تسبح تونس اليوم في مستنقع التسريبات والتسريبات المضادة من داخل الحلقة الضيّقة للحكم وتحديدا في قصر قرطاج حيث صاغ هذا المكان وهندسَ على مدار أكثر من نصف قرن توجهات السياسة التونسية داخليا وخارجيا. لا يختلف اثنان في أنّ القصبة حيث رئاسة الحكومة وكذا مجلس نواب الشعب في باردو لم يكونا طوال تاريخها سوى أبواق تردد صدى ما ينطق به الحاكم في قصر قرطاج نسجا على منوال كل مركز الحكم والقرار في بلادنا وفي أحزمة الاستبداد الممتدة على طول خارطة القمع العربية.
لم ينجح قوس الثورات في إسقاط سلطة الفرد الواحد ولم يتمكّن من وضع أسس حكم تعدّديّ رشيد بل بقيت المنطقة رهينة قرار الفرد الحاكم بأمره والذي تفضّل القوى الغربية التعامل معه لتُلغي كل إرادة شعبية وكل قدرة على التحرر واستعادة سيادة الأوطان.
كانت السنوات العشر التي تسميها أذرع الثورة المضادة "العشرية السوداء" الاستثناء الوحيد في آليات الممارسة السياسية وفي لامركزية القرار السيادي في الدولة وهي المدّة التي لم تدم طويلا قبل أن يسترجع قرطاج كل السلطات ويعود الاستبداد حاكما من جديد وإن بأقنعة جديدة.
الاستبداد وحكم العائلة
لن نبالغ في القول بأنّ جوهر النظام الاستبدادي يقوم على سلطة الفرد الأوحد الذي يحكم ويملك ويقّرر. فهو الرئيس والحكومة والبرلمان يجمع بين يديه السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ويسيطر من خلالها على الإعلام والأمن والجيش والإدارة والمجتمع وحتى الثقافة والفن والتعليم باعتبارها أدوات الحكم الناعمة.
هكذا حُكمت تونس تحت إمرة بورقيبة وجماعته من الساحل وهكذا أديرت البلاد في عهد بن علي وأهل زوجته وهكذا تدار اليوم في عهد الانقلاب. لم يتغيّر شيء كأنّ الثورة لم تمرّ من هنا وكأن الشعب لم يقدّم من التضحيات والشهداء ما يفتح عليه أبواب الحكم الرشيد ويسمح له ببناء دولة المؤسسات بدل دولة الفرد والعائلة.
تسريبات تونس اليوم من داخل الدائرة الضيقة في قصر قرطاج لا تختلف عن التسريبات التي كانت تعيش على وقعها تونس حين استبدت عائلة زوجة الرئيس بالحكم في آخر سنوات بن علي وهي لا تختلف كذلك كثيرا عن الفضائح التي كانت تتسرّب من حين لآخر أيام حكم الزعيم والمجاهد الأكبر بورقيبة. لكنّ ما جعل الموجة التسريبات الأخيرة تأخذ طابعا فضائحيا صادما كونها تأتي في سياق ما بعد ثوري معزّز بقدرة الوسائط الاجتماعية على الانتشار مع رئيس انتخب على أساس نظافة اليد ومبدأ القطع مع حكم العائلة.
الأخطر من كل ذلك أنّ الدولة تتحوّل بسرعة كبيرة إلى ساحة مفتوحة للغنائم والامتيازات والمناصب والترقيات دون اعتبار لأهمّ مقاييس التوظيف والتعيين وهما الكفاءة والنزاهة. بل تتحوّل القرابة والمصاهرة والصداقة إلى المقياس الوحيد الذي يسمح لصاحبه أو صاحبته بولوج دائرة السلطة والحكم. هكذا يعشش الفساد والسطو والنهب المقنّن على مفاصل الدولة فتغيب سلطة القانون ويتفاقم الظلم حتى تنهار الدولة من الداخل وهو ما حدث في تونس منذ أكذوبة الاستقلال في منتصف الخمسينات.
أخطاء الثورة القاتلة
كانت ثورة تونس فرصة ذهبية لتصحيح هذا الخلل الهيكلي الخطير في بناء السلطة السياسية وهو الذي أغرق البلاد في دوامة الفساد والتخلّف والفقر وألقى بملايين العائلات في أتون الخصاصة والعوز. لكن النخب التي تسلّمت السلطة بعد الثورة ارتكبت خطأ قاتلا حين اختارت النظام البرلماني الرئاسي المعدّل بدل وضع أسس نظام برلماني مطلق ينسف أحلام كل الطامعين في عودة حكم الفرد عبر بوّابة قرطاج. كان الحقوقي الثوري منصف المرزوقي أوّل من طالب بصلاحيات رئاسية حتى لا يكون رئيسا صوريا للبلاد فنال حقيبتي الدفاع والخارجية وهي الحقائب التي ستقضي على الثورة وستفتح باب الانقلاب بعد سنوات قليلة.
ساعد القانون الانتخابي الهش في عودة المنظومة القديم بعد فشل تمرير قانون تحصين الثورة وتسللت إلى البرلمان وإلى مفاصل الدولة كل العناصر التي طالب التونسيون بمحاكمتها. لم تكوَّن المحكمة الدستورية للبت في دستورية القوانين ولا نجحت القوى الثورية في تطهير قطاع الإعلام والأمن والقضاء رغم النجاحات القليلة التي تحققت لكنها لم تكن كافية لمنع عودة منظومات القمع والفساد.
كان الجيل الذي أمسك بمقاليد الحكم من المناضلين القدامى طوباويا حالما لأنه كان يعتقد جازما بأنّ قوى الردّة الثورية قد رحلت إلى غير رجعة وأن العودة إلى مربّع الاستبداد مستحيلة. ارتكب هذا الجيل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ثلاثة خطايا لا تغتفر في حق الثورة وفي حقّ الشعب:
كشفت الجماعة عن نهم مريع للسلطة التي حرمهم بورقيبة وبن علي من ألَقِها طوال عقود طويلة دون أن يحمل أي منهم مشروعا حقيقيا للانتقال الديمقراطي بل اكتفوا بالشعبوية الفارغة والطهورية الخبيثة والشعارات الجوفاء من الإسلامية إلى الحقوقية إلى العمالية إلى القومية ... وهي المقولات التي تعتبر سمّا زعافا في المسارات المابعد ثورية. كانت السلطة ملقاة على قارعة الطريق وصار كلّ متسلّق يرى نفسه رئيسا أو وزيرا أو سفيرا وكانت التعيينات من وزراء وسفراء وولاة ومعتمدين تتم أحيانا في المقاهي والنزل ولم يكن أحد يدري أنها كانت مصيدة.
تحركت آلة الولاءات والمصاهرات ومنطق " الشلّة " و "الجماعة" و " الإخوة " و "الرفاق " بمنطق جهوي أو وظيفي أو طبقي لتعيد البلاد إلى المربع الذي خرجت منه. حضر المفوّهون والشعراء والخطباء والبلغاء والمفكرون والدكاترة والحقوقيون والعلماء والأدباء وغاب المهندسون ورجال الاقتصاد وخبراء المالية والفلاحون والشباب من أصحاب الأرض.
جلب هذا الجيل أخطر أنواع الطاعون لينسف به كل آمال استقرار المسار حين استدعى صراعاته القديمة في أروقة الجامعة التونسية خلال الثمانينات والسبعينات فعادت ناقة البسوس تسعى في أروقة الحكم. فهذا إسلامي والآخر يساري وذاك سلفي والآخر قومي وما بينهما لبرالي ... ولم يكن أحد منهم كذلك بل كان أصلا تجاريا وخيمة يأوي تحتها احتماء من سهام المعركة. كان الجميع يجمع الحطب لنار الثورة المضادة دون أن يعلم أن هذه النار ستحرقه وتحرق البلاد أيضا.
نخب العار وورم الرئاسة
عند "المثقف" العربي نزوعٌ مرضيّ للرئاسة والزعامة والبطولات الجوفاء لكنه ليس مطلبا ذاتيا يقوم على وعي بكفاءة الفرد قدرةً وحكمة وبصيرة وخبرة بل هو يختزل رغبة محمومة في التسلط والهيمنة والاستبداد واستعباد الآخرين. لم تعرف منطقة في الأرض أنكى جراحا مما خلفه الزعيم العربي من ملك ملوك افريقا والزعيم الخالد والمجاهد الأكبر مرورا بصقر العروبة وسيد المقاومة ورجل التغيير.
الزعيم الأوحد والبطل الخارق جينةُ سرطانية عافاكم الله استبدت في بلاد العرب وطبعت أطوار الاستبداد التي لا نزال نعيش أحلك أيامها اليوم. كل الخراب الذي نراه في العراق وسوريا واليمن وتونس وليبيا ومصر ... إنما سببها وهم الزعامة وطاعون الرئاسة. أنا ربكم الأعلى ولا ربّ لكم غيري : هكذا ينطق الحاكم العربي في السرّ والعلن وسط تصفيق المتسلقين والمنتفعين من نخب العار وكلاب الحراسة على حدّ تعبير "بول نيزان".
لكن الكارثة أنّ هذا الورم شديد العدوى فقد أصاب كل النخب العربية التي ترى فيما يراه النائم أنها أحقّ بالرئاسة والزعامة من غيرها لذا استنسخت في المعارضة سلوك السلطة وتحوّل المعارض العربي إلى طاغية جديد ينتظر فرصة الانقضاض على السلطة. من كان يصدّق مثلا أنّ رئيس تونس اليوم الذي جمع كل السلطات بين يده وأقصى كل معارضيه هو نفسه الذي كان يرفع شعار قدسية الدستور وضرورة الفصل بين السلطات؟
صحيح أيضا أنّ الرئيس الفرنسي لو توفرت له ظروف المنطقة العربية لصار زعيما طاغية وهو احتمال وارد وإن كان مستبعدا لكنه لا يستطيع ذلك أمام قوّة مؤسسات الدولة ونشاط مجتمعاتها المدنية وتيقظ نخبها. هذا هو الفارق بين الديمقراطيات العريقة والديمقراطيات الناشئة أو المسارات الانتقالية كما هو الحال في تونس أو في بقية بعض الدول العربية. إن غياب المؤسسات وضعف المجتمع المدني وتواطؤ النخب هو الذي عجّل بالنهايات المأساوية للثورات العربية وهو الذي سهّل العودة إلى مربّع الاستبداد تحت دخان الفوضى والحرائق الاجتماعية المفتعلة.
لن يكون ممكنا الخروج من حالة الاحتباس السياسي والعجز الاجتماعي والوهن الحضاري في تونس وفي بقية البلاد العربية دون القطع مع أجيال ونخب تربّت على فكرة الهيمنة وعلى ثقافة التفرّد بالقرار والرأي. وهو الأمر الذي لن يكون ممكنا على المدى القصير بل يحتاج إلى تغيير عميق في الثقافة والتعليم والعقيدة لينشأ جيل جديد يُدرك أنّ بناء الأمم لا يكون بالفرد بل بالجماعة وأنّ صناعة الأصنام وعبادتها مؤذنة بخراب العمران.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: