة وتتحكّم في الجيش وأجهزة الدولة وقصر الحكم وحتى المعارضة، بما يتوافق مع مصالحها.
تأتي المظاهرات الحالية تنديدًا بمواصلة دعم باريس لنظام ديبي، الأمر الذي من شأنه أن يفوِّت الفرصة على التشاديين للتخلُّص من الديكتاتورية وفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد، ترتكز على الديمقراطية وحكم القانون والمؤسسات.
وحتى يضمن الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي إيتنو دعم فرنسا، أعلن نهاية فبراير/ شباط الماضي عزم بلاده زيادة عدد عناصرها المشاركة في قوة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في مالي، وجاء ذلك بعد 3 أيام من إعلان فرنسا وشركائها الأوروبيين سحب جنودهم من هذا البلد.
ويُعتبر جيش تشاد إحدى ركائز مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وتعدّ القوة التشادية من أولى البعثات العسكرية المشاركة في قوة مينوسما التي يقدَّر عددها بنحو 15 ألف عنصر، كما تعدّ إنجامينا مركز القيادة المركزية لقوة "برخان" الفرنسية لمكافحة الإرهاب في المنطقة، حيث يتمركز هناك نحو 1000 جندي، إلى جانب عدد من طائرات ميراج المقاتلة البالغة نحو 2000 طائرة، لذلك تصرُّ باريس على دعم نظام الحكم في تشاد.
يرى المشاركون في هذه المظاهرات أن فرنسا تحمي المجلس العسكري في تشاد، وتساهم بقوة في مواصلة تحكُّمه بالمشهد السياسي في البلاد، رغم ادّعاء حرصها على ضرورة الحوار والمصالحة بين مختلف الأطراف هناك.
تحذّر حركات المعارضة التشادية من انهيار الحوار التمهيدي الذي يجرى في الدوحة مع المجلس العسكري الانتقالي "الحكومة التشادية"، محمّلة الحكومة المسؤولية عن العواقب التي قد تنجم عن أي انهيار للمفاوضات الجارية، أو استبعاد الحركات السياسية والعسكرية من الحوار الوطني الذي لم يعد شاملًا.
ويمهّد الحوار بين المجلس العسكري الانتقالي والحركات السياسية والعسكرية المسلحة، الذي انطلق منتصف مارس/ آذار الماضي برعاية قطرية في الدوحة، لتحقيق المصالحة الوطنية في البلاد، والتداول السلمي للسلطة، وإنهاء حقبة من الصراعات التي امتدت لسنوات، إلا أن المعارضة تشكّك في نوايا المجلس الانتقالي.
مأزق فرنسي في أفريقيا
تعالي صوت الغضب التشادي ضد الوجود الفرنسي في البلاد، هو جزء من غضب عام تواجهه باريس في عدد من الدول الأفريقية في الفترة الأخيرة، على خلفية اتهامات بالتدخل في شؤون البلدان ودعم الأنظمة الاستبدادية.
تذكّرنا هذه الاحتجاجات الشعبية المناوئة للوجود الفرنسي في تشاد، بما يحصل في مالي من مظاهرات احتجاجية تشارك فيها فئات شعبية مختلفة تنديدًا بالحضور الفرنسي في بلادها، وقد تمَّ في تلك المظاهرات أيضًا حرق علم فرنسا.
تؤكد هذه المظاهرات المأزق الكبير الذي وقعت فيه فرنسا في عدة بلدان أفريقية، فإضافة إلى مالي وتشاد تواجه فرنسا رفضًا كبيرًا في بوركينافاسو وأفريقيا الوسطى وليبيا والجزائر، نظرًا إلى سياستها الاستعمارية الهادفة إلى التحكم في قرار الدول الأفريقية السيادي ونهب ثرواتها.
تُظهِر عدة معطيات سعي شعوب الدول الأفريقية وبعض قادتها للابتعاد عن فرنسا، والاتجاه نحو تحالفات جديدة على غرار تركيا وروسيا التي تسعى لتعزيز نفوذها ومكانتها السياسية في منطقة الساحل والصحراء لعدة أسباب، منها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني.
وتتطلّع بعض الدول الأفريقية التي سبق أن وقّعت اتفاقيات دفاعية مع فرنسا، كالكاميرون والنيجر ونيجيريا ومالي وموريتانيا، إلى توقيع اتفاقيات دفاعية -أو وقّعت فعليًّا- مع كل من روسيا وتركيا، خاصة أن هاتين الدولتَين تُعرفان بإنتاجهما لأسلحة متطورة بأثمان رخيصة مقارنة بالأسلحة الفرنسية.
هذه الأزمات الخارجية المتتالية في أفريقيا من شأنها أن تضعف الجبهة الداخلية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية ولايته الرئاسية الثانية، خاصة أن الدبلوماسية الفرنسية تشهد أحلك فتراتها في التاريخ المعاصر.
--------
وقع تغيير العنوان الاصلي للمقال
محرر بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: