ردد أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد في تصريحات متعددة قبل فوزه برئاسة تونس وحتى بعدها بقليل، بأن عائلته لن تتدخل في السياسة، كما تعهد في أكثر من مرة أنه لن يشغل أقاربه وأصهاره في قصر قرطاج، ولن يسعى لتمتيعهم بامتيازات.
صحيح أنه لم يعين أحدًا من العائلة بصفة رسمية في الدولة، لكن الظاهر أن أفرادًا من العائلة أصبحوا المتحكمين في القصر ولهم تأثير كبير في الشأن العام واتخاذ القرارات، فقد غزوا الحياة السياسية في تونس ولم يكتفوا بالتدخل في الكواليس ومن وراء ستار.
عائلة سعيد
تحدثنا قبل سنتين عن تدخل عائلة قيس سعيد في اتخاذ القرار وسعي شقيقه نوفل لتصدر المشهد في ظل ضعف مستشاري قرطاج واختيار الرئيس التواري عن الأنظار وعدم الحديث لوسائل الإعلام بسبب عدائه للإعلام وخوفًا منه أيضًا.
كل من كان يريد معرفة موقف الرئيس من مسألة ما كان عليه الاتصال بنوفل وسؤاله عنها، فمواقف قيس يصرح بها شقيقه رغم أن لا منصب رسمي له، فحتى ليلة انتصار سعيد بالرئاسة على حساب نبيل القروي تحدث شقيقه مطولًا في الإعلام، في الوقت الذي غاب فيه هو وخيم عليه الصمت لوقت طويل.
الجديد الآن أن ما سبق أن تحدثنا عنه من تحكم العائلة في صنع القرار، أكدته جهات من داخل قصر الحكم نفسه، وأكدته وقائع عديدة جديدة لا يمكن لأحد إنكارها ونفي صحتها، ما جعل مؤسسة الرئاسة تسكت ولا تبدي أي تعليق عن الأمر.
شغلت التسجيلات الصوتية المسربة والمنسوبة لنادية عكاشة المديرة السابقة لديوان الرئيس قيس سعيد، الرأي العام التونسي، لما كشفته من حقائق تخص ما يحدث في "الغرف المظلمة" لقصر قرطاج، منذ وصول قيس سعيد للحكم.
كشفت التسريبات المنسوبة لمديرة ديوان سعيد السابقة، التي توجد حاليًّا في باريس، تفاصيل خاصة وحساسة تتعلق بحياة الرئيس التونسي وعلاقته برؤساء دول وسفراء وتدخل محيطه العائلي في القرارات السياسية.
أكدت عكاشة التي توصف بصندوق أسرار سعيد ومهندسة انقلاب 25 يوليو/تموز، كيفية تدخل عائلة الرئيس وزوجته في اتخاذ القرار ورسم خيارات الحكم رغم أن لا أحد من العائلة يحمل صفة رسمية وتحدثت عن وقائع ملموسة في هذا الخصوص.
تشغل زوجة قيس سعيد، إشراف شبيل، منصب قاضية وقد أسندت لها مهمة صناعة أذرع داخل القضاء، وتستعين في هذه المهمة بالقاضية ليلى جفال التي تقلدت منصب وزيرة أملاك الدولة في مرحلة أولى ثم وزيرة للعدل في حكومة نجلاء بودن، مستغلة بعض الملفات التي بحوزتهما وتورط بعض القضاة الفاسدين بهدف ابتزازهم.
وفيما لم تعرف حتى كتابة هذه الأسطر الجهة التي سربت المحادثات الخاصة المنسوبة لمديرة ديوان الرئاسة السابقة، أعلنت النيابة العامة في تونس فتح تحقيق وإجراء الاختبارات الفنية بخصوص محتوى التسجيلات الصوتية المنسوبة لها.
سيطرة على القرار
حديث نادية عكاشة أكد سيطرة عائلة الرئيس على مقاليد الحكم في تونس، حتى إن استقالتها أو إقالتها من قرطاج بداية السنة الحاليّة تمت بإيعاز من العائلة وجناحها الموجود في قرطاج الذي يمثله وزير الداخلية رضا شرف الدين.
وفي نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، غادرت نادية عكاشة قصر قرطاج، وهي التي كانت تُوصف بـ"ظل الرئيس ومستودع أسراره والحاكم الرسمي لقرطاج والصندوق الأسود للقصر"، فهي أقرب مستشار لسعيد وأكثر من يثق به منهم، فكل التعاملات مع سعيد كانت تجري تقريبًا من خلالها.
ويتزعم وزير الداخلية الحاليّ وصديق الرئيس والمشرف على حملته الانتخابية في جهة سوسة، رضا شرف الدين، شق العائلة الذي يضم زوجة الرئيس إشراف شبيل وشقيقها عاتكة وابنه بعد أن تم إقصاء شقيقه نوفل سعيد الذي توارى عن الأنظار منذ أشهر الانقلاب.
منح وزير الداخلية الضوء الأخضر في كل تحركاته واعتماد قيس سعيد شبه الكلي عليه - يظهر ذلك في الزيارات المتكررة للرئيس لوزارة الداخلية والترقيات المتتالية في صفوف الأمنيين - يؤكد أن العائلة مسيطرة كليًا على قصر قرطاج، بعد استبعاد أغلب المناوئين لها في القصر.
بناءً على ذلك، تم إقصاء العديد من المسؤولين في الدولة من أمنيين ومدنيين واستبدالهم بمسؤولين جدد موالين للعائلة دون شرط الكفاءة حتى تضمن زوجة الرئيس وجماعتها السيطرة على دواليب الحكم وعدم الاعتراض على قراراتهم وتحركاتهم.
أثبت هذا الأمر أن عائلة الرئيس تعمل جاهدة للتأثير المباشر في الحكم بدلًا من البقاء على الهامش وخلف الستار، وهو ما يعني أن تونس مقبلة على فترة تشابه ما عرفته البلاد إبان حكم زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة وسيطرة العائلات على سلطة القرار.
تجارب مريرة
عاش التونسيون خلال عقود مضت قبل الثورة وبعدها تجارب مريرة وذكريات مؤلمة تتعلق بسطوة عائلات الرئيس على الحكم وتدخل الأقارب في مقاليد الرئاسة، بدءًا من عائلة الحبيب بورقيبة مرورًا بعائلة زين العابدين بن علي وأصهاره وصولًا إلى عائلة الباجي قائد السبسي.
في زمن الحبيب بورقيبة، كانت زوجته الثانية، وسيلة بن عمار الملقبة بـ"الماجدة" تتدخل في عمل الحكومة والرئاسة، فكانت تعين وتعزل المسؤولين وتقرر باسم الرئيس، دون أن يعارضها أحد ومن يعارضها مآله السجن.
لعبت وسيلة بن عمار دورًا كبيرًا في الحياة السياسية التونسية، فكانت وراء تنصيب عدد كبير من الوزراء وفي إزاحة آخرين، من ذلك أنها ساهمت في الإطاحة بالوزير أحمد بن صالح عام 1969 وحالت دون تسمية محمد الصياح وزيرًا أول عام 1980، وكانت وراء تسمية محمد مزالي لهذا المنصب، لكنها ما لبثت أن انقلبت عليه هو الآخر بعد ذلك.
مجيء بن علي للحكم في نوفمبر/تشرين الثاني 1987، مهد لعائلة زوجته التحكم في كل شيء، إذ تكررت تجربة وسيلة مع ليلى بن علي وعائلتها، فقد أحكموا سيطرتهم على قصر قرطاج والقصبة وباردو، يعينون ويعزلون كما يشاؤون، ويتحكمون في الاقتصاد وفي العمل المدني والجمعياتي أيضًا، لم يتركوا شيئًا إلا وغزوه.
أخضعت عائلة بن علي وعائلة زوجته "الطرابلسية" مؤسسات الدولة لإمرتهم وسلطانهم، وعبثوا بالقانون والمؤسسة التشريعية، ولعبوا بالقضاء والمؤسسة الأمنية، فقتلوا العشرات وشردوا المئات واعتقلوا الآلاف، كل ذلك حتى يخلو لهم طريق التحكم في تونس.
تكررت التجربة سنة 2014، حين عمل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي على تكريس حكم العائلة وحاشيته المقربة، وحاول تثبيت حكم ابنه حافظ وفرض وصايته على الدولة ومؤسساتها، مستهينًا بالشعب الذي ثار ضد بن علي وإدارته، لكنه لم يُفلح في ذلك.
قلق ومخاوف
ما فتئ قيس سعيد مند توليه الحكم يحاول الظهور في ثوب الزاهد الصالح والمناهض للفساد، لكن شيئًا فشيئًا تبين زيف الشعارات وأظهرت الحقائق أن الرئيس بصدد إعادة أسوأ ما عرفته تونس خلال الأنظمة الديكتاتورية التي عرفتها بعد الاستقلال.
انقلب قيس سعيد على الدستور وعلى مؤسسات الدولة الشرعية وأقحم الجيش والشرطة في صراع سياسي لا دخل لهم فيه، واستغل المساجد لبث خطاب التقسيم والتخوين واستغل وباء كورونا للنيل من قيادات الدولة، والآن يؤسس لحكم العائلة.
يتوجب على المعارضة التونسية، وعموم الفاعلين السياسيين المعارضين للانقلاب، ولحكم الفرد والعائلة؛ توحيد صفوفهم والاتفاق على خارطة طريق تعود بتونس خطوة إلى الوراء ليكون ممكنًا لها استعادة عافيتها للمضي قدمًا إلى دولة الديمقراطية والعدالة وحكم القانون.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: